الفصل 74
كان صوته أشبه بزمجرة ذئب جريح يحمل في نبراته احتدام صراعٍ دفينٍ بين رغبةٍ تنهش قلبه وعقلٍ يقيده بسلاسل الحذر.
وحده كان يعلم كم يعاني في كبح جماح نفسه، في إخماد النيران التي كانت تتأجج تحت بداخله لكنه لم يرضخ… لم يسمح لتلك الرغبة أن تنتصر ليس قبل أن يكشف النقاب عن الحقيقة التي كانت تلوذ خلف نظراتها الغامضة.
تسمّرت سيرين في مكانها كمن توقف الزمن بها أو كأن الأرض رفضت أن تدور دون أن تعرف إجابته.
لمعَ في عينيها بريقٌ التوتر، شيء بين الدهشة والخذلان وسألته بصوتٍ خافتٍ كهمسة نسيم يلفح وجه ليلٍ مشتعل:
“أما كنتَ ترغب بفعل ذلك؟”
تنهّد ظافر واحتجب خلف نظرة باردة يرتدي قناعًا من اللا مبالاة ليتوارى خلفه إعصار داخلي فهو متيقنٌ أن وراء عينيها قصة لم تُروَ، وأن تلك القبلات لم تكن سوى اختبار فقرر أن يغيّر النغمة فجأة كما يبدّل الساحرُ نغمة الناي في لحظة حاسمة.
قال بنبرة ملغّمة بالغموض:
“يبدو أنّكِ أسأتِ الفهم… لقد كنتُ أحاول فقط مساعدتكِ على استرجاع شتات ذاكرتكِ لا أكثر… أظن أنّه من الأفضل أن نتوقف هنا… فالمأدبة في انتظارنا.”
شحب وجهها للحظة وكأن ظل غيمة مرّ على وجه القمر.
هل كان يمزح؟ أكان يعبث بها بينما كانت تُسلم له شغافها في تلك الدقائق المعدودات؟ ستّ أو سبع لكنها كانت كافية لتغيير قوانين الجاذبية بينهما،
ورغم ارتباكها لم تُبدِ شيئًا بل سحبت يدها من على صدره في هدوء يشبه انسحاب موجة بعد عناقٍ طويلٍ للشاطئ.
ثم تركها واقفة وغاب داخل غرفة الملابس كأنما يلوذ بالهروب من مواجهة عاصفة أو من مرآةٍ تعكس ما لا يريد الاعتراف به ليستعد لمرافقتها إلى المأدبة… فيما ظلت رائحة القُبلة عالقةً في الهواء كثملةٍ لم تجد من يُفكّر بها.
كان المساء يحتفل ببهائه في قصر آل نصران حيث تلألأت الأنوار كأنها نجوم أُسقِطت عمدًا لتبارك مناسبة الميلاد.
بين جموع المدعوين حضر طارق برفقة جده ذاك الرجل الذي حفر الزمن على ملامح وجهه خريطة حروب لم تنتهِ.
لم يكن حضورهما بدافع المجاملة فحسب بل جاء الجد وفي جعبته هدف خفي فهو ككل هرِم عجوز يطارد الحلم الأخير: أن يرى حفيده عريسًا ولو على أنقاض رغباته.
زفر طارق باستشاطة إذ أرغمه الجد على الحضور كمن يُساق إلى مذبح دون خيار ثم بعد أن تمتم الرجل العجوز بكلمات التهنئة لكبير عائلة نصران شدّه من ذراعه وسلّمه طَوعًا لفتياتٍ كأنهن عارضات من كتالوج مختوم بختم القدر الذي بدا كشبح يصارد طارق فما لا يقل عن عشرين فتاة وكل واحدة منهن تحمل على وجهها قناع الاحتمال في كونها العروس المستقبلية لسليل الحسب والنسب.
مال الجد إليه وهمس بصوت كالسياط:
“اسمعني جيدًا طارق… إن لم تُحسن التصرّف الليلة فانسَ أنك أحد أحفادي، فأنا لن أسمح أن يمتد اسمي عبر حفيد تافه لا يحسن اختيار امرأة تُكمل هذا الإرث…. وجودك هكذا بلا زوجة في هذا العمر لـ هو خزيٌ لا يُغتفر… أنت لطخة على صفحة العائلة البيضاء!”
تجمّدت الكلمات في حلق طارق ولفّه شعور بالإهانة كأن صڤعة جاءته من يد السماء ذاتها لتحط من كبريائه.
سب طارق تحت أنفاسه فبالرغم من أن قلبه قد ازدحم بالنساء لكن ليس بهذه الطريقة، ليس بهذه السوقية.
تململ في جلسته وتمتم بجفاء من بين شفاهه المزمومة:
“فهمت.”
لم يكن طارق جبانًا ولا يخشى الجد لكنه كان يعرف أن الرجل العجوز بات قلبه هشًا كزجاج نافذة في مهب إعصار يكفيه انفعال صغير لټنهار الشرايين كقنابل موقوتة، شرد طارق وهو يتذكر كلمات الطبيب الذي قد أوصاه:
“لا تُغضب جدك ليس الآن، فنوبة قلبية واحدة قد تكون الوداع الأخير.”
وفجأة كمن شمّ رائحة حرب إذ أشاح الجد بنظره نحو أحد الأركان فوقع بصره على دينا التي كانت في قمة أناقتها، تمشي بخطى ملكة تعلم أن جميع الأضواء خُلقت لتتبعها.
