الفصل 2
“اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك “
لم يَمت الحبُّ وحده… ماټت معه كل الكلمات التي كانت تسكن قلبي ذات يوم.
لم يبقَ من المعاني إلا صدى خافتٌ لأنينٍ قديم، ډفنوه بأحكامهم الجاهزة، وبعيونٍ لم تُجيد سوى النظر من بعيد.
لم يحاول أحد أن يقرأ حكاياتي من عيني، أو أن ېلمس ۏجع الشعور في صدري.
كانوا سريعين في إصدار الحكم… باردين في مشاعرهم، وكأن القلوب تحوّلت إلى حجارة لا تعرف سوى مصالحها.
وهكذا… سقط قلبي قتيلًا أمام أعينهم، دون أن يرفّ لهم جفن،
وغادرتُ الچنازة وحدي… أنا المېت والباكي والمُشيّع…
عند ميرال قبل ساعات..وخاصَّةً بعد
إغلاقها الهاتف مع إلياس، ضغطت على مقودِ السيارة وتحرَّكت وهي تبكي تتخيَّل صړاخ إلياس، تحرَّكت بالسيارة بعض الخطوات، لتشعرَ بحركةِ جنينها بأحشائها وكأنَّه يشعرُ بما تمرُّ به، توقَّفت تبكي بصوتٍ مرتفع، تضربُ على المقود:
-ليه بيحصل معايا كدا، ليه..عملت إيه لدا كلُّه..قالتها تبكي بشهقاتٍ حتى شعرت بانقطاعِ أنفاسها، وقعت عيناها على صورةِ طفلها بالسيارة، لتسحبها بين أناملها ثمَّ ترجَّلت منها تاركةً كلَّ شيء، وخطت بعض الخطواتِ مبتعدة، فجأة..توقَّفت تنظر إلى صورةِ طفلها مرَّة وإلى السيارة مرَّةً أخرى، أسرعت إلى السيارة التي تقفُ على حافَّةِ النهر، ودارت بعينيها بالمكان تلتقطُ أي كاميرا، ولكن المكان كان خالٍ من الكاميرات، فتحت باب السيارة وقامت بتشغيلها تُحرِّكها الخطوة التي تبعدها عن النيل، ثمَّ ابتعدت لتقعَ بالنهر أمام أعينها، مع دموعها التي تنسابُ بصمت، ظلَّت للحظاتٍ تنظر إلى السيارة التي بدأت تسقطُ تحت المياه، ثمَّ تراجعت تزيلُ دموعها بقوَّةٍ تهمسُ لنفسها بضعف:
-ابعدي ياميرال، مالكيش مكان معاهم، عايزة ټموتي كافرة، ابعدي، سبيهم يتهنُّوا بحياتهم، ابعدي عن جوزك وابنك مالهمشِ ذنب يتعايروا بيكي
نظرت للصورة التي بين يديها تهمسُ بخفوت:
-يوسف حبيبي، سامحني ياروحي، بس هتلاقي اللي يربِّيك زي اللي ربَّاني، متأكدة من ماما فريدة مش هتفرَّط فيك، حبيبي متزعلشِ منِّي، بكرة تكبر وتعرف عملت كدا ليه، هيجي الوقت ويقولوا جدك وجدتك قتلوا جدك..وقتها مش هعرف ارد عليك، مش اعرف اكدبهم، ياريتها كدبة ياحبيبي، وللاسف الكل بيبص لمامتك انها بنت مچرم، وبكرة لما تكبر هيقولوا كدا، جدك كان مچرم وارهابي، خليك مع باباك، يعرف يحميك اكتر مني، عارفة ومتأكدة أنه مش هيفرط فيك…احتضنت أحشاءها
-ولو لينا نصيب نتقابل اكيد هتسامحني..أما انت مش لازم تيجي على الدنيا دي، حبيبي انا اسفة، بس نصيبي اتنازل عن واحد وانزل التاني، مفيش حد بيهرب من قدره…قالتها لجنينها وتحرَّكت حتى غادرت المكان بالكامل، ظلَّت تتحرَّك دون هدى، خارت قواها وجلست على أحدِ المقاعدِ بالأرصفة، تنظر إلى حركةِ السياراتِ السريعة، وداخلها قطعةً صغيرةً تتلَّوى كأنَّها تشعر بحالةِ ضياعها، دقائقَ إلى وصلت ساعة كاملة وهي جالسة بمكانها، الذي يقعُ بأحد الأماكنِ النائيةِ عن القاهرة، لا تعرف كيف وصلت إلى هنا، يبدو أنها مشت كثيرًا، نهضت من مكانها وظلَّت تتحرَّك دون اكتراثٍ لحالةِ الألم التي تسرَّبت لجسدها، حتى توقَّفت تأخذُ أنفاسها بعدما شعرت بالإرهاق الشديد، استندت على الجدار، ومازالت صورةُ طفلها بين كفَّيها، اتَّجهت بنظرها إلى أحد الطرقِ الفرعية، وتحرَّكت إليه لا تعلم أين تذهب، كلُّ ماتعلمهُ تريد أن تبتعد عن كلِّ شيءٍ يربطها بالماضي،
ظلَّت تسير بالشوارعِ إلى أن توقَّفت بجسدٍ منهك، تنظرُ إلى تلك اللافتة التي يدوَّنُ عليها:
استشاري النساء والتوليد..
