رواية مرايا الروح الفصل الثالث عشر 13 بقلم فاطمة الالفي

old people, ship, lonely, windows, old people, ship, lonely, lonely, lonely, lonely, lonely

الفصل الثالث عشر

تسارعت نبضاته بلا استئذان. عندما جاء صوتها هامسًا، يلامس ذاكرته ويوقظ مشاعره الخامدة وهي تهتف بأسمه.
صمتت لحظة، كأنما ألقت باسمه واختبأت.
لم يجب فقط أنفاسه، سريعة، متلاحقة، تملأ الفراغ بينهما.
بينما هي عادت همسها، أكثر دفئًا، أكثر قربًا:
–استاذ دياب…
أغمض عينيه، وابتسم ابتسامة خفية كمن يتذوق حلمًا يعرف أنه لن يدوم، ثم قال بنبرة اندهاش:
– ضي… دكتورة ضي؟
جاءه صوتها، واضحًا هذه المرة، من مكتبها:
– أيوة يا أستاذ دياب، معاك الدكتورة ضي.
ارتجف قلبه من وقع نبرتها، شيء ما في صوتها يعزف داخله سيمفونية لا يسمعها سواه، تغلغل الصوت كنسمة خريف، تباغته وتترك أثرها على روحه.
تابعت ضي بنبرة عملية قائلة:
– حضرتك فاضي؟ تقدر تجي العيادة الساعة ٦؟
أجاب دون تردد، لم يمنح نفسه فرصة للتفكير:
– آه طبعًا فاضي… وهكون في الميعاد بالدقيقة.
خرج صوتها هادئًا ، تنهي المكالمة:
– تمام، منتظراك في الميعاد… مع السلامة.
وما إن أنهت كلماتها حتى أغلقت الخط، تاركة خلفها ذلك الصمت الذي لا يواسي قلبه الذي كاد أن يخرج من بين ضلوعه، وبقي يحدق في الشاشة، تنهد بحرقة، كأنه كان يتمنى أن يطول الحديث بينهما أكثر من ذلك.
– مع السلامة،، يا ضي القلب..
سرعان ما تذكر فراغ قدمه، أستند على الفراش ثم سار ببطء متحاملا على قدمه اليمنى ،يجرها جرًا وصولا إلى القدم الصناعية التي ألقاها بزاوية الغرفة، جذبها إليه ليعود بوضعها مكانها أسفل ركبته اليسرى، ثبتها بأحكام ونهض من مكانه استعدادًا لمقابلة ضي، نظر لساعة يده وجدها الرابعة عصرًا، قرر أن يتناول طعامه قبل خروجه فهو يشعر بالجوع، فمنذ ليلة أمس لم يتناول الطعام، اتجه نحو المطبخ وهو يطلق صفيرًا من بين شفتيه كأنه يدندن لحنًا عذبًا لنغمة هو يعلمها جيدًا….

