رواية غرام عكس التيار (فهد چوانا) كاملة(جميع الفصول مكتملة) بقلم الكاتبة أسماء حميدة الفصل الخامس 5

رواية غرام عكس التيار للكاتبة أسماء حميدة الفصل الخامس

الفصل 5

قالت شروق، وقد ارتسم على شفتيها انحناءة خبيثة تُخفي خلفها نوايا لا يُستهان بها:

“أي ثوبٍ فاخرٍ ذاك الذي تظنّ أنه سيُخفي جوهرها القرويّ؟! ستبقى فتاةً ساذجة مهما حاولت أن تتقمص دور النخبة!”

لم يكن في قلبها ذرة خوف من أن يلومها هاني على سخريتها اللاذعة من چوانا بل على العكس كانت تتباهى في أعماقها أنها قد منحتها أثمن ما في خزانتها من فساتين. وكأنها تقول لنفسها في مزيج ساخر من الكرم والخُبث: “هي من اختارت أن تأتي هذه الليلة تحديداً لتفسد حفل عيد ميلادي فلا تلومنّ إلا جهلها بذوق المدينة!”

ولم تكتفِ شروق بالفستان وحده بل دسّت بين خطوات چوانا عقبة أخرى؛ حذاء بكعبٍ عالٍ، يبلغ ارتفاعه أربع بوصات وكأنها أرادت أن تجعل من كل خطوةٍ تخطوها چوانا رقصة على خيط رفيع بين الأناقة والسقوط.

ضحكت في سرّها قائلة:

“أراهن أنها لم ترتدِ مثل هذا الحذاء في حياتها قط! حتماً سيخونها السلم… ستتعثّر وستتهاوى أمام أعين الجميع… يا للروعة!”

أحست شروق بفخرٍ يكاد يُسْكرها، شعور بالدهاء كأنها على وشك أن تصفق لنفسها وسط التصفيق المتوقع من الحاضرين لا حبًا، بل شماتة.

وتمتمت بنبرة مشبعة بالغلّ:

“سيرى الجميع… سيرى فهد وكل من حضر أن هذه الفتاة لا تستحق أن تُدعى أختي! ستفضحها أناقة لا تليق بها وسأجعلهم ينسون اسمي حتى لو أخفقتُ الليلة كل ما سيتذكرونه حماقة تلك القروية المقيتة.”

ثم رفعت صوتها تخاطب چوانا التي لا تزال حبيسة الحمّام تتأهب للحظة الصعود غافلة عما يحاك لها:

“چوانا… سأكون في الأسفل حسنًا؟ كعكة عيد الميلاد على وشك أن تُقدم فانزلي حين تنتهين من استعداداتك.”

جاءها صوت چوانا من خلف الباب خافتًا كأنّه يتردّد في أرجاء المكان:

“حسناً…”

وبعد أن بلغها الرد التفتت شروق على عجل وغادرت المكان وقد تراقصت خطواتها على الأرض كأنها تسير نحو انتصار وشيك.

“ليبدأ الحفل…” همست لنفسها بلهجةٍ مفعمةٍ بالنشوة، “ليبدأ الآن حتى يرى الجميع وعلى رأسهم فهد مدى ابتذال هذه القروية المضحكة.”

قالتها ومن ثم ترنّمت بلحنٍ فرح أو ربما نشاز لا يسمعه سواها وهي تنزل السلم بخفةِ المنتصر، فقد كان قلبها ينبض بالحماسة وكأنها نسيت الإهانة التي ألحقها بها فهد قبل ساعات لكنها لم تنسَ أن تنتقم.

قالت في نفسها وقد اشتدّ بريق العزم في عينيها:

“سيُنسى كل شيء… وستبقى صورة چوانا في أذهانهم وهي تتخبط كطفلةٍ ترتدي ثوب ملكة.”

عندما عادت چوانا إلى الغرفة كانت خطواتها هادئة ولكن قلبها يمور بغليان خفي كأنها تمشي فوق جمرٍ تتظاهر أنه رماد… نظرت إلى انعكاسها في المرآة ثم مدت يدها إلى الفستان، ذلك القماش المخمليّ الناعم الذي يخبّئ ما هو أبعد من الأناقة… يخبئ نوايا.

عدّلت موضعه برفق كأنها تطوّع جسدها ليتصالح معه ثم مالت بجذعها قليلًا تتحسس الثنيات والتفاصيل… كانت تدرك بكل حدس الأنثى المتوجسة أن شروق لم تمنحها هذا الفستان إلا بدافع دفين مغلفٍ بالنية السوداء.