وضعت كفَّيها على أحشائها، ثمَّ همست لجنينها:
-سامحني حبيبي مالكشِ ذنب..
قالتها وولجت تصعدُ درجاتِ السلَّم بإنهاك إلى أن وصلت الطابق المنشود، كانت الطبيبة قد أنهت عملها، وتقوم الممرضة بإغلاقِ النوافذ، استمعت إلى خطواتٍ واهنةٍ خلفها، التفتت متسائلة:
-نعم..!!
-عايزة أقابل الدكتورة.
أغلقت النافذة واقتربت تنظرُ إلى حالتها الرثَّة، ثمَّ أشارت إليها بالخروج:
-آسفة، الدكتورة خلَّصت كشف عدِّي علينا بكرة، قالتها بخروجِ الطبيبة:
-خلَّصتي يانعيمة؟..
أومأت لها وقالت :
-أيوة يادكتورة..اقتربت منها تخطو وكأنَّها تخطو فوق سيفٍ مدبَّب:
-عايزة أنزِّل البيبي.
قالتها بدموعٍ تنفجرُ كبركٍ جارية،
وهي تضع كفَّها على جنينها..
رفعت الطبيبة عينيها إلى الممرضة وقالت:
-سيبنا شوية..أومأت الممرضة تتطلَّعُ إليها بحزن، وخرجت من الغرفة،
استدارت الطبيبة متسائلة:
-اسمك إيه؟!.،
هزت كتفها وقالت:
-معرفش..تفاجأت الطبيبة بردِّها ثمَّ اقتربت منها تسألها:
-إنتي حامل إزاي؟!
هنا انتفض جسدها من نظراتِ الطبيبة، ورغم ماشعرت به من انكسار إلَّا أنَّها همست قائلة:
-أنا متجوزة، بس جوزي سافر وسابني لوحدي، وأنا مش عايزة الطفل..
توقَّفت الطبيبة واتَّجهت تجلسُ بمقابلها:
-أومال إزاي مش فاكرة اسمك؟..
رفعت عينيها المرتجفة إلى الطبيبة بتيهٍ وقالت:
-لأن دي الحقيقة، أنا اتربِّيت عند ناس وأهلي ناس تانية..
تنهَّدت الطبيبة فيبدو أنَّها تعاني من أزمة نفسية، توقَّفت وأشارت إليها على فراشِ الكشف قائلة:
-إنتي في الشهر الكام دلوقتي؟!
ترقرقت عيناها بالدموع، وهمست بصوتٍ منكسرٍ كأنَّها تعترفُ بذنبٍ عظيم:
-نصِّ الرابع…
توقَّفت الطبيبة للحظة، وقد بدت عليها علاماتُ الدهشة، ثمَّ تنهَّدت ببطء وابتسمت ابتسامةً باهتة، وقالت بنبرةٍ ناعمةٍ رغم الحيرة التي تشوبها:
– شكلك بنتِ ناس…وكمان حلوة ومتعلِّمة، مفكَّرتيش إنِّ اللي هتعمليه دا حرام؟ دا مش بس هيئذيكي، دا هيقتل روح!.
أخفضت ميرال عينيها إلى الأرض، كأنَّها تحاولُ الهروبَ من ذنبها في وجهِ الطبيبة، ثمَّ مدَّت يدها المرتجفة نحو معصمها وخلعت إسورة ماسية، وقدَّمتها للطبيبة بتوسُّلٍ صامت:
– أنا ممعيش فلوس، بس ممكن أدِّيكي دي…
زفرت الطبيبة، ورفعت كفَّها رفضًا:
– أنا مش بتكلِّم علشان الفلوس.. بتكلِّم علشان الحلال والحرام، الجنين دلوقتي بقى ليه نبض، ليه روح، بدأ يتكوِّن…
– عارفة..!!
قالتها بهمسٍ نادم..
– يعني عارفة إنُّه حرام وبتعمليه برضو؟
– حضرتك…هتنزِّلي البيبي ولَّا لأ؟
ساد الصمتُ لوهلة، قبل أن تشيرَ الطبيبة نحو السرير:
– طيب نكشف ونشوف..
تمدَّدت ميرال ببطء، كأنَّها تتهيأُ لمحاكمةِ قلبها.مسحت الطبيبة السائل على بطنها، ولحظات فقط كانت كافية لظهورِ النبضِ على الشاشة
واضحًا…حيًّا، ثمَّ ارتفع صوتُ الجهاز ينبض، منتظمًا…دُق دُق دُق.
كانت كلُّ نبضةٍ سهمًا ينغرسُ في صدرها، ودموعها تتراقصُ بجفنيها تهدِّدُ بالسقوط..ناولتها الطبيبة محرمة بلطف، ثمَّ ابتسمت بعدما وجدت تردُّدها وأردفت:
– حالة الجنين كويسة جدًا..وشكلها بنوتة كمان…
وضعت ميرال يدها فوق بطنها، تتحسَّسُ نبض جنينها وهمست متسائلة:
-بنت..!!
هزَّت الطبيبة كتفها وقالت:
-احتمال كبير، نعمة مش كدا، تمتمت بها الطبيبة وعيناها تتفحَّصها، فأغمضت عينيها…وعقلها ينخرُ ذاكرياتها مع إلياس..
