رواية عشق لا يضاهى بقلم الكاتبة أسماء حميدة الفصل 101(كاملة بدون إعلانات) ظافر وسيرين

عشق لا يضاهى

الفصل 101

كان صوت المطر ينهمر على النوافذ كأن السماء تبكي عن وجعٍ لا يحتمل كالذي يضيق به صدر سيرين، كل قطرة تهوى كانت كطلقةٍ صامتة فوق زجاج الزمن.

وفي الداخل، كانت الغرفة تموج بصمتٍ أثقل من الضجيج… صمتٌ يسبق نشوب العاصفة.

تقدّم ظافر خطوة وعيناه تتقدان بغضبٍ متوهّج كجمرةٍ نُفخت فيها رياح الخيانة وقال بصوتٍ مكتوم وهو يشير إلى جرة الرماد بعد أن تجمدت يده في الهواء كابحاً رغبته في إسقاطها أرضاً:

“هل تُسلّيكِ هذه اللعبة؟ ألعلّها من دروس كارم؟”

جحظت عينا سيرين ولم يكن السبب عتابه وحده بل ذاك الصوت البعيد… خافتٌ كهمس شبحٍ في العتمة.

هديرٌ انبعث من أعماق المطر وكأن الندم نفسه قد قرر أن يتكلم، فتوقفت عن التظاهر وسقط قناع النسيان عن ملامحها كورقة خريفٍ مُنهكة، فلم يعد يهمها الآن الاستمرار بكذبة فقدان الذاكرة تلك، هناك ما هو أهم “نوح”، فتمتمت بخفوت:

“كل ما أردته… أن أدفن ماضينا وأبدأ من جديد.”

قهقه ظافر لكن ضحكته كانت أشبه بصفعة صوتية تلطم وجهها بالحقيقة، فانقض يشد على معصمها حتى شعرت أن عظامها تئن، واقترب منها حتى كادت أنفاسه أن تقتحم صدرها.

تلاشى المرح المصطنع عن وجهه وخبت ضحكته الساخرة ليحل محلها شيء آخر أكثر رعباً، يقول من بين شفاهه المزمومة وهو يجز على أنيابه گـ ليث جريح تكالبت عليه الضباع:

“وداع الماضي يكون بالموت الزائف؟ هل راودكِ مجرد خاطرٍ بما قد أشعر به؟”

خفتت كلماته الأخيرة وتهدجت أنفاسه وهو يمدّ يده الأخرى، يتلمس خدّها الذي تسرب إليه السقيع بالرغم من تعرق جبينها فارتعشت.

مال إلى جانب مسامعها يسألها بصوت احتارت في تفسير نبرته، أهو سؤال أم رغبة في زيادة رهبتها:

“أأنتِ خائفة؟”

عضّت على شفتيها حتى استشعرت مذاق ملوحة عبراتها وآهة ألم خرجت من بين شفاهها كانت كتشييع جنازة انكسار الروح، ولم تدري إلا وجسدها يخر عند قدميه، تتمتم بكلمات لا تعي مدى خطورتها:

“أتوسّل إليك ظافر… أعد لي ابني. إنه ليس ابنك… إنه ابني، ابني أنا وكارم… أرجوك… نوح لا ذنب له.”

حين نطق لسانها تلك الكلمات بدا وكأن زلزالاً عنيفًا ضرب عقل ظافر.

جحظت عيناه واهتزّ كيانه وقبضت كلا راحتيه على ذراعيها بعنفٍ، يزأر بصوت جهوري:

“إن لم تخنّي ذاكرتي… فلم يمضِ شهران على طلبك للطلاق مني… أنا ظافر نصران… قبل أن ترتمي بين ذراعي كارم، أليس كذلك؟”

ابتلعت سيرين ريقها بصعوبة لكن ظافر تابع بنبرة تقطر سُمًّا:

“تقعين في غرامه… ثم تمثلين موتكِ لأجله؟ وماذا عن طفلي؟”

عيناه اشتعلتا كأن الدم ذاته قرر أن يغلي في عروقه وراح يضغط على ذراعيها المكبلين كأنّه يريد أن يُسقط العقوبة من كفّه.

