رواية عشق لا يضاهى (كاملة جميع الفصول للكاتبة أسماء حميدة) الفصل 107

عشق لا يضاهى

الفصل 107

كانت الهمسات تتسلل من بين الشفاه كما يتسلل الدخان من موقد قديم، تعبق في المكان وتلتف كأفعى تبحث عن فريسة…

“يا للمسكينة… دينا!”

قالت امرأة بصوتٍ خافت، لكنه مسموم، كأنها تلقي بتعليقها في بركة من الزيت وللحقيقة دينا تستحق.

“نجمة مشهورة مثلها تأتي لاصطحاب طفل من عائلة نَصْران، فتجد نفسها في مقلب سخيف! تخيّلي!”

انطلقت التعليقات كطلقات صامتة، كل جملة تحمل وراءها شظايا من السخرية:

“ليس من السهل أن تنتمي إلى عائلة من سلالة الذهب… حتى امرأة لامعة مثلها تعيش تحت أضواء الشهرة وعدسات المصورين، تضطر لتتودد إلى ابن أخي عشيقها!”

“تسك تسك… ما الضرر في أن تكون المرأة مستقلّة؟ ألم تكفها ثروتها التي جنتها من الشهرة؟ لماذا تطرق أبواب المال عن طريق الزواج؟”

“الناس لا يرضون أبدًا… حتى لو طارت فوق السحاب!”

وبينما كانت الشفاه تتحدث والعيون تترصد كان المشهد قد اكتمل أمام كوثر.
فهمت الآن… فهمت كل شيء.

دينا كانت هنا.

تسلّلت كوثر عبر الحشد كما تتسلل قطرة حبر فوق ورقة بيضاء، خطواتها متوترة، عيناها تبحثان بين الرؤوس والأكتاف.

وقفت على أطراف أصابعها لعلها تقتنص مشهدًا يُرضي فضولها… وهناك رأتها.

دينا… بثياب مبللة، مصدومة، تُقتاد كما تُقاد الملكات المكسورات وهي محاطة بحراسها الشخصيين إلى سيارة صغيرة لا تليق بحجم اسمها.

ضحكة خفيفة خرجت من فم كوثر كصفعة مبطنة بالسخرية:

“حتى دينا نالت نصيبها من المقالب… تستحق.”

وما إن اختفت السيارة خلف دخان الطريق حتى بدأ الحشد بالتفرق كما تتفرق الغيوم بعد عاصفة قصيرة.

وفي لحظة هدوء جاء صوتٌ ناعم لكنه واثق:

“كوثر.”

استدارت وما إن التفتت حتى سمعت صوتًا تعرفه جيدًا ينبض بالبراءة والشقاوة في آن:

“عمّتي كوثر!”

رأت كوثر دارين يقف هناك عاري الصدر باسِم الوجه كأن شيئًا لم يكن.

سارت كوثر نحوه بخطوات سريعة وملامح وجهها تُعبر عن مزيج من القلق والدهشة:

“دارين؟ لماذا لم تعد إلى المنزل بعد؟ ألم يأتِ السائق لاصطحابك؟”

هز دارين رأسه بنعومة كطفل يعرف تمامًا كيف يخلق الدهشة والإثارة، يقول بمؤامرة:

“طلبت منه أن يأتي بعد عشر دقائق.”

ارتفع حاجبا كوثر، وسألته بتشكك:

“ولِمَ ذلك؟”

ابتسم دارين تلك الابتسامة التي تعرف جيدًا أنها تسبق إعلانًا مُفاجئًا:

“لقد رأيتِ حالة تلك المرأة، أليس كذلك؟ كانت من صُنع يديّ… أنا من دبر الأمر يا عمّتي كوثر!”

شعرت كوثر أن نبض قلبها قد تعثر للحظة، وجحظت عيناها تمتم غير مصدقة:

“أأنتَ من سكبت الماء عليها؟!”
كان صوتها ممتزجًا بين الذهول والخوف إذ تعلم أن خطأً صغيرًا قد يُفتح باب زنزانة الاحتجاز على مصراعيها في وجه المتورطين خصوصًا وهي بالكاد خرجت من ظلال السجن.

كانت تعلم أن دينا لم تكن مجرد امرأة عابرة بل حبيبة ظافر… وذِكر اسم ظافر وحده كافٍ لإثارة القلق.

لكن دارين بوجهه المضيء بالفخر قال بثقة:

“لم أكن وحدي… كان معي أيضًا—”

وقبل أن تُولد الأسماء خرج زكريا من باب الروضة كمن يقطع خيطًا من الحكاية وقال بنبرة هادئة:

“دارين، لقد وصلت سيارتك.”

توقّف دارين عن الحديث فجأة وكأنّ الذاكرة قد غادرت رأسه، والتفت نحو السائق في منتصف العمر، الذي كان يلوّح له من خلف الزجاج.

نظر إلى كوثر وهو يبتسم ابتسامة عريضة وقال:

“سأرحل الآن، يا عمّتي كوثر!”

