رواية عشق لا يضاهى (جميع الفصول كاملة) بقلم أسماء حميدة

عشق لا يضاهى

الفصل1

كان يومًا ثقيل الظلال، كأنما السماء قد قررت أن تشارك الأرض حزنها، تنثر حبات المطر الغزيرة كدموعٍ ترفض أن تهدأ. ارتفعت رائحة التراب المبتل ممتزجة بشعورٍ باردٍ يتسلل إلى العظام، يُضفي على الأجواء مزيدًا من الكآبة.

عند مدخل المشفى، وقفت سيرين كتمثال نُحت من ألمٍ وصمت. جسدها النحيل يهتز ارتجافًا، ليس فقط من البرد الذي يطارد أطرافها، ولكن من زلزال داخلي يمزق قلبها. كانت تمسك بيديها المرتعشتين ورقة التقرير، كأنها تخشى أن تسقط فتسقط معها كل أحلامها الصغيرة.

عينُها تحدق في الكلمات المطبوعة بجمودٍ بارد، كلمات تخلو من أي رحمة، كلمات أشبه بسكين مغروسة في الأمل: 
“لم يتم اكتشاف أي حمل.”

كانت الجملة جافة، صلبة كجدارٍ لا يمكن تسلقه، لكنها بالنسبة لها كانت هديرًا يصم الآذان، وحُكمًا خفيًا يُخفي خلفه عالَمًا من الخيبات المتراكمة. شعرت للحظة وكأن الأرض تنزلق من تحت قدميها، وكأن الهواء المحيط بها قد قرر أن يحجب عنها أنفاس الحياة.

“لقد تزوجتِ منذ ثلاث سنوات، كيف لم تصبحي حاملاً بعد؟” سألتها والدتها سارة بنبرة مشوبة بالخيبة، وهي تشير بإصبعها إلى وجه سيرين.

كانت سارة سيدة أرستقراطية، ترتدي ملابس فاخرة وكعبًا عاليًا، تعلو ملامح وجهها ابتسامة جليدية مستفزة تبرز كماً من التعالي والبرود، واستكملت بتهكمٍ:

“لماذا أنت عديمة الفائدة إلى هذا الحد؟ إذا لم تحملي قريبًا، فسوف يطردك آل نصران من العائلة… ماذا سيحدث لعائلتنا إذاً؟”

نظرت سيرين إليها بنظرة فارغة، كان لديها الكثير لتقوله، لكن الكلمات ظلت عالقة في حلقها.

في النهاية، لم تستطع سيرين سوى أن تهمس: “أنا آسفة”.

ردت سارة بجفاء:

“لا أريدك أن تتأسفي… أريدك أن تلدي طفل ظافر. هل تفهمين ما أقول؟”

شعرت سيرين بضيق شديد في حلقها، ولم تعرف كيف ترد على سارة.

خلال سنوات زواجها الثلاث، لم يمارس زوجها ظافر نصران أي علاقة جنسية معها مطلقًا. كيف يمكنها أن تنجب طفله؟

حملقت سيرين بسارة، تلمح التناقض الشديد بين ضعفها وبين تعجرف والدتها. وأخيرًا، قالت سارة ببرود قبل أن تغادر:

“إذا لم تتمكني حقًا من منحه طفلًا، فابحثي له عن امرأة تستطيع فعل ذلك… على الأقل سيقدر لكِ هذا”.

حدقت سيرين في أثر سارة المنسحبة بعدم تصديق.

هل أخبرتها والدتها للتو أن تبحث عن امرأة أخرى كي ينام معها زوجها؟

كان قلب الأم باردًا مثل المطر المتجمد… عن أي أم نتحدث، إنها الخذلان في أحقر صوره!

بينما كانت سيرين في طريقها إلى المنزل، لم تستطع التوقف عن التفكير في كلمات سارة الوداعية.

فجأة، غزى أفكارها رنين عالٍ يضج في أذنيها، فأدركت أن حالتها قد ساءت.

وفي تلك اللحظة، تلقت رسالة على هاتفها.