❈-❈-❈

عاد نادر إلى المنزل ، ثم ترجل من سيارته، لكن شيئًا ما استوقفه قبل أن يعبر من باب الفيلا، رأى المرسم في الحديقة مضاءً، على غير العادة، أستغرب ذلك، ثم اتجه ناحيته بخطوات حذرة، وجد الباب مفتوح، والهواء يحمل إليه رائحة الألوان والزيت المعتّقة.
وقف عند العتبة، عيناه تمسحان الغرفة أمامه، وجد زوجته “تيا” وسط لوحاته، تنبش بينها بحركة مضطربة، وكأنها تبحث عن شيء مفقود… أو ربما ضائع داخلها.
هتف بدهشة وهو يراقبها:
– تيا، بتعملي إيه هنا؟ بتدوري على إيه في المرسم؟
رفعت رأسها ببطء، تحاول إخفاء ارتباكها، لكنها لم تجب. بل بدورها طرحت سؤالًا آخر:
– نادر… ليه ولا مرة رسمت لي بورتريه؟
نظر إليها مستغربًا، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية. تقدم نحوها، يلامس جبينها بأنامله، كأنه يقيس حرارتها مازحًا:
– حبيبتي كويسة؟ مافيش حرارة ولا حاجة؟ بطمن بس عليكِ.
ضغطت على أسنانها بغيظ وردّت بضيق:
– أنت مستفز!
ضحك على هيئتها، واقترب منها ليقبّل خصلاتها الشقراء، لكن فجأة ابتعدت عنه بخطوات واسعة، غضب طفولي يعصف بها.
لحق بها وهو يضحك على جنونها، ثم جذبها من ساعدها ليوقفها:
– يا بنتي بهزر معاكِ، اهدي بقى.
رمقته بعيون متأججة، لكنها سرعان ما هدأت وسألت:
– هتتغدى؟
لكنه هز رأسه بالنفي، عاقدًا حاجبيه بجدية:
– لا، فكي التكشيرة الأول، في موضوع لازم أتكلم معاكِ فيه.
تبدّلت ملامحها إلى قلق، اقتربت منه خطوة وقالت بحذر:
– في إيه؟ اتكلم.
بدأ بالصعود نحو غرفته ليبدّل ملابسه، وهي تتبعه بعينين مليئتين بالفضول، أخيرًا أجاب وهو ينزع سترته:
– في سفرية مهمة كام يوم كده، محتاج تحضّري لي شنطتي.
توقفت عند الباب، نظرت إليه بحيرة:
– تسافر فين؟ ومع مين؟ وأنا هفضل لوحدي؟
ابتسم بحنو واقترب منها، يضع كفه على أحشائها بحب:
– لا يا حبيبتي، هوصلك عند عمي فؤاد، مامتك هتخلي بالها منك، وكمان ممكن نروح للدكتور نطمن على البيبي.
ارتجف جسدها قليلًا، نظرت إليه بتوتر، ثم هتفت فجأة بغيرة:
– مسافر فين ومع مين يا نادر؟
تنهد بضيق، شعر بحصارها الخانق:
– سفر مهم، ومش معايا حد، لوحدي يا تيا، وبطّلي أسلوبك ده.
صدح رنين الهاتف، أخرج نادر هاتفه من جيب بنطاله، نظر في الشاشة المضيئة التي تحمل اسم الطبيبة “ضي” ، شعر أنه وقع في مأزق.
أجاب بهدوء حتى لا يثير شكوك زوجته:
– أهلا يا دكتور…
استمع لكلماتها، وردّ باقتضاب:
– تمام، ماشي، مع السلامة.
أغلق الهاتف بسرعة، لكن تيا كانت تراقبه بنظرات مشبعة بالغيرة والشك.
ثم فجأة قالت بحسم:
– تمام، وأنا هسافر معاك.
هز رأسه نافيًا، نبرته هادئة لكنها حازمة:
– لا، ما ينفعش. أولًا، أنتِ حامل ولازم ترتاحي، وثانيًا، عندك الجاليري، لازم تباشريه بنفسك، وثالثًا، السفر تبع شغلي،
هاخد معايا هدومي ولوحة وألواني، وبس.
اقترب منها يداعب خصلاتها بين أطراف أصابعه، وهو يهمس بصوت دافئ:
– ممكن بعدين نسافر سوا المكان اللي تختاريه، بس ناخد موافقة الدكتور الأول.
تنهدت بضيق، وخرجت نبرتها حزينة:
– ماليش مزاج أروح للدكتور… عاوز تسافر؟ براحتك، سافر.
قطب حاجبيه، لم يعتد منها هذه النبرة، فهتف بصدق:
– صدقيني والله، مفيش ست غيرك في حياتي. السفرية دي مهمة، ممكن تصدقيني؟ بلاش الشك الزائد ده، بيقتل كل حاجة حلوة بينا.
نظرت إليه طويلًا، ثم سألته بشيء من الانكسار:
– أنت عارف إني بحبك؟
ابتسم بخفة، وضع يده على وجنتها بحنان:
– عارف يا قلبي، بس ثقي فيا شوية بقى.
ضمّها برفق، لكن رغم دفء حضنه، كانت عاصفة الأفكار لا تزال تطيح بها ..

