خدرُ الإرهاق بدأ يتسلل إلى أطرافها يُغشي وعيها رويدًا وفكرة واحدة سيطرت عليها ألا وهي حالما غرقت السفينة كانت في عرض البحر وعندما استفاقت وجدت نفسها هنا فلابد من وجود يد خفية تريد أن تعزلها عن العالم.
غفَت وهي لا تزال تحيط جسده بجسدها كأنها آخر مَن يحرس روحه من الانطفاء
لكن النوم ككل شيءٍ في هذه الجزيرة لم يكن هادئًا.
استفاقت فجأة على وقع خطواتٍ مبهمة تدقّ على الأرض خارج الكهف كأنها طبولٌ تُعلن الحرب.
اتسعت عيناها تحاول النهوض ولكن عضلاتها تيبّست كوترٍ مشدود على وشك الانقطاع.
“هل هناك أحد؟!”، السؤال كان أضعف من أن يُقال بصوت مسموع فجلست ترتجف من شدة الخوف تتلمّس الأرض إلى جانبها بحثاً عن ذلك الغريب الذي كانت تسعفه ليلة أمس لكن ما صدَمها لم يكن الخطوات بل الغياب، لقد اختفى
لكن سترت كانت فوقها مسدلة كغطاء نجاةٍ أُلقي من طائرةٍ تهوي.
نهضت بسرعة ترتدي ملابسها بارتباكٍ كمن يجهز حاله لجنازةٍ لا يعرف مَن الميت فيها.
أخذ قلبها يدق لا بل يعصف كأنها طبولُ معركةٍ على وشك أن تبدأ.
خطت خارج الكهف تتقدّم بحذر وكل ذرة في جسدها تصرخ، وقد غزت عقلها أفكار شتى تمتمت بها بخفوت:
“فإن كانوا هم من حاولوا قتلي… فكم من الدماء جفّت على أيديهم؟ وكم بقي لي من الوقت قبل أن أصبح أنا الضحية التالية؟”
حينما بلغت “چوانا” مشارف الكهف كان صدرها يعلو ويهبط كأشرعةٍ في مهبّ الإعصار، زنبضات قلبها تدقّ أبواب الغيب كأنما تهمس لها الأرواح بشيءٍ لم يُكتب بعد.
أمامها على مشارف الظلام كانت الجبال ترسم ملامح غولٍ نائم وفوق عتبة السواد وقف صفٌ من الحراس كأنهم أشباحٌ نُسجوا من عتمة يرتدون ثيابًا داكنة وفي الأفق البعيد ارتجفت السماء بنبضات مروحية تدور كما يدور قدرٌ غامض فوق رؤوسهم، وعلى مقربة من الكهف وقف قائد الحراس يُحادث رجلاً بدا وكأنه خرج لتوّه من رحم الموت ثم فجأة استدار الرجل.
كانت تلك اللحظة كأنها خلقت لأجلها فقط أول مرة تراه فيها بكامل ملامحه تحت ضوءٍ لا يخون.
وجهه الشاحب بدا كقمرٍ مثقوب وسامته لا تطمئن بل تثير ارتيابًا غريبًا في أحشائها وكأنها أمام لغزٍ نُحت من الجمال والخطر معًا.
لم يتحرك لكن وقوفه وحده كان يكفي لإشعال الرعب في الهواء كأنه ظلٌ تمرد على صاحبه أو سرٌ تحوّل إلى جسد وبالرغم من أنه بدا كأي رجل إلا أن شيئًا في حضوره كان يصرخ: “أنا لست منهم”… أسرارٌ تتلوى في ملامحه معانٍ لا تُقال وشظايا حياةٍ لا تُروى.
قالت في سرّها وقد اتسعت حدقتاها كمَن يشهد معجزة:
“إنه يتعافى بسرعة غير طبيعية وكأن جسده يرفض الموت.”
همّت أن تتكلم أن تُخرج ما ظلّ عالقًا بين صدرها وحنجرتها غير أن صوته سبقها ناعمًا كالسّم بارداً كحدّ السكين يحمل بين طبقاته قسوة لا تُقال لكنها تُشعَر:
“ماذا تريدين؟”
تجمّدت الكلمات في حلقها كما لو أن السؤال كان سهمًا طائشًا أصابها في الروح.
. أجابت بدهشةٍ يملؤها الذهول:
“ماذا؟”
كان سؤاله أقرب إلى صفعة لا تُوجع الجسد بل تشتّت الفكر وتغرق الوعي في لجّة من الاحتمالات.
اقترب منها خطوة وبالرغم من أن صوته لم يرتفع لكنه كان ملأ الفضاء من حولها.
نظر إليها بعينين باردتين خاليتين من أي معنى أو دفء وقال بنبرة لا تحمل أثرًا للامتنان:
“لقد أنقذتِ حياتي… لذلك، سأمنحكِ أمنية، ماذا تريدين؟”
ارتبكت “چوانا” وتحوّلت كلمات الرجل إلى ومضات برقٍ تصدح في رأسها كأنّها صدى لرعدٍ لا يهدأ يضرب أعصابها بلا رحمة.