وانطلق… تاركًا خلفه أسئلة كثيرة بلا أجوبة، وضحكة مُبتورة على وجه كوثر، تجهل ما إذا كانت ستضحك حقًا… أم تبدأ القلق من جديد.

كانت كوثر تشعر بشيءٍ غامض ينهشها من الداخل كأن قلبها عالق في برزخٍ بين الطمأنينة والارتياب… فلم تستطع التخلص من ذلك الإحساس المتسلل كدخانٍ رمادي يملأ رئتيها ببطء… ومع أن عقلها لم يستوعب بعد ما حدث، إلا أن جسدها تصرف بعفوية، فقد أمسكت بيد زكريا وأخذته إلى السيارة كما لو كانت تحمله بعيدًا عن شيء لا تملك تفسيره.

وحين لمحت سيرين دخولهما التفتت بفضولٍ شاحب، متسائلة:

“ماذا حدث للتو؟”

أشارت كوثر إلى زكريا بإيماءة مُثقلة كمن يلقي حملًا لا طاقة له به:

“اسأليه… أظن أن لسانه يحمل أكثر مما أعرف.”

لكن زكريا كعادته ارتدى وجه البراءة كدرعٍ حريري وعيناه الواسعتان تتراقص فيهما براءة متقنة:

“كوكي؟ عمّاذا تتحدثين؟”

كان يتصنّع الجهل… ويتقنه ببراعة! وكوثر على الرغم من إحساسها الداخلي بأنه يمثل عليها اختارت أن تسايره.

عقدت ذراعيها على صدرها كأنها تحتضن الشكوك وقالت بسخرية خفيفة:

“حسنًا، يا سيرين، سأقول لكِ ما رأيته بعينيّ: دينا كانت هنا. نعم، تلك الدينا كانت تقف عند بوابة الروضة مثل أميرة نُفيت من مملكتها. لكن مظهرها مزري للغاية… كانت مبتلة من الرأس حتى القدم، كأن السماء وحدها قررت أن تنتقم منها… لم أتبين وجهها جيدًا لكن البؤس كان يتدلى من أطراف ثوبها.”

شعرت سيرين بانقباضٍ مفاجئ فملامح وجهها تغيّرت وانعقد جبينها، ومن ثم أردفت بحيرة:

“لماذا كانت هنا؟”

تدخّل زكريا بسرعة وكأنه خشي أن يتأزم الموقف أكثر:

“آه… كوثر! هل هذا ما تقصدينه؟ حسنًا، سأشرح لكما… جاءت لتأخذ تلميذًا من صفّنا، ولكن أثناء تنظيفنا للفصل، انزلقت بكعبها العالي… وسقط الدلو المليء بالماء.. بالـ… بالصدفة.”

قال جملته كمن يزرعها بحذر في تربة من الشك لكن صوته كان مطمئنًا وعيناه تشعان بثقة مصطنعة.

نظرت كوثر إليه للحظة تشك في صدقه ثم تنهدت أخيرًا كأن صدرها تخلّص من حِمل ثقيل:

“هذا كل شيء؟”

أومأ زكريا برأسه بإصرار طفل حفظ كذبة طويلة:

“بالتأكيد. لم يحدث شيء آخر.”

كان حريصًا على أن تبقى روايته خارج دوائر الشك وأن تبقى الحكاية تحت السيطرة.

نعم، لقد انزلقت… وسقط الدلو… ولكن الأطفال وكأنهم فرقة تمثيل بارعة قدّموا عرضًا يُقنع الشياطين بأن ما حدث كان محض صدفة!

كوثر كانت على وشك أن تتكلم، ثم توقفت، إذ شعرت بعجز خفيف يتسلل إلى جسدها، ثم قالت بخفة:

“حسنًا إذن… لنفترض أنني لم أقل شيئًا… ومع ذلك… كانت لحظة مرضية جدًا.”

في مكانٍ آخر داخل السيارة الصغيرة كانت لورا تنحني على جسد دينا تمسح وجهها المبلل بمنديلٍ ناعم وكأنها تُزيل آثار هزيمة غير معلنة، فالماء القذر لطّخ وجه النجمة المعتادة على أضواء الكاميرات لكن الألم الحقيقي كان يتسلل إلى ساقها التي خُدشت أثناء سقوطها المهين، وقبل أن تُكمل لورا تطهير الجرح، رنّ هاتف دينا.

أجابت دينا بتوترٍ لا تخفيه وإذا بصوتٍ يقتحم أذنها كالصفعة:

“دينا! ما بكِ؟ قلتِ إنك ستذهبين لاصطحاب مالك. هل هكذا تتصرفين حين تحصلين أخيرًا على فرصة؟”

كان صوت شادية كالسياط يجلدها بجملٍ قصيرة لكن موجعة… ولكنها لم تكتفي بعد إذ استكملت تقول:

“لو لم ترغبي في ذلك، لما توسلّت إليّ من البداية… أنتِ لم تحملي بعد… فماذا تبقّى من قيمتكِ بجانبي؟!”

صمتت دينا ولم ترد كأن الكلمات دخلت أذنيها ثم تجمدت في صدرها كقطع جليد تُذيبها النار المستعرة خلف عينيها.

كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top