❈-❈-❈
وصلت هديل منزلها وهي تخفي ألمها خلف قناع من البسمة الزائفة لكي لا تحزن والدتها.
تناولوا الطعام في جو من المرح بسبب مزاح راما ومشاكستها الدائمه ل”هديل” ومريم تطالعهما بفرحة، وتتمنى داخلها أستعادة ابنتها لسلام الداخلي وأن تجد الأمان الذي فقدته.
تنهدت بعمق واسترجعت ذاكرتها عندما كانت بمنزل طليقها، صرخت بوجهه لاول مرة، رافضة قربه من ابنته التي أضاعها بأفعاله، ناقمة على حياتها السابقة في كنفه، وبخته، كيف سمح لنفسه بأن ينتزع المحبة من قلب صغيرته؟ كيف خان أبوته بالتقرب من طفلته وتجريدها من ثياب الطاهرة والنقاء؟ كيف هان بكاء الصغيرة على قلب تحجر؟ كيف سُولت له نفسه بملامسة جسدها الذي يرتجف خوفا تحت قبضته ؟
أخرجت كل مافي جوبعتها، كل ما كتمت لأعوام، باحت بما يضيق صدرها، ولولا مرضه لكانت أقسمت على وضعه بالسجن المكان الذي يليق به.
لم تجد منه إلا الصمت، والبكاء على كل ما فعله بحق صغيرته، اقترب ينحني أمامها يريد تقبيل يدها على أن تسامحه وتغفر له، لكنها ابتعدت عنه رافضة الغفران فمثله لا يستحق التسامح والغفران ، ثم غادرت منزله بلا رجعه…
فاقت من شرودها على ضحكات الفتيات ، ابتسمت لهن بحب، وشاركتهم الحديث.
فجأة انبعث رنين هاتف هديل ، أجابته بهدوء لتجد الطبيبة “ضي” تحدد معها نفس الموعد الذي سبق وأخبرت به “دياب” و “نادر”.
وبعد إنتهاء المكالمة نظرت إلى والدتها قائلة:
-دكتورة ضي، طالبة أقابلها في العيادة بعد ساعة.
ظنت والدتها من أجل جلسات الدعم النفسي لذى وافقت بهدوء:
-وماله يا حبيبتي.
هتفت راما بحماس:
-وأنا راح أجى معكِ.
نهضت هديل عن مقعدها وهي تقول:
-تمام ، يلا نجهز عشان نتحرك ونكون هناك في الميعاد.
دلفوا سويا إلى غرفة هديل، لانتقاء ثياب الخروج.

❈-❈-❈
لا زال سادن داخل الحرم الجامعي ، يشعر بتأنيب الضمير، وما فعله معتز يُطارده كقيد لا يُفلت، هو بحاجة لأن يُصلح ما أفسده، ليعيد لصورته أمام هديل بعضاً من الاحترام الذي انهار، وقف للحظة يتنفس بعمق، ثم زفر بضيق واتخذ قراره، سيبذل كل ما في وسعه ليحصل على رقم هاتفها، علّه يتمكن من تقديم اعتذاره.

توجه بخطى حذرة نحو مكتب شؤون الطلبة، ثم دلف بخفة، فرأى سيدة أربعينية تتابع جهازها بانشغال، تنقر بأطراف أناملها بإيقاع رتيب. اقترب منها بخجل واضح، وتنحنح قائلاً:
-مساء الخير.
رفعت رأسها نحوه دون أن تخفِ استغرابها، فردت بفتور:

