رواية غرام عكس التيار للكاتبة أسماء حميدة( كاملة وحصرية وبدون إعلانات) الفصل الرابع 4

Happy couple in love embracing on a sandy beach by the ocean.

الفصل 4

انتظرها وهو يراها تُسلم نفسها للقدر كما تسلّم زهرة ذابلة أوراقها للريح حتى تحوّلت في أعين الجميع إلى مشهدٍ هزليّ وكأنها ارتضت أن تكون أضحوكة محزنة أمام مسرح الأعين المتربّصة.

خفض فهد نبرته وكأن صوته خرج من أعماق قلبه ولا يعرف السبب وراء سخطه لما يحدث معها، وقال:

“هل هذه هي إرادتك الحقيقية؟ إن أردتِ سأمنحك أمنية أخرى لحياة مختلفة.”

رفعت چوانا حاجبيها في اندهاش لم تخفِه، ونظرت إليه كأنها تستجوب يقينه ثم قالت بسخرية مبطنة بحزنٍ عميق:

“فرصة أخرى؟ أمنية أخرى؟ هل تظن نفسك جنيًّا خرج من مصباحي السحري؟”

عمّ الصمت فجأة جراء تجاوزها بالحديث مع فهد الاقتصاد وسرت الدهشة كتيار كهربائي بين الحضور حتى شروق وسوسن تبادلتا نظرات حائرة تتساءلان بصمت:

**ما الذي يحدث؟ هل يعرف هذا الفهد تلك المتشردة؟**

ثبت فهد نظره في عينيها كما لو أنه يبحث عن شظايا عقل بات في طي النسيان إنها بلهاء حقاً لا تعرف وضعها بين هؤلاء، وقبل أن يتفوه بكلمة، قاطعه صوت هاني الذي اقتحم المشهد بابتسامة مصطنعة:

“لقد أسعدتني رؤيتك سيد فهد! لماذا لم تخبرني بقدومك؟”

أُسقِط في يد الحضور، وبدت علامات الذهول مرسومة على الوجوه، كأنما نُزعت أقنعتهم دفعة واحدة.

بينما أغمضت سوسن عينيها بتوجس عاجزة عن تصور ما ستؤول إليه الأمور إذ اتضح عدم معرفة فهد لزوجها وسيتكرر نفس المشهد السخيف الذي حدث معها ومع ابنتها منذ قليل… وتمتمت في سرها بأعين متحلقة:

**ما الذي يحدث بحق السماء؟**

بدأ هاني يستشعر خللاً في الجو، نظرات الناس، الصمت المطبق، وجود فهد المتوتر…

تجول بعينيه حتى وقعتا على چوانا، وفجأة تقلّصت ملامحه كمن ابتلع مرارة النسيان.

استدار إلى شروق وسألها بامتعاضٍ ظاهر:

“لماذا أحضرتِ متسولة إلى حفل عيد ميلادك؟ أخرجيها فورًا!”

تجمدت شروق وإن كانت في أعماقها تتلذذ بتلك الفوضى لكنها حاولت التبرير بصوت مرتجف:

“أبي… إنها…”

لكن چوانا كانت أسرع تقدّمت خطوة وحدّقت فيه قائلة:

“أبي؟… ألا تتذكّرني؟ أنا چانا!”

ذاك الاسم القديم “چانا” خرج من فمها كصړخة مكتومة من الماضي جعلت هاني يرفع حاجبيه في صدمة كمن لسعته الحقيقة:

“چا… چوانا؟”

أومأت برأسها وخطت نحوه خطواتٍ ثقيلة كأنها تعبر حقولًا من الأشواك:

“نعم يا أبي… أنا چوانا.”

كانت ذاكرتها ثقوبًا من الغموض، لم تتذكر شيئًا بوضوح منذ عقدٍ من الزمن لكنها لم تنسَ ملامح هذا الوجه.

ترنّح هاني كأن الأرض اهتزت تحت قدميه، وبدا كمن رأى شبحًا يخرج من تابوت أسراره.

