رواية غرام عكس التيار للكاتبة أسماء حميدة الفصل الثاني حصري على موقع دريمسيز

Side view of a couple sharing an intimate moment with closed eyes under soft lighting.

كان الليل قد أسدل عباءته الثقيلة على الكهف الذي لم يُسمع فيه سوى أنفاسٍ متقطعة تحاول الهروب من جدران الصمت.

استلقى الاثنان على جانبي الكهف وكلٌّ منهما غارقٌ في شرنقة أفكاره كأنما ابتلعتهما عوالمٌ متوازية لا يجمعها سوى ظلمة واحدة. 

ثم… شقّ السكون أنينٌ خافت كنبضةٍ مختنقة أو صرخةٍ مكبّلة تحت الركام.

فتحت “چوانا” عينيها على مهل وجفنيها يرفضان الاعتراف بالخطر، ثم اتسعت حدقتيها فجأة تحملقان في العتمة كمن يبحث عن طيفٍ مجهول.

استدارت چوانا جهة الصوت فرأته… منكمشًا على نفسه كصفحةٍ طُويت بعنفٍ في روايةٍ ممزقة.

وجهه كان باهتًا شاحبًا يشبه الأموات فقد أصبحت بشرته بيضاء كالجليد المتيبّس وقطرات العرق تنزف من جبينه كندى حزينٍ يتساقط من ورقةٍ تحتضر في صباحٍ شتوي. 

أخذ الغريب يتلوّى في صمت كمن يخوض معركةً مع عدوٍّ خفيّ.

زحفت چوانا نحوه بقلقٍ يشبه النداء الأخير ويدها امتدت إليه كنسمةٍ مرتجفة تبحث عن الحياة. 

لامست ذراعه تهزه برفق لكن لا ردّ… ولا حتى ارتعاشة. 

كان ساكنًا أكثر من اللازم كأنّ الألم قد انتزع وعيه وسجنه داخل ذاته.

“أيها الأحمق هل تسمعني؟ هل أنت بخير؟!”

قالتها ونبرتها تحمل مزيجًا من الذعر والرجاء أخذت تصرخ لتوقظ فيه ما تبقّى من حياة.

لكن الصدى وحده أجابها.

بسرعةٍ يائسة مدّت يدها المرتجفة نحو صدغه وما إن لامسته حتى ارتدّت قليلًا… فجلده كان متوهجاً بحرارةٍ مرعبة كجمرةٍ دفنت تحت الرماد لكنها لا تزال تحترق.

الحُمّى كانت تشتعل فيه كحريقٍ داخلي يلتهم خلاياه بنهم أو كـَ سمّ يجري في عروقه كما يسري الليل في جسد المدينة.

شعرت به فتلك اللحظة القاتلة حين يفهم الجسد أنّه لم يعد يقاتل بل يُهاجم من الداخل، أجل إنها توقن تمامًا أنه قد التهب جرحه والسمّ بدأ يغرس أنيابه.

همست في نفسها والقلق ينهش عقلها:

“لو كان لديّ بعض الأموكسيسيلين… لو كنتُ فقط أملك أي مضاد حيوي لكان بإمكاني إنقاذه… لكن من أين لي بذلك في جزيرةٍ لا يسكنها سوى الصمت وبعض الأشباح!”

نظرت إليه ولم تعد ترى رجلاً فقط بل جسدًا يخوض حربًا دون سلاح ودون طبيب، ودون وعدٍ بالنجاة وهي الوحيدة التي تُمسك بخيط الحياة لكنه خيطٌ واهن على وشك أن ينقطع.

انحنت فوقه كما تنحني الصلاة فوق قبرٍ مفتوح تحدّق في ملامحه الممزقة بالألم كأنها تقرأ خارطة زمنٍ يوشك على الانتهاء.

شهقت بفزع فقد علمت من النظرة الأولى إلى وجهه أنه لا مهرب من القرار ولا فكاك من المجازفة فالحمّى تشتعل في عروقه مثل ثعبانٍ ناري يلتفّ حول قلبه، يضغط، يزأر ويهدّد بالانقضاض.

بأناملٍ مرتجفة كأنها تعزف على وتر الحذر بدأت تفكّ أزرار قميصه حتى يُبرد هواء الليل جسده المحموم فلا حياء حين يداهمك الموت. 

الجلد تحت أصابعها بدا كورقةٍ محروقةٍ من كتابٍ منسيّ وحرارته أشبه بلهيبٍ هائج يحاول كسر حدود الجسد.

لكن… ما إن خفّ وهج الحمى قليلاً حتى داهمته ارتعاشة مفاجئة كأن أحدهم ألقاه وسط عاصفةٍ ثلجية في أقاصي الجحيم. 

شفتاه المزرقّتان انفجرتا بتمتماتٍ لا يفهمها سوى من تحدّث بلغة الألم لكنه لفظها بوضوحٍ كافٍ ليهزّ قلبها:

“الطقس… بارد… ما عدتُ أشعر بأطرافي، ساعديني أرجوكِ”

اهتز ثباتها وهي تستمع إلى رجاءه فعضّت على شفتها بـ حيرة… كانت تلك اللحظة الفاصلة لا تقبل التردد إنه يحتضر.

أسرعت چوانا تدفع جسده الهزيل إلى قرب النار علّ وهجها يتسلل إليه لكن النار لم تكن أكثر من وهجٍ خادع إذ ظلّ جسده يرتجف كوترٍ ممزق.

“اللعنة…”

لفظتها كأنها تطرد بها كلّ ما بقي من منطق.

ثم وبلا تفكير انخلع من ذهنها أي ذرة تعقل ونزعت ملابسها بهدوء عاصفة على وشك الاجتياح ثم زحفت نحوه واستلقت بجواره تحتضنه بذراعيها تذيب المسافة بينه وبين الحياة.

لم تعد تفكّر لا في الحياء ولا في المنطق، فلم تهتم إن كان أحمقًا أو إن كان غريبًا جلّ ما كان يهمها أن تبقيه حيًا فإنقاذ حياةٍ ما في هذا العالم المجنون ربما يكون السبيل الوحيد لنجاتها…

راحت الأفكار تنخر في رأسها كالسوس الذي تختبئ بين شقوق الوعي:

“إن كانوا من حاولوا قتلي هم ذاتهم من جاءوا بي إلى هنا… فماذا تحاول عائلة الأسيوطي إخفاءه وتخشى أن أكشفه؟ وإن كان الأمر كذلك… فأنا لن أرحم.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top