رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة الفصل 60(هروب دمية من اتحاد معذب)

عشق لا يضاهى

الفصل 60

عندما دفع مالك باب الحمّام كانت عيناه تلمعان بوميضٍ خبيث فهو كان يتوقع أنه سيباغت زكريا في وضعٍ مُذلٍّ كأن يجده يتبول أمام المرحاض فينقضّ عليه بركلةٍ غادرة تُطيح به أرضًا تُنثر كرامته كما يُنثر الماء على البلاط لكن ما رآه لم يكن في حسبانه.  

فقد وقف زكريا هناك في سكونٍ يشبه الليل قبل العاصفة عاقدًا ذراعيه أمام صدره ينظر إليه بهدوءٍ مربك وكأنه قرأ أفكاره قبل أن تطأ قدماه المكان.  

لم يُحاوِل مالك فتح مجال للحديث بل ألقى كلماته كما تُلقى الأحجار في الماء الراكد فجاءت نبرة صوته قاطعة كحدِّ السکين:  

“أنا لا أُحبك لذا بعد عودتك إلى المنزل اليوم أخبر والديك أن يعدّا أوراق انسحابك من المدرسة.”  

لم يتغير تعبير زكريا وكأن كلمات محدثه لم تمسّه بل اكتفى بأن مدّ يديه تحت الماء البارد يراقب القطرات تنساب من بين أصابعه قبل أن يردّ بصوتٍ هادئ لكنه يحمل في طياته نبرة تحدٍّ:  

“ولماذا أفعل ذلك؟”  

رفع مالك رأسه في زهوٍ وكأنه ينطق بحقيقةٍ لا تقبل الجدل:  

“لأنني وريث مجموعة نصران، والخليفة المستقبلي لإمبراطورية عائلتي!”  

في هذه المدينة كان اسم آل نصران يرنُّ في الآذان كاسمٍ مقدّس لا يُمسُّ ولا يُعصى له أمر.  

أضاف مالك بصوتٍ تحذيري كمن يُلقّن خصمه درسًا أخيرًا قبل أن يسقطه في الهاوية:  

“إذا عارضتني لن تعرف أنت ولا والداك كيف ولا متى ستنهار حياتكم، عائلتي تموّل هذه المدرسة وعندما أقول إنك سترحل فهذا يعني أن خيارك الوحيد… هو الرحيل.”  

رفع زكريا حاجبيه ببطء وكأنّ المشهد كله لا يخصه أو كمن تتلاشى في حضرته الكلمات قبل أن تصل إليه.

ابتسم زكريا ابتسامةً خفيفة أشبه بابتسامة ساخرٍ يرقب دميةً تحاول أن تخيفه، وتمتم بتفاجئ مصطنع:

“أوه.”  

ظنّ مالك أنّ الأمر قد انتهى عند هذا الحد وأن غروره قد انتصر كعادته، لكن تلك الأوهام تهاوت حين أكمل زكريا بنبرةٍ ثابتةٍ كصخرةٍ تتحدى الأمواج:  

“لن أغادر.”  

كلماتٌ أشعلت في قلب مالك شرارة غضبٍ مستعرة لم يستطع كبحها، فاندفع بجنونٍ ورفع ساقه ليُسقط زكريا أرضًا بركلةٍ من قدمه اليمنى ولكن زكريا كان أسرع إذ لمح الھجوم بطرف عينه وانقضّ بجسده كما ينقضُّ صقرٌ على فريسته يصدّ الھجوم بمهارةٍ خبير ثم ردّ الضړبة بواحدةٍ جعلت الهواء يفرّ من رئتي مالك.  

لم يكن يعلم مالك أن هذا الفتى الذي يقف أمامه قد أمضى لياليه الطويلة في التدريب على رياضة الكيك بوكسينغ ليس لحماية نفسه فحسب بل لحماية من أحبّ وهما سيرين ونوح وذلك عندما يكبر.  

بعد دقائق لم يبقَ في الحمّام سوى صوت واحد… أنين مالك وتوسلاته المذعورة.  

انحنى زكريا نحوه هامسًا كمن يوقّع على حكمٍ غير قابلٍ للاستئناف:  

“هل لا تزال تريدني أن أترك المدرسة؟”  

اهتز صوت مالك يقول بأنفاسٍ متقطعة:

“لا…”  

أضاف زكريا وهو يكور قبضته يرفعها بوجه مالك متخذاً وضعية الھجوم:

“هل ستشي بي؟”  

هزّ مالك رأسه بهلع، يجيب پخوف هيستيري:

“لا…”  

وقف زكريا مجددًا ومن ثم غسل يديه من أثر هذه اللحظة كما يغسل المرء يديه من خطيئةٍ لا يريد أن تُلاحقه وبعدها الټفت إليه قائلًا:  

“تذكّر إن أخبرت أحدًا سألقّنك درسًا جديدًا في كل مرة تقع عيني فيها عليك.”  