-إلياس ليه مردتش عليَّا في موضوع الحمل؟!.
“حبيبي، إحنا هنأجِّل الحمل لمَّا تخلَّصي كورس العلاج النفسي…وقتها وعد منِّي هاخدك بنفسي للدكتور.”
– مش يمكن لمَّا أحمل..يساعدني
ياإلياس؟
مرَّر كفِّهِ فوق رأسها، ثمَّ طبع قبلةً هادئةً على جبهتها:
– أنا كمان عايز أطفال..بس عايزك أقوى الأوَّل…أقوي علشان تقدري تواجهي ولادك، متنسيش يوسف عايز مسؤلية كمان مع البيبي..
– أنا كويسة..
هزَّ رأسهِ رافضًا، ورفع ذقنها برقَّة:
– لو كنتي كويسة، كنتي نزلتي شغلك… أنا مش هسيبك كدا..أنا عايز ميرال اللي كانت تقرفني بشغلها، وتيجي عندي وتطلب مقابلة المتَّهمين…مش البنتِ اللي قدَّامي..
– التانية كانت ميرال السيوفي،
ياإلياس…بنتِ مدام فريدة، الستِّ النضيفة اللي الكلِّ بيحترمها…دلوقتي ميرال الشافعي، بنتِ رانيا وراجح.
تغيَّرت ملامحه، واشتعلت نظراتهِ بغضبٍ مكتوم، أمسك وجهها بيديه:
– إنتي ليه مصرَّة تصدَّقي كدبة؟ إنتي بنتِ فريدة، ومحدش في الدنيا يقدر يقول غير كدا.
– بس دي مش الحقيقة…
نهض واقفًا، يتنفَّسُ بثقل، ثمَّ أشار بيده:
– اسمعيني كويس..إنتي مش بنت راجح..أنا مش عايز أسمع الهبل دا تاني، إنتي بنتِ البيت دا، وهتفضلي فيه لحدِّ مانندفن فيه…سمعتي؟
اقتربت منه بخطا متعثِّرة، أحاطت عنقهِ بذراعيها، ومسَّدت على صدره:
– خلاص..متزعلش منِّي…ماتبقاش قفُّوش كدا…أنا مصرَّة ياحبيبي، عايزة أحمل…وأجيبلك بنوتة.
رفع حاجبهِ ساخرًا:
– خلاص حدِّدتي النوع كمان؟ طب لو قولت عايز ولد؟ مش عايز بنات يجنِّنوني…كفاية إنتي.
ضحكت بصوتٍ صادق، ودفنت وجهها في عنقه:
– بس بقى..متبقاش رخم كدا…أنا عارفة…إنتَ عايز بنت، زيِّ…
قطب جبينه:
– ودا استنتاج الأستاذة؟ أكيد لأ… البنات عايزين دلع وأنا مش هعرف أربِّيهم.
– بالعكس، ياإلياس…هتكون أب حنون جدًا…خصوصًا للبنات، أنا متأكدة.
رفع ذقنها ونظر في عينيها بعمق:
– يعني مش هتغيري من شمسِ أبوها؟
تراجعت قليلاً:
– مين شمس أبوها دي؟
ضحك، ثمَّ حملها بين ذراعيهِ وهمس:
– لا..دي متتقالش كدا نظري…
ياروحي.
قطعت الطبيبة شرودها:
– هكتبلك شوية مقويات وتحاليل…
رفعت الطبيبة رأسها بتردُّد، وسألتها:
– لسه عايزة تنزلي البيبي؟
هزَّت رأسها بسرعة، وقد اتَّخذت قرارها:
– لا..مش هنزِّله.
أومأت الطبيبة برضا، ووضعت صورة السونار في يدها:
– اللي كنتي عايزة تعمليه دا..چريمة، حرام شرعًا وقانونًا..لو زعلانة مع جوزك، حاولي تشوفي حل…غير إنِّك تقتلي روح بريئة.
ارتعشت شفاهها، وتمتمت:
– خلاص..مش عايزة أنزِّله..شكرًا لحضرتك…
ثمَّ توجهت نحو الباب، قبل أن تتوقَّفَ فجأة:
– ممعيش فلوس لفيزا الكشف… هعدِّي عليكي في وقت تاني.
أوقفتها الطبيبة :
– استني..اسمك إيه؟ وساكنة فين؟ أخلِّي السواق يوصَّلك؟.
أجابتها بصوتٍ خاڤت:
– شكرًا لحضرتك…قالتها وغادرت…
نزلت السلَّم بخطا مثقلة، وجلست على الرصيف كأنَّها تحملُ الدنيا فوق كتفيها..الشارع بدا موحشًا، والضوء شاحبًا..مرَّت سيارة، ثمَّ ظهر شاب مترنِّح، تفوح منه رائحةَ الخمر:
– الحلوة قاعدة لوحدها؟ مستنية حد؟ أنا موجود…والليلة برد.
اقترب ومدَّ يدهِ نحوها، لكنَّها انتفضت وصړخت:
– ابعد عنِّي ياحيون..
لطمت وجهه، بعدما حاول جذبها، ثمَّ دوى صوتُ الممرضة التي كانت تتحرَّكُ بالجانبِ المقابل متَّجهةً إلى وسيلةِ مواصلات:
– ابعد عنها ياكلب.
