الفصل العاشر
العواء خلف النافذة… وصمت بالداخل
كانت الرياح تعصف بالخارج كأنها كائن جريح ينوح في ليلٍ بلا نجوم، بينما استقرت يد سيرين النحيلة الشاحبة على بطنها وكأنها تحاول احتواء صدمة تجتاحها من الداخل.
عيناها كانتا خاويتين تائهتين في فراغ لا قاع له وكأن روحها انسلت منها وتركت جسدها مجرد هيكل فارغ.
قبل لحظات، أخبرها كارم بما اكتشفه الطبيب: إنها حامل.
لم تشعر بالسعادة، لم تهتز روحها بفرحة الأمومة القادمة بل اجتاحها إحساس قاتم كغيمة ثقيلة أسدلت ستائرها فوق شمس حياتها.
الحمل جاء في توقيت لا يمكن أن يكون أسوأ من هذا وكأن القدر يسخر منها ويسلبها حق الاختيار بل ويدفعها نحو مسار لم تكن مستعدة لخوضه.
على الجانب الآخر من الغرفة، كانت فاطمة تراقبها بصمت، تقرأ في ملامحها المنطفئة كل شيء، تفهم دون أن تسأل… أدركت أن هذا ليس مجرد حزن عابر بل غرقٌ في دوامة سوداء لا مخرج منها.
عندها، اتخذت فاطمة قرارًا مفاجئًا، قرارًا لن تتراجع عنه.
“سيرين…”
احتاجت سيرين إلى لحظات لتستوعب النداء وكأن عقلها كان يسبح في بحر بعيد… استدارت برأسها ببطء وكأنها آلة متعبة تتحرك بصعوبة ومن ثم همست بصوت خافت:
“نعم، فاطمة؟”
اقتربت فاطمة منها، وعيناها الحمراوان تنطقان بألم صامت، بينما رفعت يدها المرتجفة لتزيح خصلة متمردة عن صدغي سيرين.
في تلك اللحظة، كان الزمن متوقفًا بينهما مجرد ومضات من الحنين والحزن والندم.
قالت فاطمة بصوت اختنق بالدموع:
“سيرين، لطالما كنتِ ابنتي، حتى وإن لم تلدكِ أرحامي… ما أتمناه لكِ قبل أي شيء هو الحياة… ليس المال ولا الثراء، بل الحياة، أنفاسكِ، وجودكِ… كيف أستطيع العيش وأنا أراكِ تتوقين للموت؟”
لم تدرك سيرين مغزى كلماتها إلا عندما رأت يد فاطمة تُطبق على سكين الفاكهة.
اتسعت عيناها، وتجمد الدم في عروقها.
“فاطمة، ماذا تفعلين؟”
لكن فاطمة لم تجب وكأنها في عالم آخر. كانت شفتيها تتمتمان باعتراف مرير:
“لقد ربيتكِ حتى بلغت العاشرة، ثم… ثم تركتكِ. كل شيء حدث لكِ كان بسببي. حان الوقت لأكفر عن خطئي… أمام السيد تهامي!”
ثم ودون لحظة تردد غرزت فاطمة السكين في معصمها.
صرخة مكتومة خرجت من حلق سيرين، صرخة لم تحمل سوى العجز والخوف كمحاولة يائسة منها لإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه.
“فاطمة… لااااااا!”
لكن فاطمة لم تتوقف…
انهمرت دموع سيرين بغزارة كأنها أمطار أيلول الحزينة تسيل على وجنتيها بحرقة مذيبة قناع الصلابة الذي حاولت ارتداؤه طويلًا…. نظرت سيرين إلى معصم فاطمة حيث تبرّجت الجروح الحمراء بلونها القاني كصرخة ألم محفورة على الجلد… شهقت مرتجفة، وكأن صدى أنفاسها يتهدّج بين الخوف والرجاء، تقول باستجداءٍ:
— “لن أفعل شيئًا أحمق بعد الآن! فاطمة.. أرجوكِ توقفي…”
ما إن انطلقت الكلمات من شفتيها حتى توقف جنون فاطمة التي رمقتها بعينين متورمتين، محتقنتين بالدموع والغضب، ثم همست بصوت أجشّ يحمل بين نبراته استغاثة أخيرة:
“سيرين… لقد أديتِ دورك وأكثر! لم تعودي مَدينة لا لسارة ولا لظافر! لقد دفعتِ الثمن.. ولم يبقَ لكِ سوى الحياة! عيشي من أجلي.. ومن أجل الطفل الذي يكبر في رحمك!”