شعرت سيرين بأن عظام يدها على وشك التفتت… لكنها كانت تحتمل ففقدان يدٍ، أهون من فقدان نوح.

قالت بصوتٍ خفيض:

“ألم أقل لك من قبل؟ لقد فقدت الطفل…”

أغمضت عينيها لوهلة ثم تابعت بنبرة اختلط فيها الوجع بالكذب، فقد أرادت أن تشعره بالذنب كما كان يذيقها مرارة القسوة:

“نسيت يا ظافر نصران… أجل بالطبع نسيت… في تلك الليلة، الليلة الثانية التي اخترت فيها أن تقتل كل شيء… كنتُ حاملاً…. مارستَ معي الحب، أو ربما شيئًا يشبهه وعلى ما يبدو أنك كنتَ تعرف بحملي ومع ذلك… قتلتَه بيديك.”

صمتت لحظة، كانت كافية لتحرق العالم بأكمله… عرفت أنها تغرز سكينًا في صدره لكنها فعلت لأن نوح يستحق أن يُعاد إلى النور.

ارتجف وجه ظافر وبدت بنظراته الحسرة وكأنها دفعت به من ارتفاع شاهق فخُلع منه كل يقينٍ واغتسل بالذهول، يقول بوجع كمن يرغب في أن يفيق من كابوس كاد أن يزهق روحه:

“كرري ما قولتِه مرةً أخرى.”

صوت ظافر لم يكن طلبًا… كان تهديدًا يخرج من جوف بركانٍ لا زال يزمجر.

“كرري ما قولتِه مرةً أخرى”، نطقها وكأنه ينتزعها من بين أضلاعه وكأن الحقيقة لا تكتمل ما لم تخرج من فمها مرتين كالشهادة الأخيرة قبل الإعدام.

رفعت سيرين عينيها إليه ببطء، كانت نظرتها مشبعةً بالخذلان… لا خذلان امرأة خُذلت فحسب بل خذلان أمّ لم تجد طريقًا إلى الرحمة في قلب من كان يومًا ملاذها.

قالت بصوتها المجروح:

“نعم… قتلتَه دون أن تدري… كنتُ أحتضن طفلك بين أحشائي، وأنت… نزعتَه مني بيدك… لا بعنف قبضتك بل بعنفك الأعمى، بجنونك الذي لا يعرف سوى السيطرة.”

تراجع خطوة كأن الكلمات صفعته على وجهه.

تهاوى في داخله شيء… شيء قديم، ربما إنسانيته أو ما تبقى منها.

حدّق فيها طويلًا كأنّه يراها للمرة الأولى… لم تعد سيرين التي عرفها بل مرآةٌ لحماقاته، صفحةٌ تُسجَّل فيها خطاياه بحبرٍ لا يُمحى.

“كنتِ… حاملاً؟” همس ولم يكن ينتظر إجابة.

كان يسأل الزمن، يسأل نفسه، يسأل ذلك الرجل الذي كان داخله ذات يوم ولم يعد.

قالت سيرين وهي تتنفس كأن كل نفس هو معركة:

“نوح ليس بديلًا… ليس تعويضًا عن ذنبك وليس سلاحًا أنتزعه منك إنه فقط… طفلي، ومهما زُرعت فيك من كراهية لن أسمح لك أن تنزع روحي من صدري مرة أخرى.”

سقطت ذراعه عن جسدها ببطء كأن كل شيء داخله قد انهار دفعة واحدة.

نظراته لم تعد تُمسك بها بل صارت تائهة كمن يبحث عن ضوءٍ في مدينة مطفأة.

اقترب منها خطوة لكنها لم تتراجع… كانت تشبه الآن مقاتلةً جريحةً ترفض السقوط.

مدّ يده، ليس ليؤذي بل كأنّه يستجدي اللمس ليوقظ ضميره.

“لم أكن أعلم…” تمتم بها لكن صوته كان كأنّه يُقال في جنازة.

أجابته بعينين مغرورقتين دون أن يرمش قلبها:

“الجهل لا يُبرّئك… ولا يُعيد لي ما سُلب، إن كنت تبحث عن الخلاص فأعد لي نوح. فقط نوح.”

في تلك اللحظة بدا وجه ظافر شاحبًا كقمرٍ مغبش خلف الغيوم وجسده كتمثالٍ فقد معناه.

