رواية مرايا الروح الفصل الثاني عشر 12 بقلم فاطمة الالفي

old people, ship, lonely, windows, old people, ship, lonely, lonely, lonely, lonely, lonely

الفصل الثاني عشر

بعد ليلة ممطرة، كان الصباح هادئًا، حيث تتسلل خيوط الشمس بلطف بين الغيوم المتفرقة، تاركة وراءها أثرها الذهبي على الطرقات المبللة، الهواء مشبع برائحة الأرض الندية بعد المطر، ذلك العطر الذي يوقظ الحواس ويبعث شعوراً بالانتعاش والطمأنينة، الأشجار تقف وكأنها اغتسلت بالنقاء، تتألق أوراقها بقطرات الماء التي لم تجف بعد، و الطيور تبدأ يومها بألحانها العذبة، وكأنها تحتفل بانتهاء العاصفة.
أصوات خفيفة تتردد بين خطوات المارة وصوت السيارات التي تقطع برك الماء، ليكون صباحًا لا يخلو من الدفء رغم برودة الطقس..
استيقظت هديل بنشاط، تدفع الغطاء جانبًا وهي تتنفس بعمق، وكأنها تهيئ نفسها لبدء الصباح، اقتربت من النافذة لحظة، تتأمل الشوارع المبللة وانعكاس الضوء على الإسفلت، ثم التفتت إلى خزانتها لتختار ملابسها بعناية.
انتقت سترتها الشتوية ذات اللون العاجي، وبنطال الأسود يمنحها مظهرًا أنيقًا دون تكلف، ثم انتعلت الحذاء الرياضي الأبيض، ليساعدها على التحرك بنشاط، ثم حملت حقيبتها الجلدية، وضعت هاتفها ومتعلقاتها الخاصة بداخلها، ثم أنهت لمساتها أمام المرآة، رفعت شعرها إلى كعكة مرتبة، حيث أعتادت أظهار ملامح النضج، كأنها تحاول أخفاء عمرها العشريني .
وجدت والدتها بالمطبخ تعد الافطار وراما جانبها تصنع الشاي ، اقتربت منهما بخفة :
-صباح الخير.
رفعت مريم انظارها وحدقت بها قليلا ثم قالت:
-على فين يا هديل؟ ماينفعش خروج يا قلبي في الجو ده.
طبعت قبلة ناعمة على وجنتها وردت قائلة:
-على الجامعة يا ماما ، عندي محاضرة مهمة، والدنيا هادية مش تقلقي يا حبيبتي.
هتفت راما وهي ترسل غمزة إلى مريم ثم طالعت هديل :
-مريوم ، هديل ما بيتخاف عليها، اتركيها تفل.
ثم أعطت هديل فطائر الزعتر التي طهتها راما بنفسها:
-دوقي ها الفطاير وقولي رائيك.
قضمتها بتلذذ ثم قبلت راما :
-بتجنن، سلام بقى
قالت مريم مودعة إياها:
-لا إله إلا الله
ابتسمت لهما وقالت قبل أن تغادر المطبخ:
-سيدنا محمد رسول الله.
ثم غادرت المنزل بخطوات ثابتة، عندما وصلت أمام البناية، ألقت نظرة سريعة إلى السماء التي بدأت تكشف عن زرقتها بعد انقشاع السحب، سحبت شهيقًا لتستنشق الهواء البارد، وكأنها تجدد الطاقة داخلها لاستقبال يومها.
استقلت الحافلة من على جانب الطريق لتقلها إلى الجامعة ولكن عقلها بدء منشغلا بمقابلة استاذها “نادر” عند العيادة النفسية ، تساءلت في نفسها، هل يعاني مرضًا ما ؟ تنهدت بعمق وهمست بصوت خافت لم يسمعه أحد:
-كلنا مرضى نفسيين، عندنا جانب خفي صعب يظهر للناس ، بيفضل في الخفاء.
ثم عاد إليها الصمت ثانيا إلى أن ترجلت بالقرب من الجامعة، وأكملت طريقها سيرا على الاقدام…
❈-❈-❈