  • مساء الخير، أفندم؟
    تجاهل ارتباكه وجلس قبل أن يُؤذن له، ثم همس بصوت يحمل قلقه:
    -بعد إذنك، محتاج من حضرتك خدمة… ضروري جداً، مسألة حياة أو موت.
    نظرت إليه بجدية، مستشعرة استعجاله، وقالت بلهجة ضجرة:
    -خير، خلّصني… ورايا شغل.
    بلع ريقه، كأن الكلمات عالقة في حلقه، ثم أفصح:
    -عايز رقم طالبة معايا في سنة تانية فنون جميلة.
    رفعت حاجبيها وقالت بنبرة حازمة:
    -لا يا ابني، ده ممنوع! دي مسؤولية عليا.
    هتف بنبرة رجاء وتوسل، و عينيه تصرخ بصدق كلماته:
  • أرجوكِ، الموضوع مش هزار، ولا فيه سوء نية، والله أنا
    مش من النوع اللي بيستغل حاجة زي كده.
    نظرت إليه مطولاً، وهدأت نبرتها وهي تقول:
    -شكلك محترم… ماشي، هساعدك. اسمها إيه؟
    ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه، كأن باباً انفتح له أخيراً، فأجاب بحماس:
    -هديل مدحت… دفعة تانية.
    بدأت السيدة تبحث في قاعدة البيانات، وعيناها تتحركان سريعاً بين السطور، حتى توقفت، ثم كتبت رقماً على ورقة وسلمته له دون كلام.
    تناولها سادن بامتنان، دوّن الرقم في هاتفه، ثم نهض وهو يردد شكره بإخلاص وغادر المكتب بقلب يرتجف من الترقب… هل ستمنحه هديل فرصة لكي تصفح عنه، أم ستخذل قلبه ؟

❈-❈-❈
جلست ضي تنتظر وصول الجميع، وعيناها تتأمل الفراغ أمامها وكأنها تستجمع الكلمات التي ستلقيها، ما إن أطل دياب حتى تبعته هديل وراما، ثم جاء نادر ليكتمل اللقاء. تبادلوا النظرات بينهم، تتساءل أعينهم عن السبب وراء هذا الجمع غير المتوقع.
رحبت بهم ضي بلطف قبل أن تقدمهم لبعضهم البعض، ثم أفسحت المجال للصمت ليتغلغل بينهم للحظات، ممهداً لما هو قادم. كان نادر ينظر إلى هديل دون فهم، غير قادر على توقع ما سيحدث، قبل أن تقطع ضي الصمت قائلة بنبرة هادئة لكن حازمة:
-طبعًا، كلكم مستغربين سبب وجودكم في الوقت نفسه.
أومأ لها دياب بينما هتف نادر مؤكدًا:

  • فعلاً.
    أما هديل، فاكتفت بهزة رأسها الهادئة، كأنها تترقب التفاصيل دون مقاطعة. أخذت ضي نفسًا عميقًا، ثم تحدثت بجدية:
  • كلنا محتاجين لإجازة ننفض فيها عن أرواحنا التعب، لمدة ثلاثة أيام فقط، هنكون فريق واحد، نسافر لمنتجع سياحي في الساحل الشمالي، نكسر الروتين اللي في حياتنا، السفرية دي هتكون مش بس تغيير جو، لكن خطوة مهمة لينا كلنا… هنعيش اللحظة، نلاقي مساحة للهدوء، وهنكمل جلساتنا، لكن بشكل مختلف، وكأنها رحلة استشفاء روحي، فرصة نعرف فيها دواخلنا بعمق أكبر.

توقفت للحظة، تتأمل وجوههم بحثًا عن أي اعتراض، قبل أن تكمل بثقة:

  • سموها رحلة استجمام، رحلة علاج، أو حتى مجرد هروب مؤقت من كل شيء… مش مهم الاسم، الأهم هو التأثير اللي هتحمله لينا الأيام دي. متأكدة إنها هتفرق مع كل واحد فينا، ويمكن كمان نكسب صداقات جديدة، ودلوقتي أنا جمعتكم هنا عشان أسمع رأيكم في الفكرة، موافقين ولا عندكم رأي تاني؟
    ساد الصمت لوهلة، تبادلوا خلالها النظرات، وكأن كل واحد منهم يبحث عن تأكيد في عيون الآخر، قبل أن تنطلق ثلاث أصوات متزامنة:
    -موافقين!
    كانت راما آخر من نطق بالموافقة، فالتفتت إليها هديل ببسمة رقيقة، مؤكدة لها بصمت أنها ستكون معها، ولن تتركها لخوض هذه الرحلة وحدها..
    تنفست ضي الصعداء بعدما نجحت في أول خطوة اتخذتها أتجاه مرضاها ، في رحلة قد تُغير كل شيء…