تجمدت سيرين لحظة وكأن الزمن توقف، كان صوت فاطمة يخترق جدران روحها ليعيد ترتيب الفوضى التي عبثت بها لسنوات.
صمتت سيرين لبرهة وهي تنظر إلى السماء عبر النافذة إلى تلك المساحة الرمادية الشاحبة، وقررت أخيرًا أن تحيا.. ليس من أجل أحد، بل من أجلها هي ومن أجل كيان صغير ينمو في أحشائها يستحق أن يولد في عالم أقل قسوة.
منذ تلك اللحظة، توقفت عن أن تكون ابنة لسارة، أو شقيقة لتامر… مقرة بأنه لم يعد يربطها بهما شيء سوى ماضٍ اختارت أن تحرقه كصفحات كتاب قديم امتلأ بالحبر الأسود… كانت فاطمة وطفلها المنتظر هما العائلة الوحيدة التي ستبدأ بها من جديد.
لكن فاطمة ورغم انتصارها في إقناع سيرين، لم تكن ترغب أن يتم هذا القرار بتلك الطريقة القاسية. لم تكن تريد أن تضطر إلى جرح نفسها لتبرهن لها أن الحياة أثمن من أن تُبدَّد في تسديد ديون الآخرين لكنها فعلت لأنها أرادت لسيرين أن تحيا لا أن تُذوى في ظلال من لا يستحقونها… ففي النهاية، لا أحد يختار العائلة التي وُلد فيها، لكن بوسعه أن يختار العائلة التي ينتمي إليها.
أما سارة لا تستحق ابنة گ سيرين… ما نوع الأم التي تنظر إلى ابنتها كدينٍ يجب تسديده؟!
لاحقًا، حين كانت سيرين لا تزال في المستشفى، علمت من كارم أن سارة هربت إلى الخارج كما لو كانت طريدة تهرب من ماضيها. لكنها لم تشعر بالحزن حيالها ولا حتى بالغضب… لم تعد سارة شيئًا في حياتها لقد انتهت ديونها منذ زمن، تمامًا كما انتهى ظافر من حياتها.
لكن كان هناك أمر أكثر إلحاحًا يطاردها.. حملها.
لم تكن سيرين تريد أن يعلم ظافر بالأمر. أجل… إن هذا الطفل لم يكن جزءًا من الخطة بل كان خطأ غير مقصود لكنها كانت تدرك أمرًا آخر.. إن ظافر يكرهها وإن علم بوجود هذا الطفل، فلن يرغب به أبدًا!
بعد ثلاثة أيامٍ من الرقود بين جدران المستشفى الباردة حيث كان الموت يغازلها من بعيد، كُتب لسيرين عمرٌ جديد… وقد نجت أخيرًا وكأن القدر منحها فرصةً أخرى رغم أن روحها كانت لا تزال مثقلةً بما حدث.
وعندما أُعلن عن تسريحها، طلبت سيرين من فاطمة أن تسبقها إلى الريف مصممةً على مواجهة ظافر أولًا وتسوية الأمور العالقة بينهما قبل أن تلحق بها فهي لم تكن مستعدةً للهرب أو الاختباء بعد الآن؛ كان عليها أن تواجه عاصفة حياتها حتى وإن كانت الرياح عاتية.
في اليوم ذاته، وبينما كانت تستعد لمغادرة المشفى، خطت أقدام طارق عتبات المكان إذ أن هذا المشفى كان مملوكاً لعائلة طارق وجده هو من حثه للقدوم إلى هنا لذا لم يكن طارق قد أتى هنا من أجلها بل ليستكشف أروقة الإدارة الطبية ساعيًا إلى فهم دهاليزها وإتقان إدارتها. لكن القدر—كعادته—لديه خططه الخاصة.