داخل الحرم الجامعي، حيث تتداخل أحاديث الطلبة وصدى الخطوات المتناثرة، دلفت هديل إلى قاعة المحاضرات، تحمل معها مزيجًا من التركيز والتوتر الخفي الذي يسكن ملامحها. جلست في مكانها المعتاد، بينما كان “سادن” يجلس خلفها مباشرة، يراقبها خلسة، عيناه تتبعان حركاتها الدقيقة، وكأنه يحاول قراءة أفكارها أو التقاط شيء من حالتها المزاجية. هم بالنهوض متجهًا إليها لكي يجلس قربها، لكن استوقفته يد “معتز” حينما أمسك به، وكأنما قرأ ما يجول بذهنه:
-اتقل يا عمنا.
ضيق سادن عينيه وهو ينظر لصديقه المتطفل، تتسلل نبرة الاستياء إلى صوته:
-يا عم انت مالكش فيه، وسّع كده من طريقي.
لكن معتز لم يتحرك، وكأنه يتعمد استفزازه، قبل أن يتأفف سادن ضجرًا من أفعال صديقه الحمقاء، دلف الدكتور “نادر” إلى القاعة، ليعم الصمت فجأة، وتختفي كل الاصوت ولم يُسمع سوى الأنفاس المتتابعة—بعضها منتظم، وبعضها يحمل اضطرابًا خفيًا.
وقف نادر بثبات، نظر إلى الطلبة وعيناه تبحثان عن شيء ما بين الحضور، وعندما وقعت أنظاره على صاحبة العيون البندقية، ابتسم بخفة، فقد وجد ما كان يبحث عنه، ثم قال، مصوبًا نظراته نحوها:

  • محاضرة النهاردة رغم إن شرحتها قبل كده، بس بسبب آخر بورتريه، في نقاط مهمة لازم تكون واضحة بالنسبة لكم. الرسم لوحده مش كفاية، اللوحة ما تكتملش إلا بتنسيق الألوان ومزجها بعناية، لازم تحس إن الألوان بتخلي الرسمة تنطق، تحيا زي ما بيقولوا.
    خرج صوته يحمل دفئًا غير معتاد، ثم قال بنبرة أعلى نسبية:
    -هعيد شرح محاضرة اختيار الألوان والتنسيق في مزجها، وهطلب منكم تدريب عملي وأشوفه المحاضرة الجاية، بس المرة دي هسيبكم لخيالكم أنتم.
    لم يعطي لهما فرصة للاعتراض أو النقاش، حيث بدأ ما نوى فعله بالشرح.
    بينما كانت هديل في حالة من الانسجام التام، تتابع كل كلمة تخرج من فاه، دون أن تفلت منها تفصيلة واحدة، تنسخ أفكاره بخطوط هادئة داخل دفترها، وكأنما تحاول أن تفهمه، لا فقط أن تتعلم منه.

❈-❈-❈
حينذاك كانت ضي تجلس بمكتبها الهادئ، داخل عيادتها الخاصة، تحمل قلمها بين أصابعها، تطرق به بخفة على سطح المكتب وكأنها تحاول ترتيب أفكارها المتشابكة، لم يكن يومها مزدحم بالمرضى، لكنه مزدحم بأفكار ثقيلة تتقافز في عقلها بلا هوادة.
منشغلة بالتفكير في الثلاث مرضى
نادر… دياب… هديل… كل اسم منهم يحمل قصة، جزءًا من معركة نفسية لم تكتمل فصولها بعد، وكل منهم يشدها إلى عالمه الخاص، يترك أثرًا في مساحاتها العقلية، لم تكن تتوقع أن تنشغل بهما بهذا الشكل.
توقفت للحظة، أغمضت عينيها، استنشقت الهواء ببطء، وكأنها تحاول أن تجد ذلك الخط الفاصل بين مشاعرها كمساعدة لهم، وبين واجبها المهني الذي يتطلب منها الوضوح والحياد. لكنها تعلم أن الحياد ليس دائمًا الخيار الصحيح، وأن بعض القصص تحتاج إلى دفعة صغيرة لتتغير مساراتها.
فتحت عينيها بعزيمة، رفعت يدها لتكتب ملاحظاتها الأخيرة، قرارها بدأ يتشكل أمامها كضوء خافت في نهاية الممر الطويل، لم يكن مجرد قرار مهني، بل كانت خطوة نحو إنقاذ أرواح تتأرجح بين الماضي والحاضر والمجهول، خطوة قد لا تغير الزمن، لكنها بالتأكيد ستغير مسار حياة ثلاثتهم.
ابتسمت برقة، وكأنها بدأت ترى الصورة بوضوح أكثر، أخذت نفسًا عميقًا، ثم نهضت من مكانها، مستعدة لتحويل التفكير إلى فعل وجب عليها تنفيذه…
❈-❈-❈
بعدما أنهى نادر المحاضرة ، كان أول من غادر القاعة، خطواته لم تكن مستعجلة، لكنه لم يكن فارغ الذهن، فقد كانت الفوضى العارمة تجتاحه.
توجه إلى مكتب العميد، عازمًا على طلب إجازة، ليس لأجل الراحة الجسدية، بل ليبتعد عن ضجيج الحياة التي باتت تحاصره من كل اتجاه.