❈-❈-❈
لم تستطع تيا احتمال فكرة سفر نادر بعيدًا عنها، كانت الغيرة تنهش قلبها بلا رحمة، وكأنها عاصفة تجتاحها بجنون، لم تهدأ لها بال، ولم تسمح له بالمغادرة ببساطة، رفعت الهاتف
بيد مرتجفة، أجرت اتصالًا سريعًا ثم أغلقت الخط بعد دقائق، وهي تنظر إلى انعكاسها في المرآة، تبتسم بثقة؛ خطتها تسير كما أرادت.
عندما استمعت لصوت خطوات نادر يقترب من غرفتها حتى أرتمت أرضًا بجسد متكور، واضعة كفها على بطنها، تتلوى من الألم المصطنع، وعيناها تغرقان بالدموع التي أجادت إسقاطها في اللحظة المناسبة، انطلق صوتها في نوبة صراخ، تدعو نادر أن ينقذها.
ركض نادر نحوها كالمذعور، فتح الباب بلهفة، وعيناه تتفحصان المكان حتى وجدها متكومة بجانب الفراش. اقترب منها بقلق متزايد، هتف بجزع:
-تيا، مالك يا حبيبتي؟ في إيه؟!
ردّت بكلمات متقطعة، يعلوها أنين خافت:

  • الحقني يا نادر، بطني… بتتقطع، آآه، مش قادرة…
    لم يتردد لحظة، حملها برفق بين ذراعيه وهو يهمس بكلمات
    مطمئنة، يحاول تهدئتها:
    -متخافيش يا قلبي، مافيش حاجة، هنروح للدكتور حالًا.
    انسابت دموعها وهي ترفع بصرها إليه، تتشبث بدورها بإحساس الخوف المفتعل:
  • خايفة يا نادر أخسر البيبي…
    نظر إليها بعطف، ثم رد بسرعة:
  • لا يا قلبي، إن شاء الله ابننا بخير، وهنطمن عليه حالًا.
    سار بها خارج الفيلا دون أي تفكير آخر، وضعها في المقعد الخلفي للسيارة، ثم انطلق بسرعة نحو المشفى الذي حددته تيا بدقة.
    وصل بأقصى سرعة، وجد ممرضة تجر سريرًا متنقلًا، فأسلمها جسد زوجته بحذر، لتسارع الممرضة بدفعها إلى غرفة الطوارئ. طلبت منه الانتظار في الاستقبال ليملأ بياناتها.
    أما تيا، فبمجرد أن ولجت إلى داخل غرفة الطوارئ، أخرجت رزمة من المال وأعطتها للفتاة التي كانت تنتظرها هناك، تلك التي ستساعدها في تنفيذ خطتها حتى النهاية…

وقف نادر أمام مكتب الاستقبال، أصابعه ترتجف وهو يملأ بيانات زوجته، وكأنه يكتب سطوره بدم قلبه. ناولهم بطاقة الدفع دون أن يلتفت، عقله منشغل بما يجري خلف تلك الأبواب المغلقة. ما إن أنهى الإجراءات حتى عاد مسرعًا إلى قسم الطوارئ، لكنه توقف فجأة عندما اعترضت طريقه الممرضة، وقفت أمامه بحزم، نظرتها تحمل مزيجًا من التعاطف والصرامة، قبل أن تخبره بصوت رتيب:

  • مراتك فقدت الجنين… ودلوقتي تم تخديرها لإجراء العملية.