لم ينطق مالك بحرفٍ آخر إذ كان يعرف أنه من الأفضل ألا يخبر أحدًا بما حدث فالكرامة عند من يدّعي الرجولة أهم من الاعتراف بالهزيمة.

ها هي كوثر تتلقى مكالمة هاتفية جعلتها تغادر في عجالة تاركة سيرين وحدها تتجول وسط الحشود.

لوهلة بدت المدينة نابضة بالحياة لكن الغربة تسللت إلى قلب سيرين كما لو أنها لم تخطُ في شوارعها منذ دهور.  

كان الصيف في ذروته والسماء كأنها مرآة تعكس تقلباته المزاجية، وفي غمضة عين تبدّل صفاؤها إلى كآبة قاتمة وأرسل البرق شظاياه المضيئة تلاه الرعد يجلجل كقلب غاضب.

لم تمهلها الغيوم كثيرًا قبل أن ترسل زخاتها الغزيرة كأنها تحاول محو آثار الزمن عن الأرصفة.  

لم تفكر لثانية بل احتمت تحت سقفٍ عالٍ بينما تهادت أمامها سيارة بنتلي سوداء ببطء محسوب.

انخفضت النافذة فكشف المطر عن وجهٍ مألوف، رجل وسيم بملامح نحتها الزمن، فجاء صوته منخفضًا لكنه نافذ:  

“اركبي.”  

ترددت لوهلة كمن يتوجس من فتح صندوق ذكريات مغلق بإحكام لكنها في النهاية فتحت باب السيارة الخلفي لتركب، ولكنه تمتم بنفاذ صبر:

“أنا لستُ سائقك، اجلسي في المقدمة.”  

تجمدت للحظة ثم جربت الباب الخلفي مجددًا لكنه أبى أن ينفتح وكأن القدر يفرض عليها الانصياع لرغبته.

جلست بجواره، عيناها تهربان إلى النافذة، إلى المدينة التي تتساقط فوقها الأمطار كدموع حبيسة.  

ساد صمت ثقيل فقط وحده صوت المطر يطرق زجاج السيارة بإلحاح.

لم يكن الجو باردًا بقدر ما كان خانقًا كأن الهواء نفسه يختزن كلمات لم تُنطق.  

قاد ظافر بصمت، ملامحه متحجرة، نظراته مستقيمة لا تحيد.

بينما كانت سيرين تراقب الطرقات وهي تتبدل كلما خطت إطارات السيارة وإذا بهما في ممر ضيق يبتلعهم بعيدًا عن الصخب.

فجأة انكمشت في مقعدها فهي تعرف هذا الطريق… هذا المكان المنسي على أطراف ذاكرتها.  

هنا في ليلة مشابهة قبل سنوات كانت مراهقة هائمة تحت المطر، ملابسها ملتصقة بجسدها الهزيل، قدماها العاريتان تلامسان الأرض الباردة بينما قلوب قاسېة ضحكت على عذاباتها إذ انشقت الأرض تعرب عن وجود بعض من المراهقين المتنمرين الذين قاموا بمضايقتها وكانوا في حالة سُكرٍ تام.  

لكن في تلك الليلة جاءها هو… ظافر، حينها كان مختلفًا، دفئًا وسط العاصفة.

قاد سيارته وأخذ يتجول بالازقة والطرقات حتى وجدها، ومن ثم حملها بين ذراعيه وطمأنها بصوتٍ كان أشبه بوعدٍ:  

“لا تخافي سيرين، أنا هنا لأجلك…”  

هزت سيرين رأسها تنفض عنها تلك الذكرى حتى لا تضعف أمامه مجددًا فهو يجيد العزف على أوتارها وتسائلت:

كيف لهذا الصبي الذي كان ذات يوم منارتها أن يصبح هذا الرجل البارد الصامت الذي يبدو وكأن الزمن قد محا من قلبه كل أثر للرحمة؟  

أدارت رأسها نحوه وأخذت عيناها تتفحصان ملامحه بصمت، بينما هو يقود بعيدًا عن الماضي والحاضر معًا تراقب تفاحة آدم خاصته تتحرك حين ابتلع كأنه يُخفي كلمات لا يريد لها أن تُقال.  

وحين ابتعدت السيارة أكثر لم تستطع كبح السؤال الذي تسلل من بين شفتيها فخرج صوتها هادئًا لكنه ينذر بالعاصفة القادمة:  

“إلى أين تأخذني سيد نصران؟”

ترى ما الذي يخطط له ذلك المتجبر؟! وإلى أين سيأخذها وما هي نواياه؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top