كانت الرسالة من ظافر، تحمل في طياتها نفس الكلمات الباردة المعتادة:

“لن أعود إلى المنزل الليلة”.

على مدار السنوات الثلاث الماضية من زواجهما، لم يقضِ ظافر ليلة واحدة في المنزل، ولم يلمس سيرين قط… كانت مجرد شبحٍ في حياته.

تذكرت سيرين ليلة زفافهما، حين قال لها ببرودٍ قاسٍ:

“بما أن عائلتك جريئة بما يكفي لخداعي وإقناعي بالزواج منكِ، فمن الأفضل أن تكوني مستعدة لقضاء بقية حياتك في عزلة”.

كانت تعيش في قمة الخيبة، زواج مع إيقاف التنفيذ!

قبل ثلاث سنوات، قررت عائلتا تهامي ونصران تشكيل تحالف من خلال الزواج… كان الاتفاق مُبرمًا على شروط تفيد كلا العائلتين.

ولكن عندما جاء يوم الزفاف، تراجعت عائلة تهامي عن وعدها ونقلت كل أصولها، بما في ذلك الملايين من الدولارات التي دفعها ظافر للزواج من سيرين.

تلاشت عينا سيرين عند تذكرها لهذا الأمر المؤلم… وردت على رسالة ظافر النصية بإجابتها المعتادة:

“حسنًا”.

كانت الكلمة تحمل في طياتها كل الاستسلام والخضوع الذي عشّش في قلبها.

ودون أن تدرك، انكمشت تقارير الحمل التي كانت تحملها بين يديها، فتمزقت بعض الشيء بفعل قبضتها المشدودة.

شعرت سيرين وكأن حياتها تمزقت كما الأوراق التي بين قبضتيها، ومع كل تمزق كان أملها في الحياة يتلاشى أكثر.

تحملت سيرين سنوات من الوحدة والبرود، عانت العزلة القاسية والقهر الصامت.

كانت تبحث عن دفء في قلبٍ متجمد، وعن حنان في عالمٍ بلا روح.

لكن رغم كل ذلك، كانت تأمل في معجزة تغير مسار حياتها وتعيد إليها البسمة والدفء.

كل شهر، في هذا الوقت، تشعر سيرين بخمول غير عادي، ولم تكلف نفسها عناء تجهيز العشاء، بل كانت تتكئ على الأريكة، تغفو من حين لآخر.

ظل الطنين في أذنها مستمرًا، ليذكرها بضعف سمعها الذي كان سببًا آخر لكراهية ظافر لها.

فبالنسبة له، كانت تلك المشكلة تضاهي الإعاقة الجسدية، مما يزيد من استيائه منها،ولم يسمح لها أبدًا بحمل طفله.

في الساعة الخامسة صباحًا، رنت ساعة البندول على الحائط بصوت خافت، فأدركت سيرين متأخرة أنها نامت على الأريكة، لذا نهضت مسرعة وذهبت إلى المطبخ لإعداد إفطار ظافر.

كان ظافر رجلاً دقيقًا وصارمًا بشأن الالتزام بالمواعيد، ليس فقط مع نفسه ولكن أيضًا مع من حوله، وكالمعتاد وصل إلى المنزل في تمام الساعة السادسة تمامًا.

ظافر، الرجل الطويل الوسيم ذو البدلة الأنيقة، كان يتسم بسلوك هادئ ومتحفظ، ولكنه بلا شك كان رجوليًا.. ومع ذلك، بالنسبة إلى سيرين، كان باردًا وبعيدًا.

لم ينظر حتى إليها… مر بجانبها مباشرة، وهو ينظر إلى الطعام على الطاولة وقال بسخرية:

“أنتِ تفعلين هذا كل يوم… هل أنت مربية أم ماذا؟”

على مدى السنوات الثلاث الماضية، كانت سيرين تعيش في دوامة متكررة… ترتدي نفس الملابس الداكنة، وترد على رسائله بنفس الكلمة المفردة.

حياتها لم تكن سوى مجرد انعكاس باهت لرغباته وأوامره بلا أي بصيص من الأمل أو التغيير.