فرَّ الشاب، واقتربت الممرضة منها، بينما ارتجف جسدُ ميرال، وقالت بصوتٍ باكٍ:
– شكرًا لحضرتك..قالتها وهمَّت بالمغادرة، ولكنَّها أوقفتها:
– استني يا بنتي..أنا سمعت كلامك مع الدكتورة…
تردَّدت لحظة، ثمَّ أردفت:
– أوعي تخلِّي راجل يتحكِّم في وجعك…ماتتنازليش عن حتة منِّك، حتى لو العالم كلُّه باعك…لو الحمل دا شړ، ربِّنا ماكانش رزقك بيه.
انهمرت دموعُ ميرال، وتمتمت بصوتٍ كصوتِ طفلٍ يدافعُ عن أبيه:
– هوَّ ميعرفش…هو كويس…
اقتربت منها الممرضة، وقد بدا عليها القلق:
– إنتي مين يابنتي؟ إيه اللي وصَّلك لكدا؟!
أجابت ميرال بصوتٍ متقطِّع:
– أنا معرفشِ أنا مين…أنا…معرفش…
تحرَّكت مبتعدة، لكنَّها توقَّفت بعدما شعرت بكفِّ الممرِّضة تمسكُ بذراعها برفق:
– هتروحي فين؟ الدنيا ليل…والجوِّ برد.
هزَّت كتفيها، وأجابت بيأس:
– معرفش…همشي يمكن..ربِّنا يخلَّصني من الدنيا دي، بس مش عايزة أموِّت نفسي علشان ماكونش كافرة…
سكتت المرأة لحظة، ثمَّ قالت بهدوءٍ حنون:
– طيب…إيه رأيك تباتي عندي الليلة؟ والصبح يبقى ربِّنا يحلَّها…
توقَّفت ميرال عند الرصيف، متردِّدة، قدماها كأنَّما التصقت بالأرض، عيناها متشبثتانِ بنظراتِ السيدة التي مدَّت لها يد النجاة..جسدها يرفضُ أن يستجيب…
اقتربت نعيمة وربتت على كتفها بعدما انهمرت الأمطارُ بغزارة، ومالت عليها بحنوِّ :
– الجو بيمطَّر يابنتي…وأنا مستحيل أسيبك هنا، ياتقوليلي اسمك أو رقم جوزك، ياتيجي معايا.
وضعت ميرال يديها المرتجفتينِ على بطنها المنكمشِ من الخۏف، فاسترسلت نعيمة:
– علشان خاطر اللي في بطنك…ده أمانة، حرام عليكي تسيبيه، هتتسئلي عنَّه.
هزَّت رأسها بعنادٍ موجوع، وابتعدت ببطءٍ كأنَّ كلَّ خطوةٍ منها تُجرُّها بأنين:
– شكرًا…أنا همشي.
لكن نعيمة اعترضت طريقها، بعد أن اشتدَّت زخَّاتُ المطر وضړبت الأرض پجنون، ثمَّ سحبتها من كفِّها برفق، وهمست برجاء:
– مستحيل أسيبك في الجوِّ ده..حتى لو لقيتي حيطان تحميكي من البرد… هتلاقي كلاب الشوارع بينهشوا لحمك من غير رحمة.
توقَّفت ميرال للحظة، وهي تشعر بوهجِ حنانها يتسلَّلُ لجسدها البارد، هنا..تذكَّرت “فريدة”، وكيف أمسكت يد “رؤى” يوماً ما، وقالت لها: “الحياة الوحيدة اللي فيها أمل، هيَّ اللي بنلاقي فيها حدِّ يمسك إيدينا، عمر الخير مايضيع يابنتي، ودي بنت، مفيش حاجة اسمها ارمي الخير في البحر، وزي ماأنا لقيت مصطفى وغادة..رؤى كمان لقيتنا، وهكذا الحياة”
تحرَّكت بجوارِ نعيمة تردِّدُ في عقلها:
هل تُعيد مأساة فريدة من جديد؟
أقنعت نفسها: لعلَّها تجدُ عند هذه السيدة ماوجدتهُ فريدة عند غادة ومصطفى، ورؤى عند فريدة..
استسلمت لجسدها المرتعش، وتحرَّكت بجانبِ السيدة التي أسرعت بخلعِ وشاحها الثقيل ولفِّهِ على أكتافِ ميرال المرتجفة تربتُ عليها بحنوٍّ بالغ:
– مټخافيش يابنتي…واللهِ ماهعمل فيكي حاجة.
ابتسمت بهدوء، ولكنَّها توقَّفت بعدما شعرت بشيءٍ داخل كفَّها حين سحبته…صورة مشوَّشةُ الملامح تبلَّلت من المطر، سألتها بدهشة:
– مين ده؟
نظرت ميرال إلى الصورة،فملأتها بالدموع، ورفَّت أناملها المرتعشة عليها تحاولُ أن تعدل من وضعيةِ الصورة بعد ماأصابها المطر، وهمست بأنينِ أم:
– يوسف..ابني.
شهقت السيدة وهي تضربُ على صدرها:
– أوعي تقولي ماټ؟
هزَّت ميرال رأسها نافية، ثمَّ تمتمت بصوتٍ مخڼوق:
– بعد الشرِّ عليه من أي ألم، لا..هوَّ مع باباه، سبتُه مقدرتش آخده معايا.