بينما في ذلك الوقت كانت هديل تلملم أغراضها، تقاوم اضطرابًا داخليًا لم تكن تود أن يظهر على ملامحها. حين همّت بالخروج، وقف معتز أمامها حاجزًا الطريق، نظراته باردة، لا تحمل أي محاولة للتراجع، غادر الجميع، لكنها بقيت وحدها أمامه، تشعر بالقلق ينبض داخلها، تحاول أن تسيطر على ارتجاف يديها.
خرج صوتها هامسًا، لكنه حمل في طياته التوتر الذي تخفيه:

  • من فضلك عاوزة أخرج.
    هز رأسه نافيًا بكل برود، كأنما يستمتع بتلك اللحظة.
    كان سادن يبحث عنها في الكافتيريا، وعندما لم يجدها، عاد ليطمئن، ليكتشف شيئًا لم يكن يتوقعه—هديل واقفة في مأزق، ومعتز يضحك ساخرًا وكأنه يستمتع بإذلالها، لمح سادن يتقدم منهما، فرفع صوته متحديًا:
  • أهو سادن جه، اسيبكم بقى مع بعض.
    تجمدت أطراف هديل، كأن الأرض اهتزت تحتها، هل كان ذلك مخططًا بينهما؟ حين اقترب سادن، ابتعدت للخلف بتوتر، اختنقت كلماتها في حلقها وكادت دموعها أن تنهمر.
    شعر ب الخوف في عينيها، ذلك الخوف الذي لم يكن هو سببه، لكنه بات الآن جزءًا منه، هتف بغيظ وهو يحدّق في معتز:
  • أه يا معتز الكلب، وربنا ما هعديهالك.
    تراجع معتز مستمتعًا بما فعله، بينما سادن كان يحاول تصحيح موقفه، كلمات الاعتذار خرجت منه على عجل، وكأنها محاولة يائسة للعودة إلى نقطة الصفر:
  • أنا آسف والله، ما طلبت منه يعمل كده، كنت بس عاوز فرصة نتكلم في الكافتيريا.
    لكن هديل كانت قد أستجمعت شتاتها، وقالت بصوت أكثر حدة:
  • من فضلك، لا عاوزة أتكلم معاك ولا مع صاحبك المجنون، ابعدوا عني.
    لم تنتظر ردًا، فرت كأنها تهرب من وحش مفترس،خطواتها واسعة، كأنها تركض داخل حلبة سباق، بينما هو يحاول اللحاق بها متحسرًا.
    اجتاحه الغضب من تصرفات صديقه الذي دائما يحاول إفساد علاقاته ، أتجه نحو معتز، ذلك المتغطرس الذي ظن أنه يُحكم الكون بقبضته، فتح له ذراعيه بمرح، وكأنه يتباهى:
  • إيه رأيك بقى، خليت لكم الجو.
    لكن الرد كان أسرع مما توقع—لكمة قوية، تبعتها صرخة غاضبة:
  • إنت يا غبي، مش عاوزك تدخل في أي شيء يخصني، البنت كانت مرعوبة من اللي عملته.
    حك معتز وجهه، حيث اشتعل الغضب داخله، لكنه لم ينبس بكلمة، فقط غادر، تاركًا وراءه جدارًا من الحقد يغلي داخله..