الخۏف نُقش على وجهه خيطٌ من العرق انحدر على جبينه وتكهربت أطرافه من الذهول وقد خشى أن يفتضح أمر ما فعله معها.

أما چوانا فأدركت تمامًا ما يدور في خلده فابتسمت ابتسامة عتيقة وقالت بصوتٍ مغمور بالشوق:

“لم نلتقِ منذ سنوات طويلة… اشتقت إليك كثيرًا.”

لم يستطع هاني التفوّه بحرف بل اكتفى بوضع يده المرتجفة على كتفها وتظاهر بابتسامة باردة:

“مرحبًا بعودتك صغيرتي… لكن ما الذي حدث لكِ وللسيد فهد؟ أنتما تبدوان… في حالة مزرية.”

بدأ الحاضرون يلتفتون فجأة إلى ملابس فهد المبللة فقد كانوا منشغلين بحضوره المهيب عن مظهره الخارجي.

أما شروق فقد رمقت چوانا وفهد بنظرة مشوشة تتقاذفها الأسئلة:

**هل هناك شيء خفي بينهما؟**

**هل يُعقل أن يقع فهد في حب فتاة قروية؟ هذا مستحيل… إلا إذا كان قد فقد بصره!**

وسرعان ما شعرت سوسن بأن الأجواء أصبحت خانقة فبادرت بكلمات تنقذ الموقف:

“أعتقد أن السيد فهد هو من أحضر چوانا إلى هنا.”

قالتها بنبرة توحي بالتقدير كأنها تفرش بساطًا لفهد أمام أعين هاني.

“حقًا؟”

قالها هاني بإنتشاء وبدت ملامحه ترتخي شيئًا فشيئًا وتحولت النظرة في عينيه من اشمئزاز إلى تفكيرٍ استراتيجي.

**فتاة صغيرة، فاقدة لدفء العائلة، عائدة من النسيان… هل تجهل ما فعلناه بها؟**، وتقاذفته الأفكار وهو يرسم قصور في الأحلام:

**تخيل فقط كم يمكننا الاستفادة إن استطعنا استغلالها للتقرب من فهد.**

تفتّحت ابتسامته فجأة كزهرة مسمۏمة واستدار نحو فهد قائلاً:

“إذن أنت صديق چوانا؟ نشكرك على إعادتك لها… وإن لم يكن لديك مانع، هل ترغب بالبقاء معنا؟ ربما تغيير ملابسك ثم نتناول العشاء سويًّا؟”

وأضافت سوسن بنعومة مفرطة:

“أوه، نعم… لدينا خزانة عامرة بالملابس النظيفة لضيوفنا المميزين.”

راود فهد رغبة جامحة في الرفض إذ أخذ كبرياؤه ېصرخ داخله رافضًا هذا العرض المغلف بالمجاملات المصطنعة إلا أن جسده لم يعد يحتمل البلل الذي التصق بجلده كجلدٍ ثانٍ باردٌ وثقيل كأنما يحمل على كتفيه ذكريات ليلة خريفية عالقة فوق أمواجٍ راكدة.

ولأنه لم ينطق برفضٍ صريح تقدّم هاني نحوه بخفةٍ مريبة ومدّ يده مشيرًا إلى ممرٍ داخلي يؤدي إلى غرفة الضيوف ثم اقترب من سوسن وهمس في أذنها بصوتٍ يقطر خبثًا:

“نظّفي چوانا أيضًا.”

كانت الهمسة أقرب إلى أمرٍ منه إلى رجاء وفهمت سوسن دون حاجة إلى تفسير ما يريده منها بالضبط… فعشرة أعوامٍ من الزواج علمتها أن تقرأ في ملامحه أكثر مما تنطق به شفاهه… فقد رأته بنظرة واحدة يرمق چوانا كما ينظر الصيّاد إلى طريدةٍ مبهورة بالضوء.