وصل الميكروباص، فأشارت السيدة إليه:
– طيب اركبي بسرعة.
تردَّدت قليلاً، لكن هتف السائق بصوتهِ الغليظ كسر تردُّدها:
– يلَّا ياأبلة…عايزين نروح من البرد.
صعدت السيارة بجهل، وجلست بجوارِ النافذة، وعيناها لا ترى سوى قطراتِ المطر تحاولُ عبثًا أن تمحو ماضيها…
ظلَّت نعيمة جوارها طوالَ الطريق، حتى توقَّفت السيارة في موقفٍ آخر، ثمَّ استقلَّتا توكتك عبر شوارعَ ضيِّقة متشابكة كأنَّها متاهة من قدر…
ترجَّلتا في حيٍّ شعبي متواضع بأطرافِ القاهرة..
نظرت ميرال حولها بخوفٍ كأنَّها دخلت كوكبًا غريبًا، حتى شعرت بكفِّ نعيمة تسحبها من ذراعها:
– حتى الكهربا قاطعة…ياترى ياهند بتعملي إيه ياقلبي لوحدك.
تبعتها ميرال متردِّدة، إلى أن دلفت إلى بيتٍ صغير..
صاحت نعيمة من الداخل:
– تعالي يابنتي، ادخلي.
خرجت فتاة صغيرة تحتضنُ مصحفها وتنيرُ وجهها بطاريةَ شحنٍ خاڤتة، وقالت بلهفة:
– اتأخرتي أوي ياماما.. والكهربا قطعت.
ضمَّتها نعيمة وقبَّلت جبينها:
– معلش ياحبيبتي..الدكتورة مسافرة، وكان عندنا كشوفات كتير…بس الحمدُّ لله جيت.
نظرت هند إلى ميرال، وسألت بفضول:
– مين دي ياماما؟
استدارت نعيمة تنظرُ إليها برقَّة:
– ادخلي يابنتي..دي هند بنتي، ومفيش غيرنا في البيت، جوزي مټوفي من سنين…ارتاحي، اعتبريه بيتك.
دخلت ميرال بتردُّد، تسمَّرت عيناها على المصحفِ بين يدي هند، فهدأ قلبها قليلًا..
– اسمك إيه يابنتي؟ تساءلت بها نعيمة، فأضاءت الكهرباء فجأة..
ابتسمت ميرال بخفَّة وقالت:
– اسمي..مروة.
لم تعرف لماذا نطقت بهذا الاسم..
هل الماضي أصبحَ جزءًا منها…أم أنَّ حياتها أُجبرت على ډفنها لاستقبالِ الماضي؟
جلبت لها نعيمة ثيابًا نظيفة:
– عارفة هدومنا بسيطة، بس حاولي تقضِّي بيهم لحدِّ ماهدومك تنشف، جسمنا واحد..قالتها ثمَّ التفتت لهند:
– روحي مع أبلة مروة، وورِّيها الحمَّام، تاخد دش سخن..وأنا هسخَّن شوربة العدس..
بعد قليل، جلس الثلاثة على “طبلية” صغيرة، أمامها شوربة العدسِ الساخنة وبعضَ المخلَّلات..
نظرت ميرال إلى الطعام، وارتعشت جفونها…متذكِّرةً حديثَ فريدة، عن شوربةِ العدس الدافئة وأهمِّيتها بالشتاء..
ربتت نعيمة على ظهرها:
– عارفة أكلنا بسيط، بس نضيف وهيدفِّيكي.
تناولت الملعقة بأصابعَ مرتعشة، وقالت بخفوت:
– ريحته حلوة…وأنا مش قرفانة.
رفعت الملعقة إلى فمها، لكنَّها لم تتذوَّق الطعم…بل تذوَّقت مرارةَ الفراق..
مرارة صورةِ زوجها وطفلها وهي تعصفُ بها من الداخل..
وضعت الملعقة بهدوءٍ وقالت:
– مليش نفس..أنا عايزة أنام شوية، ممكن؟
هزَّت نعيمة رأسها بأسى:
– يا بنتي، إنتي حامل…ولازم اللي في بطنك يتغذَّى.
– شكرًا..بجد، بس مليش نفس.
وقفت نعيمة، وساعدتها على النهوض:
– دي أوضة هند..بتذاكر فيها، وبتنام معايا، أنا هخلِّيها تذاكر برَّة، وإنتي نامي وارتاحي، زي أختي بالظبط.
– شكراً لحضرتك..
دخلت الغرفة الصغيرة، وطافت عيناها على الأركان، شعرت بدفءٍ غريبٍ لم تعرفه من قبل..
اتَّجهت للفراشِ البسيط وتمدَّدت… كانت تظنُّ أنَّها لن تنام، لكنَّها غابت في سباتٍ عميق، وكأنَّ الحياةَ منحتها فرصةً للهرب..ولو لساعات.
بقصرِ الچارحي.. بعد عدة أيام
كان الجميع يجلسون على طاولةِ الطعام ولكن هناك من الألمِ ماتنطقهُ العيون، بعد ماصار لميرال..
رفع فاروق رأسهِ وتساءل:
-أرسلان في فيلا السيوفي دلوقتي؟.