أما نادر، فقد حصل على الإجازة بعدما أخبر العميد أنه يعاني من وعكة صحية تستلزم راحة بالفراش، رغم أن الحقيقة كانت أبعد بكثير عن مجرد مرض. غادر المكتب وتنفس الصعداء، لكنه قبل أن يستقل سيارته، رأى هديل تركض مغادرة الحرم الجامعي، ملامحها توحي بالذعر.
استوقفها، مناديًا باسمها بصوت يملؤه القلق:

  • هديل… في إيه مالك؟ ليه بتجري كده؟
    توقفت، نظرت حولها بارتباك، ثم رفعت عينيها نحوه، لكن لم تجد الكلمات، اقترب خطوة، لكن خطوتها للخلف جاءت أسرع، وكأنها تحاول الفرار مجددًا.
    تسمر نادر مكانه، لم يكن يعرف كيف يتعامل مع حالتها تلك، حاول أن يخفف عنها بطريقة مباشرة:
  • طيب، تعالي أوصلك؟
    لكن الرد جاء سريعًا، مرتجفًا، حاسمًا:
  • لا، لا، شكرًا.
    لم تلتفت وراءها، تركته واقفًا يتساءل، يتأمل، يحاول استيعاب حالتها ، لكنه لم يجد إجابة واضحة، استقل سيارته، تابعها بنظراته حتى رآها تستقل الحافلة، ثم زفر بضيق، وقاد.سيارته متجهًا نحو منزله، حيث ينتظره قرار آخر عليه أن يخبر به زوجته …

❈-❈-❈
أما على الجهة الأخرى، داخل حدود رفح، حيث المشفى الميداني الذي يعج بأجساد الشهداء الفلسطينيين ، وكثرة الجرحه، فلا زال الحرب قائم على غزة، منذ أكثر من عام وأصوات القذائف الصاروخية لم تنتهي بعد، ضحايا أطفالا ونساء وشيوخًا، عائلات بأكملها تفتت لاشلاء تحت القصف الصهيوني.
الأف المصابين يتم نقلهم خلال سيارات الإسعاف ، حالة طوارئ بالمشفى، الأطباء يركضون في كل إتجاه لكي يسعفون الجرحى.
وقف ماجد لحظة عاجزًا عن إستعاب ما يحدث حوله ، منذ قرابة العام وهو على هذا الوضع، المشفى في تزاحم ، الشهداء في تزايد، المفقودين لا احد يعلم عنهما شيئًا، على الارجح لم يستطيع إنقاذهم من تحت الرُكام.
صرخات تتعالى بصوت أب مكلوم فقد عائلته بأكملها، زوجته وصغاره ، طفل صغير جاحظ العينين، مشدوه الوجه أثر الفزع واضحًا على ملامحه البريئة، ينظر بذعر كأنه يبحث عن والديه، وحيدًا ، صامتًا، طفولة مُعذبة، تصارع الموت كل لحظة، أحلام صغار محطمة، مشردة ، ما ذنب ذاك وهذا وتلك ، ما ذنبهم جميعًا.
جلس ماجد بالقرب من الصغير يتفقد جرح ذراعه ، ويمسح عن وجهه حبات الغبار، يحاول مؤاساته ، ضمه لصدره أولا لكي يخفف عنه المشهد المأساوي لما راءه طفلا في عمره، طلب من الممرضة أن تجلب له العصير , ثم همس بالقرب من وجه الصغير وهو يطالع عينيه الزرقويتين التي يبدو عليهما الصدمة ، ولما لا والحادث جلل، خسر كل من لديه من والديه وأشقائه ونجى هو وحده.
-ماتخفش يا حبيبي ، أنت هنا في أمان.
عن أي امان تتحدث يا ماجد والصغير فقد كل ملاذه وأمانه ، كادت دموعه أن تنهمر على منظر الصغير المفجع ،لكنه يحاول أن يؤاسيه بالكلمات البسيطة لعله يفهمه.
-أسمك أيه يا بطل؟
لم ينطق الصغير ، لم يبكي ، لم يتألم، لا زال تحت تأثير الصدمة، غير مدرك بمن حوله، حالة من الصدمة والذهول تحتاجه ،كأنه فقد نطقه وفقد حواسه ، رغم جرح ذراعه الغائر لم يتألم وكأن الألم الأكبر في روحه ، في قلبه ، لن يستطيع التعبير عنه.
ظل ماجد جانبه حزينًا على وضعه، ضمد له جراحه، لم يتركه ، أعطاه إبرة مهدئة لكي يذهب في النوم، بعد مُعاناته ، وعندما غفى الصغير ، حمله على كتفه وهو يربت على ظهره برفق، ليطمئنه بأنه لن يتركه فهو ليس وحده..