نعم… أبوها لا يريدها لذاتها بل لما تمثّله… وهي بالنسبة إليه الآن مفتاحٌ قد يفتح له أبواب النفوذ في بيت الأسيوطي، البيت الذي طالما ظلّ بعيدًا عنه كالحلم المستحيل.

**اللعڼة! لمَ تُنبت الحياة الزهر على أطراف أقدام چوانا بينما تُلقي على ابنتي الصخور؟**

كان الغل يتأجج في صدر سوسن كما يتأجج الحطب تحت الرماد… تذكّرت أمّ چوانا، تلك المرأة التي اضطهدتها سوسن ذات يوم حين كانت الحياة لا تقف في صفّ الضعفاء وتوعدت في صمتٍ قاتم:

**لن أسمح لابنتها بأن تتجاوز ابنتي حتى ولو اضطررتُ لدهسها تحت قدمي.**

لكنها مع ذلك أومأت برأسها لهاني بابتسامة مزيّفة ثم تحوّلت إلى ممثلة بارعة وارتدت القناع الذي اعتادت أن ترتديه حينما تقتضي اللعبة ذلك.

استدعت سوسن شروق جانبًا وهمست لها:

“خذيها إلى الحمّام… إنها أختك الكبرى الآن… فكوني لطيفة معها.”

كان للصوت نبرة مصطنعة من الحنان لكنها تحمل بين السطور سيفًا خفيًا.

وبالتبعية قد فهمت شروق الرسالة المطمسة، وقرأت ما وراء الكلمات كما تقرأ ساحرة مخضرمة طلاسم مدفونة في جلد كتابٍ متهالك.

استدارت شروق وابتسمت بعينٍ تحمل المكر أكثر من الدفء:

“مرحبًا، چوانا… لنذهب إلى الحمام، ما رأيك؟”

أما عن چوانا التي كانت تحدّق فيهما وكأنها تتلمّس حنانًا ضائعًا منذ زمن شعرت أن شيئًا في هذا المشهد لا يُقنع لكن قلبها الذي أرهقه التيه أراد أن يصدق ولو لمجرد لحظة.

ابتسمت چوانا في استسلامٍ هادئ وقالت:

“حسنًا…”

ثم مدّت يدها إلى شروق فتشابكت الأصابع المترددة وسار الثلاثي نحو عتبة القصر كأنما يعبرن من بوابة عالمٍ لا تشبه خرائطه أبدًا ما عرفته من قبل.

القصر ابتلعهم ببطء كأنه شبح فاغر فمه لابتلاع فصلٍ جديد من الحكاية… لكن في زوايا الظلال كانت النوايا تهمس بما لم تُقل كلماته بعد.

في الطابق السفلي ووسط أضواء الشموع المعلقة والثريات التي تنثر بريقها على أعين الحاضرين استمرت الهمسات بالتحرك مثل دخانٍ يتسلل بين المقاعد المخملية.

أخذ الضيوف يرمقون بعضهم بنظراتٍ متوجسة، يحاولون فك لغز وجود فهد الفيومي بينهم وكأن حضوره كسر فيهم التوقع وانبثق من فراغ لم يعتدوه.

ومهما كان السبب… فقد أصبح من الواضح كالشمس في كبد السماء أنّ الاحترام الواجب لعائلة الفيومي لم يعد خيارًا بل صار فرضًا لا يقبل الجدل.

في الطابق العلوي وتحديدًا في غرفة الضيوف التي تفوح منها رائحة الخزامى القديمة وقفت شروق عند الباب وقالت بنبرةٍ مصطنعة الدفء:

“يمكنك البقاء هنا مؤقتًا ريثما ننظف غرفتك… هناك مستلزمات الاستحمام على الرف الخاص بالمرحاض وسأجلب لك فستانًا يلائمك.”

أجابت چوانا بودٍ هادئ:

“شكرًا لكِ… هذا لطفٌ منك.”