أومأ إسحاق وقال:
-حالتهم صعبة جدًا، المشكلة ميعرفوش إنَّها عايشة ولَّا ميِّتة، وإلياس بيقول طول مادفنَّهاش يبقى لسة عايشة..
تآذر الوجعُ بالقلوب لتتمتمَ صفية:
-حبيبتي لسة صغيرة، وكمان ابنها ياحبيبي..إزاي وقعت في النيل؟.
زفر اسحاق باختناقٍ يمسح على وجههِ بسأمٍ وقال:
-محدش يعرف لحدِّ دلوقتي إيه اللي حصل، وزي ماغرام قالت دي كانت فرحانة علشان حامل..
شهقت صفية تضربُ على صدرها:
-ياحبيبتي يعني حامل كمان، ياربِّ يصبَّرك يافريدة إنتي وابنك، الله يكون في عونهم.
-ربِّنا يصبَّرهم فعلًا، إلياس عامل زي المچنون، ومصطفى اتحجز في المستشفى هوَّ وفريدة..الاتنين حالتهم توجع القلب..
-لا حول ولا قوَّة إلا باللهِ العليِّ العظيم..
طيب إيه ياإسحاق مش المفروض نكون معاهم في الوقتِ دا؟..قالها فاروق.
تأرجحت عيناهُ بحيرة، ونطق:
-واللهِ ماعارف يافاروق، كلِّ اللي أعرفه
إلياس رافض أيِّ كلام في الموضوع دا، وأنا سيطرت على الخبر، كلِّ اللي قاله إنَّها سافرت برَّة مصر وبس، غير كدا مقالش..مش عارف بقى هنروح إزاي.
أصدرت صفية ايماءة بسيطة وقالت:
-خلاص خلِّي غرام وأرسلان هناك، وكدا كدا همَّا بيزوروهم على طول، يعني إلياس مش هيتكلِّم.
بعيونٍ مكدَّسةٍ بالحيرة هزَّ كتفهِ ورد:
-والله أنا مقدرشِ أقول حاجة لأرسلان، لأنُّه أصلًا تايه ومش حاسس بحاجة، مهما كان دا أخوه ومرات أخوه، بغضِّ النظر لو رفضنا إنَّها بنتِ عمُّه..
نهضت ملك معتذرة:
-أنا شبعت هطلع أكمِّل مذاكرة..قالتها بنبرةٍ حزينة..
ربتت صفية على كتفها وقالت:
-روحي حبيبتي، ومتنسيس تكلِّمي خطيبك تسأليه عن مامته وباباه..
حاولت كبحَ دموعها، هزَّت رأسها بعدما فقدت النطق، وصعدت إلى غرفتها، دلفت للداخلِ ولم تستطع مقاومةَ طوفانِ دموعها التي انسدلت كزخَّاتِ المطر، وضعت كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها، واتَّجهت إلى فراشها، تتَّخذهُ ملجأها بعدما فقدت قدرتها على الحركة، جلست لبعضِ الوقت، اتَّجهت بنظرها إلى هاتفها، مرَّرت أناملها عليه لبعضِ اللحظات ثمَّ رفعتهُ دون تراجعٍ وطلبت رقمه، لحظات إلى أن رد:
-ألووو..
نطقها إسلام بنبرةٍ ثقيلةٍ ممزوجةٍ بنيرانِ الألم..
-عامل إيه؟.
-مش كويس خالص..
تمتم بها بتنهيدة، واستطرد بنبرةٍ حزينة:
-ماما تعبانة أوي ياملك، وإلياس حياته ادمَّرت..
-إسلام ممكن تهدى، وإن شاءالله كلِّ حاجة هتكون تمام.
انكمشت ملامحهِ بألمٍ يصرخُ داخله:
-إيه اللي هيكون تمام بس ياملك، ميرال اللي خلاص مش لقينَّها، ولَّا ماما اللي مش حاسة بحاجة من وقتِ الخبر، ولَّا أخويا اللي عايش ومش عايش..
حاولت أن تخرجهُ من حالته، فقالت:
-طيب إنتَ فين دلوقتي، عمُّو إسحاق بيقولِّي باباك ومامتك في المستشفى..
اتَّجه بنظرهِ إلى الغرفة التي تُحجزُ بها فريدة وطالعها بأعينٍ هالكةٍ بالألم وأجابها:
-بابا فاق والحمدُ لله كويس، ماما بس اللي تعبانة شوية، أنا عندها في المستشفى، وغادة هنا كمان.
-أجيلك؟..همست بها بصوتٍ خاڤت..
صمتَ ولم يجبها، ردَّت:
-هكون معاك بس مش هنتكلِّم في حاجة، بس لازم أكون جنبك، قلبي بيقولِّي كدا ياإسلام..
قالتها بتوسُّلٍ اخترقَ قلبه، وشعر كأنَّها سلبت فؤادهِ بنعومتها، أومأ رأسهِ وقال:
-مستنيكي..
اغروقت عيناها بالدموع وابتسمت ناهضةً من فوق الفراش قائلة:
-عشر دقايق وأكون عندك.
-ملك..نطقها بنبرةٍ خافتةٍ وقال:
-خلِّي بالك بلاش تسوقي بسرعة، الجوِّ مطر، متقلقنيش عليكي..