❈-❈-❈

جلس دياب على طرف الفراش، أنفاسه ثقيلة، مشوشة، وكأن الهواء نفسه صار عبئًا عليه، عيناه زائغتان، تحدقان بلا تركيز، بينما تتصارع داخله مشاعر متشابكة بين الضيق واليأس العميق.
ببطء، رفع يده إلى قدمه الصناعية، وكأنها حمل ثقيل أراد التخلص منه بأي ثمن، نزعها بحركة عنيفة، ثم رماها بعيدًا، لتهوي في زاوية الغرفة وكأنها شيء غريب عنه، شيء لا ينتمي إليه، تمامًا كما شعر طوال العامين الماضيين، صوت ارتطامها بالأرض لم يكن مجرد ضجيج عابر، بل كان صدى لإحباطه الذي انفجر دون كلمات.
ظل يحدق بها، يطيل النظر إليها كما لو كانت تروي له قصة فقدانه، تذكر اللحظة التي فقد فيها قدمه للأبد، وكيف أصبح كل شيء بعدها مختلفًا، مشوهًا، غير مكتمل، ثم انخفضت نظراته إلى الفراغ الواضح على قدمه اليسرى، ذلك الفراغ الذي لا يمكن ملؤه مهما حاول، مهما تجاهل، مهما أقنع نفسه بأن الحياة يمكن أن تستمر كما لو أن شيئًا لم يحدث.
حركة يديه بطيئة، تغمره موجة من المشاعر التي يصعب السيطرة عليها—غضب دفين، حزن لا شكل له، إحساس قاسٍ بعدم الاكتمال الذي يسحقه في كل لحظة. أغلق عينيه للحظة، كما لو أنه يحاول إيقاف أفكاره عن الدوران بلا توقف، لكنه يعلم أنه لا مهرب من هذا الشعور، لا مهرب من هذا الفراغ الذي يتربص به في كل زاوية، يذكره بأنه لم يعد كما كان.
أدرك دياب أن الجرح الذي بدا وكأنه شُفي، كان في الحقيقة أعمق مما تصور، وأكثر حضورًا مما حاول إنكاره.
داخل عزلته، حيث لا رفيق سوى الذكريات التي تعصف برأسه، كان مستغرقًا في استرجاع تفاصيل الحادث الذي غير حياته، كأن المشاهد تتكرر أمامه، كأن الزمن لم يتحرك، كأن تلك اللحظة المشؤومة لا تزال تحكم قبضتها عليه، تمنعه من الإفلات.
ولكن قطع ذكرياته صوت رنين هاتفه المتواصل، كأنه يتحداه، كأنه يستفزه للخروج إلى أرض الواقع.
تأفف بغيظ، التقط الهاتف من فوق الفراش بعنف، وأجاب بنبرة حادة، غليظة، وكأن المتصل أمامه، وكأنه مستعد لأن يخنقه ليكف عن إزعاجه.
لكن ما سمعه على الجانب الآخر لم يكن متوقعًا، لم يكن صخبًا أو إلحاحًا مزعجًا، بل كان صوتها الذي يشبه الحياة التي افتقدها.
تسارعت ضربات قلبه، صوتها الدافئ الذي لطالما حلم به ينادي بأسمه، صوتها العذب الذي يشبه زقزقة عصفور الحسون، هل حقًا تحدثه ويستمع لصوتها، لم تكن وهمًا، لم تكن خيالًا أفسده حزنه الدائم، للحظة نسي الضيق، نسي يأسه، لم يعد يرى الفراغ الذي أهلكه، بل بات يشعر وكأن هذا الصوت وحده قادرًا على انتشاله من أعماقه، ولو للحظة واحدة فقط..

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top