ارتفع صوت الجد كأن صافرة إنذار انطلقت:
“تذكّر جيدًا… دينا ممنوعة! لا أريد رؤيتك تقترب من تلك المرأة ثانيةً!”
كان العجوز يملك نظرة صقر لا تخطئ وله في تقدير الشخصيات حسّ أشبه بالحاسة السادسة، فمنذ سنوات دسّ الجد شخصًا في حياة دينا ليراقبها كما يُراقب نمر في غابة، فتكشّف له وجهها الحقيقي:
فدينا امرأة لا تنتمي للثقة، ملساء كالأفعى، باردة كطرف السکين… امرأة عبثت بأرواح رجالٍ لا يُعدّون كما تُعبث أوراق القماړ بيد مقامر محترف، عاهرة تسلقت ببيع جسدها لمن يوصلها لهدفها “الشهرة”.
ردّ طارق بهدوء:
“لا تقلق… لقد انتهى الأمر.”
فمنذ أن علم طارق أن سيرين هي من انتشلته من الهاوية، تغيّر شيء ما في داخله… شيء جعل كل النساء الأخريات تتلاشى كلوحات باهتة على جدار قلبه… فلم تعد دينا تغريه… بل لم تعد تُرى.
ابتسم الجد لأول مرة في هذا المساء، وبدت ملامحه راضية كمن استعاد قطعة ضائعة من كرامته إذ شعر بالارتياح فحفيده لم يعد يلهث خلف السراب.
كانت المأدبة أقرب إلى عرضٍ ملكيّ حيث تماوجت الأضواء، وتعانقت نغمات الكمان مع خرير الكؤوس وهمسات المتربصين بفرص القرب والنفوذ.
في تلك الأثناء تاه مالك وزكريا وسط بحرٍ من الوجوه والابتسامات المتكلّفة كزورقين صغيرين ضلّا الطريق في محيط من المظاهر.
وفجأة شحب لون زكريا وانطفأ بريق عينيه كشمعة في وجه العاصفة، وتسمرت عينيه في جهةٍ واحدة كمن رأى شبحًا.
تبع مالك نظرات صديقه وحين أدرك ما يراه قال بلهجة ممتزجة بالتحفّظ والازدراء:
“تلك هي دينا… المرأة التي تدّعي أنها صديقة عمّي ظافر.”
لم يرمش زكريا وكأن اسمها ارتطم بجدار عقله فجأة ولم يظهر عليه أي اهتمام بل سأل بتكاسل مصطنع جاء أشبه السخرية المشوبة بالفضول:
“ولِمَ تبدو وحيدة؟ أين عمّك؟”
اتسعت دهشة مالك بدوره إذ لم يكن من عادة ظافر أن يتأخر عن مناسبة تمسُّ سمعة العائلة، فكيف يغيب عن مأدبةٍ بهذا الحجم؟
هزّ مالك رأسه وقال:
“لا أدري… هذا أمر جديد عليه فأنا لم اعتاد منه على ذلك.”
ثم الټفت مالك إلى زكريا فجأة، وصوته يخفت كأنما يفضي إليه بسرّ:
“قل لي يا زكريا… ما الذي يجعلك تظنّ أنني الوريث القادم لعائلة نصران؟ لقد سبق أن تنصّلتُ من القيادة… القصر هذا بكل عظمته ليس ما أبتغيه.”
ردّ زكريا بصوتٍ خاڤت وكأنما يُطفئ نارًا اشتعلت في صدر صديقه:
“لكنني أصدقك… في كل ما تقول.”
ورغم هذه الكلمات ارتسم ظل حزنٍ على وجه مالك، ظلّ لا تراه العين لكنه يشعر به كغصة في حلقه إذ أحس للحظة كأنه طفل يعبث الكبار بمصيره، يُدفع إلى كرسيّ الملوك قبل أن يتعلّم كيف يخطو بثبات.
قطع زكريا شروده وقال وهو يضع يده على بطنه متصنّعًا الألم:
“بطني تؤلمني… أحتاج للذهاب إلى الحمّام. سأتحدث إليك لاحقًا.”
ثم ابتسم في استئذانٍ خادع وسار مبتعدًا، تاركًا مالك في دوامة أفكاره.
“حسنًا… لا تنسَ أن تجدني بعد أن تنتهي من أمر الحمّام!” نادى مالك بصوتٍ متهكّم خلفه لكن زكريا لم يرد.
وما إن تأكّد زكريا أن صديقه لم يعد يراه حتى راح يشقّ طريقه بين الجموع بخفّة متسلل يتعقّب هدفًا في ساحة معركة.
قريبًا من هناك كانت دينا تقف كتمثالٍ من العاج بثوبها الذي يعكس الضوء كمرآة وقلقها يزداد كلما امتدّ غياب ظافر.
أخذت نظراتها تمسح المكان بحثًا عنه وقلبها يخفق كطبولٍ خافتةٍ تعلن عن معركة وشيكة والخاسر فيها هي وحدها.
همّت دينا بالتحرّك للبحث عن ظافر حين قاطعها صوتٌ صغير إذ اندفع نحوها طفل لا يتجاوز العاشرة ثم عانقها فجأة كأنما وجد كنزًا من الأساطير وقال بانبهار:
“سيدتي! هل أنتِ تلك الممثلة المشهورة التي نراها على شاشة التلفاز؟”