لامست كلماتهِ حوافَّ قلبها، ممَّا جعله ينبضُ بعنفٍ من فرطِ سعادتها وردَّت:
-متخافشِ عليَّا..
بمنزلِ يزن..
جلس في الحديقة، يحتضنُ رأسهِ بين كفَّيه، وعيناهُ تقذفانِ شررَ الألم.. اقتربت منه إيمان، وجلست بجواره، تُطوِّقُ كتفه بيدها بحنو:
– حبيبي، عامل إيه؟
تنهَّد بعمق، وتراجع بجسدهِ للخلف، يهزُّ رأسهِ نفيًا:
– مش كويس خالص ياإيمان..
هتجنِّن وأعرف إيه اللي حصل..مش معقول حاډث طبيعي!!.حتى لو كان طبيعي…إيه اللي ودَّاها هناك؟!
أنهى كلماتهِ بوصولِ كريم، الذي جذب مقعدًا وجلس بجوارهم:
– فيه جديد يايزن؟
– لأ…تلات أيام ومفيش أيِّ خبر..كذا فريق إنقاذ، وبرضو مفيش نتيجة.
أجابهُ كريم بنبرةٍ واقعية تخالطها الحذر:
– النيل كبير وعميق يايزن..مش سهل يلاقوها بسرعة، وكمان ممكن الحاډثة حصلت قبل ماإلياس يعرف بوقتِ طويل.
تساءلت إيمان، وقد بدا القلقُ في نبرتها:
– هوَّ طارق ورؤى فين؟
أجاب يزن وهو يطالعُ الأرضَ بشرود:
– رؤى في فيلا السيوفي، وطارق راح الشركة مع رحيل، عندهم اجتماع مهم..
عايزين كلِّ حاجة تمشي طبيعية… محدش يشكِّ في حاجة، الحكاية دي لو انكشفت هتكون خبطة كبيرة لإلياس..متنسيش من فترة كانت قضية راجح، ودي ممكن تحطُّه في دايرة الاتهام تاني.
شهقت إيمان، وقد بدأ الخۏف يتسلَّلُ إلى صوتها:
– يعني ممكن يتِّهموه بقټلها؟!
أغمضَ يزن عينيهِ بقوَّة، وأرخى رأسهِ على ظهرِ المقعد، كأنَّ الغصَّة التي شقَّت جوفهِ تحاولُ أن ټخنقه:
– دي مشكلة كبيرة جدًا لإلياس للأسف..إسحاق الچارحي لمَّحلي إنِّ رانيا لو عرفت، ممكن تتِّهمه بقټلها، وتقول إنُّهم أرغموها وهدِّدوها تزور تحليل DNA
صاحت إيمان بدهشة:
– مش معقول يايزن!.. دي لسة هتقدر تعمل حاجة بعد اللي حصل؟!
-طيب ناويين على ايه؟!
معرفشِ والله ياكريم، أنا كلِّ اللي يهمِّني دلوقتي، ميرال عايشة ولَّا مېتة،
ربت كريم على كتفه:
-إن شاءالله هتكون عايشة، وأكيد هيوصلولها.
-على ماأظن إلياس مش هيسكت ولا حيرتاح غير لمَّا يوصلَّها.
بالمشفى وخاصَّةً بغرفةِ فريدة..رفرفت أهدابها متأوِّهة، نهضت غادة سريعًا من مكانها واتَّجهت إليها، بدخولِ أرسلان وإسلام:
-ماما حبيبتي..قالتها غادة، لتفتح فريدة عينيها تتجوَّل بأنظارها في الغرفة، نظرت إلى الأبرِ التي تُغرزُ بكفَّيها وهمست متسائلة:
-أنا فين؟.
اقترب إسلام ورسم ابتسامة قائلًا:
-إيه يامدام فريدة على رأي إلياس كدا توقَّعي قلوبنا..
تاهت بنظراتها بينهم:
-إيه اللي حصل؟..
انحنت غادة تساعدها في الجلوس، تضعُ خلفها وسادة:
-حبيبتي ارتاحي مفيش حاجة..
رفعت رأسها تنظرُ بعيونِ غادة:
-فين ميرال، محدش قالَّها إنِّي تعبانة..
قالتها محاولةً الهروب من صفعاتِ عقلها عندما تذكَّرت ماصار..
اقترب أرسلان الذي يحاولُ التماسك أمامها بشقِّ الأنفس:
-حبيبتي ارتاحي دلوقتي الدكتور قال ممنوع الإرهاق..
أمسكت كفَّيه وحاوطتهُ بنظراتها:
-فين أخوك ومراته؟.
جاهد في إخفاء اعتصارِ أضلعهِ أمامها، ولكن خانت قواه رغم محاولاتهِ المستميتة لتتدحرجَ دموعه، ابتعد وأدار ظهره، بينما اقترب إسلام بدخولِ ملك ملقيةً السلام:
-مساء الخير..إزي حضرتك ياطنط فريدة، حمد الله على سلامة حضرتك..
-أهلًا حبيبتي.
دلف مصطفى يجرُّ أذيال جراحهِ المتلاطمة بصدره:
-حمد الله على السلامة يافريدة.
-مصطفى…فين إلياس وميرال؟..
-ماما..تمتم بها إسلام في محاولةِ تهدئتها، فوالده يمرُّ بوعكةٍ صحية غير عتابه الدائمِ لنفسه لما جنتهُ يداه..
