الفصل 103
لم تعد سيرين تقوى على احتماله… ضاق صدرها بصوته، بكلماته التي باتت تتسلل إليها كإبرٍ صامتة تخدش كرامتها.
وفجأة ارتفعت يدها بضربة حاسمة حتى سُمع صوت ارتطام أدوات المائدة على الطاولة كصرخة غضب مكتومة ومن ثم قالت بنبرة تحمل من البرود ما يكفي لتجميد الحجرة:
“شبعت.”
نهضت كأنما تفرّ من جحيم داخلي وخطت خطواتها الأولى نحو الرحيل بينما ظل ظافر للحظة حائرًا كطفل لم يفهم لماذا أُغلق الباب في وجهه.
لكن حين ارتفعت خطواتها وغابت عنها ملامح التردد، استيقظ داخله شيء ما فنهض على الفور كأنما التقطته موجة ندمٍ مباغتة ومدّ يده ليقبض على معصمها… قبضته لم تكن قاسية لكنها كانت ملحّة كأنها تقول: “لا ترحلي بعد.”
“ما الذي أغضبكِ؟” سأل وصوته يحمل مزيجًا من الدهشة والقلق.
سحبت يدها من بين أنامله كما تُسحب ورقة من بين شفرتين وقالت بنبرة جارحة مغمورة لهيب السخرية:
“غاضبة؟! لستُ غاضبة سيد نصران… أنت محق تمامًا كما عهدتك… أنا وصديقتي كما قلت مجرد هواة… ولهذا فقط استطاع رجالك أن يلقوا بها خلف القضبان ليومٍ كامل.”
كانت الغضبة تتوهج في عينيها كجمرٍ لم يُطفأ بعد، تتحدث وكأنها تتقيأ خيبة أملها دفعة واحدة، تتكلم لا لتشرح بل لتجرح.
أدرك ظافر حينها أن عليه أن يُنزِل كبرياءه عن عرشه… أن يتخلّى عن درعه الحديدي ليتكلم بلغة البشر لا بلغة الصفحات القانونية.
“لم أكن أعلم أن المحامي الذي ذكرتْه دينا هو صديقتكِ…” قالها بصوت أشبه بهمسة خجولة كأنها اعتراف متأخر على بوابة الندم.
استمعت له بصمتٍ يشبه السكون الذي يسبق العاصفة… لم تقاطعه لكنها لم تُظهر شيئًا يوحي بالغفران.
شيء في عينيها أوقعه في حيرة لم يعرف لها مخرجًا… لم يكن يعرف أي كلمات ترقّع هذا الشرخ لكنه حاول.
“أخبِريني فقط… كيف أعوّضها؟ هل ترغبين أن أطلب من أحدهم الاعتذار لها؟”
كان في صوته رجاء لا يليق برجل مثله… رجل اعتاد أن يأمر فيُطاع، لكن هذه المرأة وحدها استطاعت أن تدمر قواعده.
تملّكت الدهشة وجه سيرين إذ لم تكن تتوقع في أبعد أحلامها أن يتراجع ظافر حتى هذا الحد لكن قبل أن تتشكل الإجابة على شفتيها انتابته نوبة سعالٌ مكتوم تزامناً مع صوتٌ مألوف شق أجواء الغرفة جاء من جهة الباب.
كان ماهر واقفًا هناك وملامح وجهه تختصر الدهشة والارتباك كمن دخل مشهدًا لا يفترض به أن يكون جزءًا منه.
في اللحظة نفسها شدّ التوتر خيوطه حول ظافر كعنكبوتٍ غاضب واستدار إليه بسؤالٍ ناريّ:
“لماذا لا تزال هنا؟”
أجاب ماهر محاولًا الحفاظ على ما تبقى من وقار:
“سيد نصران، جئت فقط لأتأكد إن كنت تحتاج إلى شيء آخر.”
كان يقف هناك وكأن الأرض ضاقت به وكأن الهواء أثقل من أن يُستنشَق.
في الماضي كانت سيرين هي من تدير كل شؤونه الخاصة، كل التفاصيل الصغيرة التي لم ينتبه لها أحد سواها كانت تتم على النحو المطلول.
أما الآن وقد اختارت الرحيل أُلقي بكل تلك المهام على عاتق ماهر الذي بدا في تلك اللحظة كمن يتمنّى لو تبتلعه الأرض بدلًا من أن يظل واقفًا شاهِدًا على هذه المواجهة.
في تلك اللحظة تفتّح وعي ماهر على حقيقةٍ لم يكن يُدرك أبعادها كاملة وهي أن البقاء وجهًا لوجه مع ظافر دون وساطة أو حجاب يُشبه الوقوف تحت شمسٍ عمودية في صحراء لا ظلّ فيها.
كل التفاصيل الصغيرة معه كانت حقول ألغام… حتى موعد تقديم الإفطار إن تأخر لدقيقة كان كفيلًا بإشعال نيران الاستياء في عينيه.
ولم يكن الطعام وحده ما يُثير ثوراته… بل حتى موضع زرّ القميص وانحناءة ياقة المعطف ونسبة الدفء في كوب الحليب، نعم… كوب الحليب ذاته الذي ثار لأجله يومًا وطرد طاقم العمل الخاص بالخدمة كاملًا لأن درجة حرارته لم تكن “مثالية” كما يجب.
كان ظافر رجلًا لا يرضى بالمتاح بل يطلب المستحيل ثم يسأل ببرود: “أين التأخير؟”
وتحت وطأة هذا الضغط المتواصل انسحب كثيرون… موظفون بدوام جزئي لم تُغرِهم الرواتب العالية بقدر ما أرعبتهم نظرات ظافر المتجهمة التي لا تعرف الرضا فاختاروا السلامة وغادروا بصمت كمن يهرب من حقل معركة خاسر.