ثم وكأن شرارةً اندلعت في صدرها فانفجرت الكلمات من فمها كطلقة طائشة:
“يا له من جفاء! أنقذتك من فم الموت ولم تملك حتى أن توفيني حقي بكلمة شكر؟! حتى عرضك هذا يفوح بغطرسة فجة أيها الأحمق”
ما إن خرجت حروفها حتى عمّ الصمت كأن الزمن توقّف ليصغي، والتفتت عيون هؤلاء المصطفين خلفه كجيش دفاع نحوها يرمقونها بذهول وكل نظرة كانت أشبه بخنجرٍ يوشك أن يغوص في عنقها.
أعين الحراس لم تكن تنظر إلى وجهها بل إلى داخلها كأنهم يفتّشون في صدرها عن نوايا خفيّة أو جنونٍ طافح.
أما هو… ذلك الرجل الغريب فبقي جامدًا كتمثال حُفر في الرخام لا طرفة عين ولا رعشة في عضلة وجهه، لكن صوته انساب بعدها كنصلٍ بارد ينزلق على العنق:
“ستندمين… إن ضيّعتِ الفرصة.”
تسرب الغضب في شرايينها كسمٍ دافئ لكن عقلها كان كربّانٍ يترنّح على متن مركبٍ متهالك وسط بحرٍ لا يعرف الرحمة، فقالت بتراجع:
“قاربي لن يصمد في هذه الأمواج… والبحر لا يعرف الشفقة.”
صمتت للحظة فهي تعلم أن الحظ قد غادرها وتركها تواجه لعبة الحياة وحدها تلك اللعبة التي قد تنقلب في لحظة إلى مأساة لا رجعة منها.
ضغطت على أسنانها كأنها تحاول أن تقضم حيرتها ثم قالت بصوتٍ مكتوم:
“أعيدوني إلى المنزل.”
رمقها الغريب بنظرة باردة عميقة كمن يرى في طلبها خيبة أو سذاجة لا تليق بالمكان.
“هذا كل شيء؟”
سؤاله كان كالسياط لا يجلد الجسد بل يجلد الطموح.
أجابت دون أن تبرق في عينيها أيّ رغبة فقط حاجة عميقة للهروب:
“هذا كل ما يهمني الآن… ربما فيما بعد سأُملي عليك أمنياتي”
أمنيتها الوحيدة التي ظلت تخبّئها خلف ضلوعها كانت بسيطة… النجاة من هذا الكابوس الحجري… أجل فجزيرةٌ مهجورة كتلك حتماً محاصرة بالأشباح بدت كقبرٍ مفتوح ينتظرها أن تستلقي فيه وقد آن لها أن تهرب قبل أن يُسدّ الغطاء.
نظر إليها مجددًا وهذه المرة لم يُخفِ سخريته كأنّه يرى طفلةً تظن نفسها قادرة على اقتحام نيران لعبة الكبار ثم التفت نحو المروحية بخطى بطيئة كل خطوة منه كأنها تصفع الأرض.
تبعته “چوانا” دون كلمة في صمتٍ يشبه انسحاب القمر خلف غيوم الشتاء.
مرّت ثلاث ساعات كأنها ثلاثة أعوام والمروحية تقاوم السماء تصارع رياحًا ملأى بالمجهول حتى بدت المدينة تحتهم كلوحة قديمة بُعثت من الرماد.
كانت السماء ملبدة كأنها تخبّئ شيئًا في قلبها.
“هل هذا هو المكان؟”
سألها الرجل ببرودٍ أشبه بصفعة جليدية وهو يشير إلى قصرٍ عتيق بدا كأثرٍ من زمنٍ مضى قابعًا وسط الغيوم كروحٍ تائهة ترفض الرحيل.
أجابت “چوانا” وصوتها متكسّر تحت ثقل الذكريات:
“أظن ذلك…”
كانت تحاول الإمساك بخيوط الذاكرة تلك التي تفلت دومًا من بين يديها، فهي لا تتذكر الكثير عن طفولتها فقط شذراتٍ ضبابية، صورًا مهشّمة كزجاجٍ طُعن بحجر… لكنها كانت كافية لتقودها إلى هذا المكان، هذا القصر الذي حمل ملامح العائلة التي اختفت من حياتها كما تختفي الشمس خلف الغروب.
من المفترض أن يكون هذا القصر لعائلة المفتي، لكن كل شيء قد تغيّر إذ أصبح ملكًا لرجلٍ واحد، رجلٌ لم يكلف نفسه عناء البحث عنها حين ابتلعتها العزلة لعشر سنوات كاملة، إنه والدها… رجلٌ جاحد صنع من الغياب وطنًا ومن الصمت إرثًا.
قطع الغريب السكون بأمرٍ حازم:
“أنزِلوا.”
فأجابه الطيار على الفور كما لو أن الصمت نفسه انحنى:
“أوامرك سيدي، نحن على وشك الهبوط.”
غرام عكس التيار للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