لكنها بدهاء هادئ خرجت إلى قاعة المعيشة ووجدت هناك صندوق الخياطة المهمل في أحد الأدراج كأنه كان ينتظرها منذ زمن… حملته إلى غرفتها بعناية كمن يستعد لإجراء جراحة تجميلية لفستان وُلد مشوّهًا عن عمد.

جلست چوانا أمام المرآة وخيطت، وعدّلت، وأعادت رسمه على مقاسها كما ترسم الريشة لوحة على سطح هادئ من الماء.

وحين انتهت نظرت إلى نفسها في المرآة… فانحبست أنفاسها للحظة كأنها رأت امرأة أخرى تخرج من قلب الزجاج.

كان الفستان يعانق جسدها النحيل في دقة مبهرة يبرز طولها بانسيابية ويُظهر عظام الترقوة كما لو كانت منحوتة من الضوء… فأسبوعٌ واحد على الجزيرة وسرُّ الجمال قد استيقظ فيها كأن الفستان صُنع من أجلها. لا، بل كأن خيوطه كانت تنتظر أن يلمسها جسدها لتبدأ الحكاية.

همست بدهشة:

“منذ متى كانت شروق بهذا الكرم؟ هل أخطأتُ في الحكم عليها؟ أم أنها لحظة ضعف…؟”

لكن شيئًا في داخلها ظل يقرع كجرس إنذار خافت، صوت لا يُرى ولا يُلمس فقط يُحَسّ… فتوقفت وخلعت الفستان برفق كأنها تجرّد نفسها من وهم وبدأت تُعيد فحصه… تارةً تحت الضوء، وتارةً بين طيات القماش كأنها تبحث عن فخٍ صغير، دبوسٍ سام، أثرٍ للمكر.

خمسُ دقائق من التمحيص ولم تجد شيئًا.

“غريب…” تمتمت چوانا وقد ازدادت حيرتها بدلًا من أن تهدأ.

ارتدت الفستان مجددًا واقتربت من المرآة أكثر وبدأت تراقب القصّات، النقوش، وكيف تحتضن منحنيات الجسد وتبوح بخباياه فأدركت حينها أن ارتداء هذا الفستان ليس بالأمر الهيّن… فلا يكفي أن تكون المرأة طويلة القامة بل عليها أيضًا أن تمتلك كتفين عريضين وذراعين رشيقتين وانحناءة صدر متوازنة تُكمل اللوحة… الفستان لا يغفر؛ إمّا أن يحتفل بك أو يفضحك.

ابتسمت چوانا بخفة وارتفعت زاوية فمها بنصرٍ هادئ.

“آه، شروق… كانت هذه نيتك منذ البداية، أليس كذلك؟ أردتِ أن أبدو كأضحوكة لكنك لا تعلمين أنني أتمرّن كل يوم وأن جسدي لا يخونني… الفستان خانك أنت.”

شعرت بلذة المفارقة، لذة الانتصار على نوايا خفية.

في البداية كانت چوانا تنوي أن تتوارى أن تبقى ظلًّا في الحفل لا تستجدي نظرات أحد ولا تزاحم حضور صاحبة العيد لكن ما فعلته شروق بدّل كل شيء بل فجّر بداخلها شيئًا نائمًا… والآن لم يعد الانسحاب خيارًا بل بات التقدم ضرورة كأن كيد شروق لم يوقظ الحسد بل أيقظ الثورة.

قالت في نفسها وهي تحدّق إلى صورتها في المرآة كأنها تواثق روحًا توشك أن تخرج:

“لو كان لا بد من أن أُشعل عش الدبابير في هذه العائلة فليكن… حين تعمّ الفوضى تتعرّى الحقيقة.”

حين ارتدت چوانا الحذاء الفضي الذي اختارته شروق شعرت وكأنها تضع قدميها في فخّ لامع… كعبه شاهق كأنما يستدرج التوازن من تحتها ليلقي بها في هاوية… خطوة واحدة خاطئة كفيلة بأن تجعلها تنهار كبرجٍ من زجاج، ومع ذلك خرجت من الغرفة بخطى محسوبة تشبه من يسير فوق حافة سيف، لا خوفًا، بل بتحدٍ يُخفيه المظهر المتماسك.

في الأسفل كانت شروق قد سبقتها إلى الحلبة وأشعلت أنوار القاعة كلها حتى بدت كأنها تحاول أن تحرق الظلال ذاتها.

كانت الزينة مبالغًا فيها إلى حدٍّ مبتذل وكأنها تحاول أن تغطي فراغ القلب بزخرف الحيطان… تراقصت أضواء الشمعدانات وتلألأت الكؤوس في أيدي الضيوف بينما كانت الكلمات تسيل من شفتي شروق كالعطر الزائف.