كان يعلم أن المعركة لم تعد بينه وبينها… بل بينه وبين نفسه.

“ماذا تفعل ظافر؟! لم تقف هكذا؟! اعد لي ابني؟!” صرخت سيرين بصوت مرتجف كوترٍ مشدود على وشك الانفجار، ونظراتها تتشبث بتفاصيل وجهه كأنها تبحث فيه عن بقايا رجلٍ عرفته يومًا ولكنها لم تجد سوى ظلالٍ تتنازعها العتمة والجنون.

كان واقفًا أمامها جسده صلب كصخرة لكن داخله كان أشبه بعاصفة عاتية تُخبّئ الخراب خلف هدوءٍ زائف.

صوته خرج باردًا كالنصل تقطّر منه المرارة:

“أتظنينني أبتلعت هراءكِ؟ كيف أُصدّق كاذبةً بارعة تخون الكلمة ثم تبكي بدموعها كأنها لم تفعل؟!”

انسكبت دموع سيرين كنبعٍ مكسور لكن تلك الدموع لم تكن رجاءً بل كانت جنازةً صامتة لأملٍ مات قبل أن يولد.

كانت ترجوه في أعماقها أن يتوقف… أن يستفيق ضميره من غيبوبته الطويلة لكنها أيقنت الآن أنه لا يملك ضميرًا ليُوقظ.

قالتها وهي تشهق وجعها:

“أنا أكرهك…”

توقف للحظة وكأن الكلمة اخترقت صدره كسهم لكن كبرياءه حال بينه وبين الانهيار.

لم يجب. لم يتراجع. بل تابع اقترابه منها، خطواته كإيقاع جنازةٍ لا أحد يحضرها إلا القاتل والقتيلة.

بدأت سيرين تقاوم ولكن يديها كانتا أضعف من أن تصدا إعصارًا.

“ما الخطب؟” سخر بصوتٍ تكسّرت فيه كل الرحمة، “كارم يلمسكِ، أما أنا… فلا؟ نحن لا نزال زوجين شرعيين، أليس كذلك؟ ألا يُعطيني ذلك الحق؟”

كانت الكلمات كالسياط تنهال فوق ظهر كرامتها.

وفي لحظة كفّت عن المقاومة كأنها خرجت من جسدها، وحدّقت في السقف بعيونٍ فارغة كنافذةٍ أُغلقت للأبد.

همست، وكأنها تحدث نفسها:

“متى اعترفت بي كزوجة؟ لم أكن يومًا سوى قطعة أثاث في عالمك. ظافر… لقد صرتَ قاسيًا لدرجةٍ تجعل الصخر يلين مقارنةً بك…”

توقف ظافر عند كلماتها، وتغير شيء ما في ملامحه.

اقترب ببطء، ووضع كفه على خدها لا كعاشق بل كمُذنبٍ يلامس أثر جريمته.

ثم قال بنبرة خافتة متوجّسة:

“لماذا عدتِ بعد أن اخترتِ الهرب؟ ما الذي دفعكِ للمشاركة في مشروع نصران رغم علمكِ أنني فيه؟”

لم تُجبه، لم تكن تسمع.

مرّت ثوانٍ ثقيلة كالأبدية وفجأة اخترق الصمت صوتٌ لا يُحتمل… رنين، متواصل، حاد، كأن عقلها انفصل عن الواقع ومن ثم شعرت بشيء دافئ يسيل على خدّها يتبع مسار دمعةٍ هاربة، وعلى ما يبدو أن ظافر هو الآخر قد أحس بملمس شيء غريب فرفع يده عن وجهها… وإذا بأصابعه ملطخة بلون قرمزي… “دم”، تمتم ظافر برعب، ونظره انسحب إلى أذنها اليمنى التي كانت تنزف.

في تلك اللحظة تلاشت كل الأصوات، كل الكلمات… صار الزمن مجرّد مشهدٍ صامت…. يداه ترتجفان… وعيناه تائهتان.