استدارت شروق ثم توقفت فجأة كمن تذكّر أمرًا طارئًا وقالت بنبرة أقرب إلى المعلّمة منها إلى الأخت:

“أوه… قبل أن أنسى، هل تعلمين كيف يُستخدم سخّان المياه؟ لا حاجة لكِ بتعديله فقد ثبتنا حرارته.”

كان صوتها ناعمًا لكن عينيها لم تتمكنا من إخفاء ذلك الوميض المتعالي الذي ينسل من بين رموشها كخنجرٍ مطلي بالسكر.

لم تُعلّق چوانا على تلك النظرة بل ردّت بابتسامةٍ ملؤها البراءة:

“أجل، شكرًا لكِ.”

لكن في داخلها كان هناك صوتٌ ساخر يتمتم:

**أحقًا تظنين أنني لا أعرف كيف أستحم؟**

قالت شروق وهي تبتسم:

“رائع… سأحضر الفستان الآن.”

وما إن أغلقت الباب خلفها حتى اختفت تلك الابتسامة كما يذوب الزيف تحت لهب الحقيقة… سحبت منديلاً حريرياً من حقيبتها ومسحت به يديها في حركة تنضح بالاشمئزاز ثم رمته على الأرض كمن يلقي بشيء نجس… تتمتم بضغينة:

**رائحتها منفرة، جسدها منفّر، حتى حضورها يحمل رجفة من القذارة… كيف يمكن لفهد أن يصطحب معه امرأة كهذه؟ لا بد أنها زلة عابرة.**

وفي الناحية الأخرى من الباب كانت چوانا قد بدأت ټغرق في نعيم الماء الدافئ ذلك الذي انساب على جسدها كما ينساب الحنين في ليلة اشتياق.

قطرات الماء كانت تمحو طبقات الغبار المتراكمة على جلدها لا كأوساخ جسدية فقط بل كأنها تغسل منها آثار العزلة والجزيرة، والخۏف.

بيدها مسحت وجهها ببطء وفي كل لمسة كانت تُزيح جزءًا من تلك الغربة التي علقت بها… فظهرت بشرتها كصفحة من عاج، ملساء، شفافة، تشبه السحر حين يتحوّل إلى ملامح.

وجهها الذي كان مغطى بالعرق والرمال بدا الآن كوجه جنية خرجت لتوها من حكاية خرافية.

بعد عشر دقائق جاء الطَرق الخفيف على الباب، تلاه صوت شروق:

“چوانا هل تفتحين الباب من فضلك؟ جلبت لك الفستان… ووضعت زوجًا من الأحذية ذات الكعب العالي قرب العتبة يمكنك ارتداؤهما لاحقًا.”

أجابت چوانا:

“شكرًا.. فقط لحظة.”

فتحت الباب قليلًا ومن ثم مدّت يدها بخفة وتسلّمت الفستان دون أن تلاحظ تلك اللمعة المسمۏمة في عيني شروق… فقد كان الفستان من تصميم “غوتشي” أنيقٌ ببساطةٍ قاټلة مصنوع من قماشٍ يسيل فوق الجسد كالماء بتصميم لا يليق إلا بمن يملكن قوام الساعة الرملية المثالية، تلك التي تجمع بين النحافة والأنوثة المتدفقة… وشروق رغم محاولاتها الدائمة لم تستطع يومًا ارتداء ذلك الفستان؛ كتفاها العريضان وغياب عظام الترقوة جعلا منه حلمًا معلقًا في خزانتها يقطر حسرةً كلما نظرت إليه.

**والآن، ستهديه لچوانا؟ لا.. إنها لا تهدى… إنها تقدم فخًا مغلفًا بالحرير.**

تمتمت شروق لنفسها بشفاه مطلية بابتسامة شيطانية:

“ما إن تخرج تلك القروية القڈرة بهذا الفستان حتى تلتهمها نظرات الضحك… والضيوف سيتسلّون بها كما يتسلى الأطفال بالفزّاعة.”

ثم ابتعدت وداخلها شعور لزج بالانتصار… غافلة عما قد يحدث…..

رواية غرام عكس التيار للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top