وفي زاوية من القاعة كان فهد واقفًا بين الحشد، أنيقًا كلوحة في متحف صاخب… لم يكن معنيًا بالحفل ولا بالأزياء المتغطرسة التي تتسلل بين الأضواء بل بقى فقط ليودّع چوانا تلك الغريبة التي سحبته من الموت.

كان فهد يرى شروق فتاةً حادّة الحواف وقليلة الذوق لكنه بقي لأن النُبل لا يحتاج مبررًا وليس من أجل الاحتفال.

وقفت شروق على منصة صغيرة وراحت تبحث عن عينيه بين الوجوه وعندما لمحته انعقدت في داخلها أوهام لا تُحصى وقالت في نفسها:

“ها هو ذا… بقي من أجلي، أليس كذلك؟ لا شك أنه يشعر بالحرج من الاعتراف بمشاعره تجاهي… الرجال الأقوياء لا يعترفون بسهولة!”

اقتربت من الميكروفون وصوتها يحمل نغمة مصطنعة من الرقة المصقولة:

“مساء الخير سيد فهد… نورت الحفل بحضورك… أنا سعيدة جدًّا لرؤيتك هنا.”

قطّب فهد حاجبيه وانكمشت ملامحه كمن تذوق شيئًا فاسدًا.

من هذه؟ ولماذا تتصرف وكأننا على معرفة عميقة؟

ثم التفت بعينيه كأن روحه تبحث عن چوانا.

“أين تلك الفتاة؟ لماذا لم تأتِ بعد؟”

كانت شروق لا تزال تُمعن في خطابها، تلوّن الجمل بألوان زائفة وتحاول بكل ما أوتيت من حيل أن تُسقط فهد من عليائه إلى أرضها، وفي تلك اللحظة اقتربت منها مدبرة المنزل وهمست في أذنها كمن يسلّم سرًا:

“السيدة چوانا قادمة الآن.”

توهّجت مقلتا شروق ثم مالت برأسها وقالت:

“رائع! أشعلوا جميع الأضواء القريبة من السلم! أريد أن يرى الجميع المهرّجة وهي تهبط من عليائها الزائفة.”

“حاضر يا آنسة!” أجابت الخادمة بانحناءة سريعة.

وفجأة انطلقت الأضواء لتضيء السلالم مسلطةً وهجها على كل درجة كأنها تفرش طريقًا من نار لمن ستنزل.

ضحكت شروق في سرّها وهمست بمكر كمن يُلقي تعويذة:

“اقترب العرض! لا أطيق انتظار تلك اللحظة التي تصعد فيها إلى خشبة السخرية!”

عادت شروق إلى الميكروفون وتكلفت انفعالًا زائفًا وهي تقول:

“سيداتي وسادتي… اليوم هو يومٌ مميزٌ لعائلتنا… اليوم عادت أختي – أختي من جهة الأب – إلى الديار أخيرًا! لقد اختُطفت على يد تجار البشر منذ عشر سنوات وعادت اليوم من قريتها البعيدة! كم أنا سعيدة!”

لكن قبل أن تنهي جملتها انقطعت الجملة كما تُقطع خيوط الكذب عند أول حقيقة إذ التفت الجميع بوجوههم والتقطت آذانهم وقع خطوات أنثوية على السلم.

ارتبكت ملامح شروق وارتعشت زوايا فمها في محاولة يائسة لقمع ابتسامة متشفية، ثم رفعت يدها وأشارت:

“لنُصفق جميعًا… لِنرحب بأختي الجميلة!”

ضرب التصفيق القاعة على استحياء فلا أحد يعلم حقًا من تكون هذه القادمة ولا لماذا وجب عليهم الاحتفال بها لكنهم صفقوا… لا حبًا بل احترامًا لاسم عائلة الأسيوطي الذي يفرض الطاعة بصمت وإلا؟ لما التفت أحدٌ إلى فتاة قروية تشبه المتسولات في مخيلتهم لكن چوانا من أعلى الدرج لم تكن تلك الصورة.

فقد سمعت كيف قدّمتها شروق فتراقص حاجباها بدهشة ساخرة ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة ناعمة كأنها تقول في صمت:

“يا لها من مقدمة… كم تتمنين أن أتعثّر، أليس كذلك؟ لكن اسمحي لي أن أريك كيف يبدو السقوط حين يكون صعودًا.”

چوانا لم تكن ممن يعتزون بمظهرهم فلطالما رأت الجمال قناعًا هشًّا لا يصمد أمام صراحة العين لكن اليوم أرادت أن تستخدمه كسلاح، لا… عجب… لا بل وعد… وعدٌ بأن ترى شروق انعكاسها الحقيقي في مرايا عيون الآخرين وقد اختلطت بالخذلان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top