أما ماهر فبصفته المساعد الشخصي لم يكن يملك ترف الهروب.
كان عليه أن يتولى كل شيء بنفسه، أن يكون الظل الذي يتحرك قبل أن يأمره سيده والصوت الذي لا يُسمع والخطأ الذي لا يُغتفر.
ومع مرور الوقت ومع كل تكليفٍ جديد بدأ ماهر يرى في صبر سيرين شيئًا خارقًا، شيئًا يشبه التصوف في حضرة الطغيان.
كيف كانت تحتمل كل هذا الجنون الهادئ؟ كيف كانت تطوّع تفاصيل ظافر الجامحة دون أن تنكسر؟
طوال سنوات خدمته لم يسمع ظافر يومًا يشكو من إدارتها لشؤونه… كانت تسير بجانبه كضوءٍ خافت لا يُطفأ حتى رحلت.
واليوم للمرة الأولى يرى ماهر ما لم يتخيله من قبل… للمرة الأولى يرى ظافر يحاول أن يرضي أحدًا، أن يُليّن صوته، أن يُنزل جبروته عن عرشه.
ثم فجأة قطع ظافر الصمت كمن يُسدل الستار على مشهد:
“لا داعي لأن تأتي إلى هنا بعد الآن.”
وكأنما ضُرب ماهر بسهمٍ بارد في صدره… هل انتهى كل شيء؟ هل جُرّد من مكانته بهذه البساطة؟
تمتم ماهر مرتبكًا:
“سيد ظافر… سأبذل جهدًا أكبر… أعدك… سأتحسن.”
كان ماهر قد قضى معه عقدًا كاملًا، عشر سنوات من الأوامر الصارمة والليالي المتأخرة والمهام التي لا تنتهي.
فهل يُنسف كل ذلك لأجل لحظة غيظٍ عابرة؟
لكن ظافر رفع يده كمن يُشير إلى أن لا حاجة لهذا الدفاع:
“أقصد… يجب أن تركز على واجباتك الرئيسية في الشركة، لا أريدك أن تتكبد عناء المجيء إلى القصر كل يوم.”
صمت قصير تلاه تنهيدة من ماهر، خرج منها ثقلٌ علق في صدره منذ لحظات.
“نعم، سيدي…” قالها وهو يبتلع خوفًا لم يهدأ بعد، وكأنه نجا للتو من عاصفة دون أن يعرف إن كانت ستعود أم لا.
وبينما كان ماهر يهمّ بمغادرة القصر، وقد أثقل خطواته بشيءٍ من الحذر، جاءه صوت ظافر من خلفه يحمل رنةً مغايرة كما لو كان خارجًا من تجويف صدرٍ أرهقه الحنين:
“كيف حال الطفل؟”
توقف ماهر وأدار رأسه نحوه ببطء كمن لم يتوقع هذا السؤال ثم أجاب بعد لحظة:
“هادئٌ منذ الليلة الماضية، يا سيدي… مدبرة المنزل تقول إنه طفل مستقل… يغتسل وحده، ويرتدي ملابسه دون مساعدة… حتى إنه سألني… متى ستأتي لزيارته سيدي.”
ساد الصمت بينهما كخيطٍ شفاف غير مرئي لكنه مشدودٌ على حافة الندم.
انكمشت ملامح ظافر قليلاً كأنما التصقت روحه بجدارٍ داخلي يرفض السقوط لكن عينيه أفصحتا عن اضطرابٍ يعجز اللسان عن صياغته ومن ثم قال وهو يدفع بجملته نحو الهروب:
“عُد إلى المكتب الآن.”
ثم سعل كأن صدره ينزف.
رمقه ماهر بعينٍ خَبِرَت التعب ولاحظ الاصفرار الخافت الذي تسلل إلى ملامحه والذبول الذي استقر تحت عينيه، فقال بترددٍ:
“سيدي هل ترغب في أن أستدعي طبيبك؟ أنت تسعل كثيرًا هذه الأيام ويبدو عليك التعب.”
لكن ظافر اكتفى بإشارة من يده كأنما يبعد عنه الهواء لا الفكرة ذاتها فهو يكره الطب والأطباء.
“لا حاجة لذلك… أنا بخير.”
كان ينطق الجملة وهو يطالع من خلف الزجاج صورة سيرين التي كانت تقف وحدها خارجًا، لا تلتفت إليه وكأنها استعصت عليه بعد أن كان موطنها.
لم يستطع ماهر أن يقاوم الرغبة في قول ما اعتبره واجبًا إنسانيًا حتى لو تخطّى المسموح وذلك بعد أن رأى شرود سيده بها،، فقال بصوتٍ خفيض وكأنما يُسرّ بندمٍ لا يخصّه:
“سيد ظافر… إن كنت تحب الآنسة تهامي فعليك أن تخبرها، بعض القلوب لا تلتقط الإشارات وبعض النساء لا يفهمن الصمت حتى لو كان يصرخ.”
تجمدت ملامح ظافر للحظة ثم ارتفعت نظرته نحوه كأنما التصقت به نظرة نمرٍ أُزعج في كهفه، وقال ببرودةٍ تحمل في طيّاتها خنجرًا:
“شؤوني الشخصية… لا تعنيك.”
في تلك اللحظة خفَتَ ضوء عيني ماهر خلف نظارته ذات الإطار الذهبي كأنما انطفأ فيه شيءٌ ما، وأدرك دون حاجة لتفسير أنه تجاوز الخط… وأن الاقتراب من قلب ظافر مهما بدا هشًّا يظل منطقةً محرّمة، يُمنع فيها الاقتراب أو التصوير.