لو لم يكن هناك تحالف تجاري وخداع من عائلة تهامي، لما فكر ظافر في الزواج من امرأة مثل سيرين.

عند سماع كلمة “مربية”، عاد الطنين في أذني سيرين التي ابتلعت بصعوبة، وشعرت بغصة في حلقها، ثم قالت بشجاعة:

“ظافر، هل لديك شخص تحبه؟”

تفاجأ ظافر بسؤالها، فأظلمت عيناه:

“ماذا تقصدين بذلك؟”

رفعت سيرين رأسها وحدقت في عينيه، تحاول ابتلاع الصفراء التي تتصاعد في مؤخرة حلقها.

“إذا كنت تحب امرأة أخرى، يمكنك أن تكون معها”

قبل أن تتمكن من إنهاء كلامها، قاطعها ظافر بحدة:

“أنت مجنونة”.

بعد مغادرة ظافر، جلست سيرين على الشرفة بمفردها، تنظر إلى المطر البارد… صوت قطرات المطر يتسلل إلى عالمها المختنق بالصمت.

خلعت سماعات الأذن، مما جعل العالم يغرق في السكون القاسي.

قبل شهر، أخبرها طبيبها:

“سيدة سيرين تهامي، هناك تغير مرضي في أعصابك السمعية وبعض الأعصاب القحفية، مما تسبب في تدهور سمعك… وإذا استمر هذا التغير، فقد تفقدين سمعك تمامًا”.

ولأنها لم تعتد على عالم صامت، توجهت سيرين إلى غرفة المعيشة وشغلت التلفاز… ثم رفعت مستوى الصوت إلى الحد الأقصى، مما سمح لها بسماع بعض الأصوات المشتتة.

بالمصادفة، كان التلفزيون يعرض مقابلة مع دينا، المطربة المشهورة بأغانيها العاطفية.

جلست سيرين في محاولة للبحث عن بصيص من الراحة في كلمات وألحان أغانيها، متمنية أن تجد في تلك النغمات ما ينقذ قلبها من براثن الوحدة.

ارتجفت يدا سيرين وهي تمسك بجهاز التحكم عن بعد، وكأنها تمسك على مشاعرها الجياشة.

دينا كانت الحب الأول لظافر، وأول من شغف قلبه… لم ترها سيرين منذ زمن، لكنها لم تتغير.

دينا ما زالت تحتفظ بجمالها وثقتها، تقف أمام الكاميرات بكامل أناقتها، مختلفة تمامًا عن تلك الفتاة الخجولة التي توسلت لعائلة تهامي لرعايتها.

عندما سألها المحاور عن سبب عودتها إلى الوطن، ردت بشجاعة:

“عدت لأستعيد حبي الأول.”

انزلقت من بين يدي سيرين جهاز التحكم عن بعد، وكأن قلبها هو الآخر هبط إلى قاع معدتها.

ازداد هطول المطر في الخارج كثافة، وكأنه يعكس اضطراب مشاعرها.

أغلقت سيرين التلفاز في حالة من الارتباك، واتجهت لتنظيف بقايا الفطور. وعندما وصلت إلى المطبخ، اكتشفت أن ظافر قد نسي هاتفه. التقطته بيديها المرتجفتين، وبدأت تطالع الرسائل غير المقروءة على شاشة القفل.

“ظافر، لا بد أنك كنت تعاني في السنوات الماضية، أليس كذلك؟”
“أعلم أنك لا تحبها. ماذا لو التقينا الليلة؟ لقد اشتقت إليك كثيرًا.”

ظلّت سيرين تحدق في الرسائل بلا تعبير، حتى أصبحت الشاشة مظلمة مجددًا.

طلبت سيارة أجرة إلى مكتب ظافر، وفي الطريق كانت تحدق عبر النافذة. المطر ينهمر بغزارة وكأنه يرفض التوقف، يعكس تمامًا حالتها النفسية المتردية.

لم يكن ظافر يحب زيارة سيرين له في المكتب، لذلك اعتادت على أخذ المصعد الخدمي من منطقة التحميل. عندما رآها مساعد ظافر، ويدعى ماهر الذي استقبلها ببرود قائلاً:

“السيدة سرين”.