في لحظة، تغير كل شيء. تغلغل الحزن قلبه، كم كان يحلم أن يرى طفله بين يديه، أن يكون أبًا! مشاعره تضاربت بين فقدانه لتلك القطعة الصغيرة من روحه، وبين خوفه على تيا… كيف ستتحمل هذا الخبر القاسي؟ كيف يخبرها أنها فقدت جنينها؟
تنهد بعمق، وكأن أنفاسه أصبحت ثقيلة، لم يستطع السيطرة على دمعة خائنة انحدرت من عينيه، قبل أن يبتعد بخطوات متثاقلة نحو أحد الأركان القصية في المشفى، يبحث عن ملاذ يلتقط فيه أنفاسه، أخرج هاتفه بلا تفكير… بحث بين الأسماء، عن “ضي”، فهاتفها على الفور.
عندما أجابته ضي، خرج صوته مثقلًا بالوجع، يكاد يُسقط الكلمات من فمه، وكأنه يخشى لفظها بصوت عالٍ. نقل لها ما يحدث معه وأنهى كلماته قائلا:

  • أنا مش عارف أعمل إيه، مش عارف إزاي هقولها…
    استمعت إليه ضي بصمت أولًا، قبل أن تهمس بنبرة ثابتة:
    -نادر، لازم تفضل جنبها، هي محتاجاك أكتر من أي وقت فات، متخليش الحزن يسيطر عليك قدامها، الألم عند الأم بيكون أضعاف اللي بيحس بيه الراجل. لازم تطمنها، تحتويها، تختار كلماتك بعناية، وتخليها تحس إنها مش لوحدها في ده…
    أغمض نادر عينيه، كأنه يستجمع قوته مما قالته، نعم، عليه أن يكون قويًا لأجلها، حتى لو كان قلبه ينزف بصمت. غمره إحساس جديد، مسؤولية أكبر من الحزن، شيء يشبه الأمل، حتى لو كان مؤلمًا..
    أنشغل “نادر”بأجراء أتصالا آخر بوالدتها، بينما “تيا” كانت برفقة الممرضة، صعدت إلى غرفة عادية بالطابق الثالث، ارتدت ثياب المشفى، ثم تمددت على الفراش ، وضعت لها كانولا أوصلت بوريدها محلول مُغذي.
    أتَ الطبيب المعالج تفقد مؤاشرتها الحيوية ثم نظر لها بأسف:
    -حياتك غالية ماتحاوليش تأذي نفسك تاني، الحمد لله ربنا ستر، وعملنا ليكي غسيل معدة في الوقت المناسب.
    أومأت رأسها بينما تحدثت الممرضة سريعًا :
    -أنا هفضل جنبها يا دكتور، على ما يجي حد من أهلها وأبلغهم بنفسي.
    تركهم الطبيب لمتابعة بعض الحالات.
    ❈-❈-❈
    أماعن نادر فقد كانت واقفًا مندهشًا من رد فعل والدتها على خبر حمل تيا ثم أجهاضها ، فهل حقا والدتها لم تكن على علم بحمل زوجته، لما أخفت تيا ذاك الخبر عن والدتها أقرب الناس إليها؟

اجتاحه صداع حاد، كأن أفكاره تصطدم ببعضها داخل رأسه، تدفعه نحو دوامة من المشاعر المتضاربة، شعر بثقل لا يطاق، اتجه بخطواته نحو كافتيريا المشفى، يبحث عن زاوية يستطيع فيها أن يلتقط أنفاسه بعيدًا عن كل شيء.
جلس بصمت، مدّ كفيه ليمسك رأسه، وكأن الألم المتسلل إلى عقله قد صار ملموسًا بين راحتيه. عيناه تحدقان في الأرض بشرود، عقله يعيد ترتيب الأحداث، يبحث عن الطريقة الأنسب ليخبر تيا بما حدث دون أن يُضاعف وجعها.

بحثت عنه الممرضة وعندما وجدته داخل الكافتيريا، اقتربت منه قائلا:
-المدام في أوضة (٤٠٤) حمدالله على سلامتها.
تنهد بحزن ، نهض يستقيم في وقفته ثم سار ناحية المصعد الكهربائي، استقله متوجهاً إلى حيث الغرفة المنشودة، فتح الباب ودلف لداخل ليتفاجئ بصراخ والدتها واتهامها ل”تيا” بالجنون….

❈-❈-❈

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top