هل كانت يده هي التي جرحتها؟
أم كان النزيف قادمًا من أعمق نقطة فيها… من قلبٍ لم يعُد يحتمل الصراخ؟

“اللعنة!” تفجّرت الكلمة من فم ظافر كطلقةٍ هاربة من زناد الانفعال وهو يطوّق جسد سيرين بذراعيه المرتجفتين يحملها وكأنها قطعة من روحه يخشى أن تسقط وتتبعثر على الأرض.

كانت خفيفة… خفيفة كأنها على وشك التلاشي.

هبط بها مسرعًا إلى المرآب تحت الأرض حيث احتضنها مقعد السيارة وانطلقت العجلات على الأسفلت كأنها تفر من قدرٍ غامض.

ظلّ الظلام يبتلع المدينة، والمطر يهمس فوق الزجاج الأمامي بأن شيئًا غير مألوف يوشك أن يقع.

وهناك خلف مقعد السائق، ظافر بعينين تتقدان بالقلق، لم ينطق بكلمة… أصابعه تقبض على المقود بقوة وكأنها تستجديه أن يسرع أكثر، أن يسبق المصير.

“ظافر… إلى أين تأخذني؟” همست سيرين بصوتٍ بالكاد يسمع كمن يحاول الإمساك بالخيط الأخير من الوعي… لكنها فقدته قبل أن تسمع الجواب، إذ انسحب صوتها إلى العدم وسقطت جفونها كستارةٍ أُسدلَت في نهاية عرضٍ مأساوي.

في عتمة المستشفى حين لا يسمع سوى صرير العجلات وصدى الخطى المذعورة، وقف الطبيب يراجع ملفّها الطبي بأعينٍ متشككة.

وفي ضوء المصباح الأبيض الباهت بدت الأوراق كخرائط للوجع تحمل بين سطورها تاريخًا من النزف والكتمان.

وبعد دقائق من الفحص وإيقاف النزيف، قال الطبيب لظافر بنبرة حيادية تخفي وراءها دهشة طبية:

“يبدو أن الأمر ليس طارئًا تمامًا. إنها تعاني من هشاشة في الأوعية السمعية. أذناها تختلفان في تكوينهما قليلًا عن الطبيعي، مما يجعلها عرضة للنزيف عند أي مجهود زائد… لقد وصفنا لها بعض الأدوية، ويجب أن ترتاح تمامًا.”

تركه الطبيب ومضى بينما عاد ظافر إلى غرفة المشفى بخطواتٍ ثقيلة تجر ذنبًا لا يُغتفر.

جلس إلى جوارها يتأمل ملامحها التي صارت الآن شاحبة كضوء قمرٍ يحتضر خلف الغيوم.

كانت مستلقية هناك، بلا صوت، بلا حركة، سوى خفقات خفيفة تصعد وتنخفض مع حركة صدرها.

عيناها حين فُتحتا كانتا خاليتين من أي وهج كأنهما لا تنظران إلى شيءٍ في هذا العالم أو كمن فقد البصر.

انحنى نحوها كمن يعترف بخطأ لم يجرؤ على تسميته:

“لماذا لم تخبريني أنكِ مريضة؟ لماذا تحملين هذا وحدك؟”

لم تُجبه بل أدارت وجهها عنه ببطءٍ يشبه انسحاب موجة عن شاطئٍ جاف وقالت بصوتٍ خافت كأنّه صادر من بئر بعيدة:

“أين نوح؟”

ردّ وصوته يحمل تعنتاً كريهًا رغم محاولته إخفاءه:

“أخبرتكِ أنه في مكانٍ آمن… ما دمتِ تطيعين أوامري، فسيبقى بخير.”

تقلّصت عيناها وكأن كلماته نخرت قلبها من الداخل.

“لا أفهمك…” قالت وقد شق الألم نبرتها، “لماذا تفعل هذا؟ أنت لا تحبني… لم تحبني يومًا. فلماذا تصر على حبسي في قصرك؟”

أغمض ظافر عينيه للحظة ثم فتحهما ببطء بينما لاحت فيهما ومضة نار قديمة، نار لم تخمد بعد، وإن كانت رمادًا في ظاهرها.

وقال بصوتٍ يحمل مزيجاً من القسوة والضعف:

“لأنكِ مدينة لي بمدينة كاملة من الذكريات، من الخيانة، من الدماء التي نزفت في غيابك.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top