لم يُعاملها أحد في محيط ظافر كزوجة له، بل كانت مجرد عبء ثقيل على سمعته.

عندما رآها ظافر تحمل له هاتفه، عبس وجهه بتجهم.

“ألم أخبرك ألا تحضري أغراضي بنفسك؟”

تجمدت سيرين في مكانها، معتذرة بصوت مرتجف:

“آسفة، نسيت.”

منذ متى أصبحت ذاكرتها سيئة إلى هذا الحد؟

ربما أصابها الذعر بعد رؤية رسالة دينا، وأصبحت تخشى أن يختفي ظافر من حياتها فجأة.

قبل أن تغادر، نظرت إلى ظافر بتوسل غير معلن… ولم تستطع أن تقاوم، فسألت بصوت متهدج:

“ظافر، هل ما زلت تحب دينا؟”

اعتقد ظافر أن سيرين تتصرف بغرابة في الآونة الأخيرة، نسيانها المتكرر وأسئلتها الغريبة أثار استغرابه… كيف لشخصية مثلها أن تكون زوجته؟

كانت سيرين تشعر بأنها مجرد شبح في حياة ظافر، شبحٌ يبحث عن بقايا حبه في أروقة قلبه المظلمة، لكنه لا يجد سوى الظلال.

فأجابها بحدة غير مبالي:

“إذا كان لديكِ وقت فراغ، اذهبي وابحثي عن شيء يشغلك.”

كانت سيرين قد حاولت من قبل العثور على وظيفة، لكنها اصطدمت بجدار الرفض من والدة ظافر، “شادية” ، التي وبختها دون رحمة:

“هل تريدين أن يعرف الجميع أن ظافر تزوج امرأة تعاني من مشاكل في السمع؟”

تخلت سيرين عن فكرة العمل، وركزت على حياتها الباهتة كـ”السيدة نصران”، تعيش في ظلال الوحدة والصمت.

جلست في المنزل وحيدة حتى حلول الليل، والأرق يلتهمها من الداخل.

رن الهاتف بجانب سريرها، وكان اتصالاً من رقم غير مألوف.

ردت على المكالمة بصوت مهتز، وجاءها صوت مألوف تخشى سماعه:

“هل هذا سيرين؟ ظافر مخمور. هل يمكنك أن تأتي لاصطحابه؟”

وصلت سيرين إلى النادي، لتسمع ضجيج الهتافات والسخرية العالية من الورثة الأثرياء داخل الغرفة الخاصة.

“ظافر، ألم تقل إنك عدت لتستعيد السيد نصران العزيزة بين ذراعيك؟ هذه فرصتك الآن… هيا، أخبرها بما تشعر به!”

كانت دينا، المرأة الجميلة ذات الشعبية الطاغية، محاطة بالإعجاب أينما ذهبت. حب ظافر الأول، لذلك كان الأثرياء الشباب من الطبقة العليا يهللون لها ولظافر.

دينا لم تتردد، نظرت إلى ظافر بعينين لامعتين وقالت بصراحة:

“أنا معجبة بك يا ظافر. أرجوك كن معي مرة أخرى.”

كان قلب سيرين يتقلص من الألم، ترى حب ظافر يتجدد أمام عينيها، وتشعر بالعجز والضعف يغمرانها وكأن كل قطرة مطر في تلك الليلة تعزف على أوتار قلبها المرهف.

هذا ما وصل إلي أُذني سيرين عندما وقفت عند باب الغرفة الخاصة.

داخل الغرفة، كان الجميع يضغطون على ظافر ليجيب دينا، وكان طارق، صديقه المقرب، هو الأكثر صراحة بينهم.

“ظافر، لقد انتظرت دينا ثلاث سنوات… ها هي عادت الآن… لذا، هيا، أجبها!”

تجمدت سيرين في مكانها خارج الباب، قلبها ينبض بعنف.

وفي تلك اللحظة، فتح أحد الرجال الباب.

“السيدة نصران؟”
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top