عندما وقعت عينا طارق على سيرين، كانت تقف إلى جوار رجلٍ آخر… إنه كارم.
للحظةٍ، تجمد طارق في مكانه وقد شعر وكأن الزمن قد التفّ حول عنقه كحبلٍ مشدود.
“سيرين؟! لكنها اختفت!” تمتم لنفسه، غير مصدقٍ لما تراه عيناه.
قبل ثلاثة أيام، في الخامس عشر من مايو، كان من المفترض أن تُنهي سيرين إجراءات طلاقها من ظافر. لكن في ذلك اليوم قد تبخرت وكأن الأرض ابتلعتها ولم يُعثر لها على أي أثر وكذلك لم يُسمع عنها شيءٌ.
تسلل الفضول والقلق إلى عقل طارق، فاقترب من إحدى الممرضات الكبار وسألها بصوتٍ حمل بين نبراته الشك والدهشة:
— “لماذا هي هنا؟ لماذا سيرين في المشفى؟”
لم يكن مدير المستشفى بعيدًا عن الموقف، وقد لاحظ القلق الذي بدأ يتسلل إلى ملامح طارق… وبإيماءةٍ سريعة أمر المدير أحد موظفيه بالبحث في سجلات المرضى عن أي معلوماتٍ تتعلق بسيرين.
مرّت ثلاثون دقيقة كأنها دهر، قبل أن يعود الموظف حاملاً بين يديه ملفًا ثقيلاً… تسلم طارق الوثائق، وما إن بدأ في قراءتها حتى تجمدت ملامحه.
كان عقله يصرخ بالدهشة، وعيناه تسبحان بين السطور، غير قادرتين على استيعاب الحقيقة التي انكشفت أمامه.
سيرين لم تختفِ يوم الخامس عشر من مايو… بل حاولت إنهاء حياتها!
تناولت كميةً من الحبوب المنومة، راغبةً في إغلاق هذا الفصل من حياتها إلى الأبد… لكن القدر، مرةً أخرى، أبى أن يستجيب لرغبتها… غير أن الصدمة الحقيقية لم تكن في محاولتها للانتحار، بل في ذلك الخبر الذي جعل قلبه يخفق بعنفٍ غير مألوف…
كانت حاملًا.
ازدحمت الأسئلة في رأسه كزحامِ مدينةٍ صاخبةٍ عند الغروب. كيف؟ متى؟ ولماذا؟
رفع عينيه ببطء، وسأل الموظف بنبرةٍ حادة:
— “هل أنت متأكدٌ من كونها حامل؟! كيف وقد كان ظافر كان على وشك تطليق سيرين تهامي؟”
أومأ الموظف بالإيجاب، مؤكدًا المعلومة فازدادت تعابير طارق برودة، وتصلب فكه بينما يستعيد في ذهنه صورة الرجل الغريب الذي رأه برفقتها لحظة خروجها من المستشفى.
شعورٌ مبهمٌ بدأ يتسلل إلى صدره، شيءٌ أشبه بشكٍ قاتم، تساؤلٌ لم يجد له إجابةً بعد:
هل ذلك الطفل ينتمي لظافر حقًا؟ أم أن للقصة وجهًا آخر لم يُكشف بعد؟
لم يكن طارق متأكدًا مما إذا كان عليه إخبار ظافر أم لا. كيف يمكنه أن يزج بهذه القنبلة وسط حياةٍ تنهار بالفعل؟
وفي النهاية، قرر أن يتصل بدينا، ليطلعها على ما اكتشفه. دينا… المرأة التي أنقذت حياته ذات يوم كما يعتقد الجميع جاهلين الحقيقة الخفية التي طمستها دينا فقد كان طارق يشعر بالولاء المطلق لدينا التي لم يعد لها أحدٌ في هذا العالم سواه .
في وجهة نظر طارق قد تكون دينا هي الوحيدة القادرة على مساعدته… لكنه لم يكن متأكدًا إن كان ذلك سيفيد أم سيزيد الأمور تعقيدًا.