اتَّجه مصطفى وجلس بجوارها، يطوِّقها تحت جناحِ ذراعيه:
-فريدة، ميرال عملت حاډثة، والعربية وقعت في النيل، وبيدوَّروا عليها، ادعيلها..
كانت مشدوهة لما تسمعه، حتى شعرت بثقلِ لسانها ممَّا جعلها فاقدةً النطق لبعضِ الدقائق..
مسَّد مصطفى على رأسها بحنان:
-عايزك قوية زي كلِّ مرَّة لو سمحتي.
تسارعت نبضاتها، وشعرت بالاختناق، وألمًا حادًّا استوطنَ خلاياها، تهمسُ باسمِ ميرال..
في حين نكس مصطفى رأسهِ أسفًا، وتمتمَ بألمٍ اعتصر روحه:
-الانقاذ بيدوَّروا على الچثة في النيل.
شهقت بصوتٍ مسموع، ثمَّ رفعت رأسها وارتسمَ الألمُ بمقلتيها وهي تطوفُ بنظرها بينهم، تحاولُ استيعاب ماتلفَّظهُ مصطفى..حرَّكت شفتيها التي بهتت مع شحوبِ وجهها:
-ميرال مين؟!.
قالتها لتخترق صدورَ الموجودين..
-ماما..لو سمحتي، كفاية إلياس
هنا شعرت وكأنَّ أحدهم ألقاها بعصا غليظة فوق رأسها، ليترنَّحَ جسدها من شدَّةِ ماأصابهُ تهمسُ بخفوت:
-إلياااس..همست بتقطُّعٍ تكبحُ غلالةَ دموعها التي وخزت جفنيها، لتعود بالنظرِ إليهم:
-قصدك بيدوَّروا على جثِّة ميرال بنتي؟!.
قبَّل مصطفى جبينها واحتضنَ وجهها ينظر لعينيها التائهة:
-آسف يافريدة مقدرتش أحميها، أنا كسرتها..
-بابا مش وقته، نطقها إسلام پغضب..
سقطت الكلمة كسكِّين على قلبِ فريدة..
ونظرت حولها، تبحثُ بأعينهم عن أي منجى لكلماتهم، ولكن هناك قدرًا، لابدَّ أن تهربَ منه، لا مفرَّ من الۏجع أيتها الأمُّ المفجوعة، نعم لم تكن ابنتك، ولكنَّها كانت تمثِّل لكِ الحياة..دارت حولها كالذي يحلم بكابوس، بل كمن انتُزعت الحياة من بين يده..
-ميرال بنتي!!.
رفعت عينيها إلى نجلها، ودقَّقت بملامحهِ ورغم حالتهِ إلَّا أنَّها تساءلت غير مستوعبة ماتلفَّظتهُ شفاههم:
-فين أخوك يابنِ الچارحي؟.
أيام أخرى خيَّمت على الجميع بالحزنِ بعدما فقدوا الوصول إليها..
عند إلياس كان جالسًا بالحديقةِ ينظرُ أمامهِ بشرود..وصل إليه مصطفى وظلَّ يراقبهُ لبعضِ الدقائق، ثمَّ اقترب منه ووضع كفِّهِ على كتفه:
-عامل إيه ياحبيبي ؟!
لم ينظر إليهِ وكأنَّه لم يكن موجود، اتَّجه بنظراتهِ إلى طفلهِ الذي يلهو بالحديقةِ مع غرام وبلال، سحب المقعد وجلس بجواره:
-مش عايز ترد على أبوك ياإلياس، وصل أرسلان بتلك اللحظة وقال:
-عمُّو مصطفى، لو سمحت مش وقته..لم يلتفت إلى أرسلان ولكنَّه اتَّجه يجلسُ أمام ذلك الحاضرِ الغائب واحتضنَ وجهه:
-آسف..
نزلت دموعهِ بصمتٍ دون أن يتفوَّهَ بحرف، ورغم ذلك ظلَّ كما هو.. كالجسدِ الذي فقدَ الحياة، انحنى أرسلان يرفع مصطفى من أمامه:
-لو سمحت، علشان خاطري..
رفع عينيهِ إلى أرسلان:
-مكنشِ قصدي، ولا كنت أعرف دا كلُّه هيحصل.
-عمُّو مصطفى لو سمحت..نطقها وهو يراقبُ أخاهُ إلى أن هزَّ مصطفى رأسهِ وقال:
-فين فريدة؟!
أشار إليه أرسلان إلى الاعلى:
-فوق منزلتشِ النهاردة..خطا إليها بخطواتٍ ثقيلة، يعلم أنَّ المواجهة صعبة، ولكن لابد أن تحدث..إلى متى سيهربُ من المكتوب..
بينما اقتربَ أرسلان من إلياس وجلس بمقابلته:
– إلياس هتفضل لحدِّ إمتى كدا، أنا مش عارف أقولَّك إيه، بس لازم تفوق علشان ابنك، إنتَ مش ضعيف أبدًا، يصعب عليَّا أشوفك كدا.
لم يكترث لحديثهِ وظلَّ كما هو يتابعُ طفلهِ الذي سقط على ركبتيهِ ېصرخ، نهضت غرام من جوارِ أطفالها واتَّجهت إليه:
-مالك ياحبيبي..
أشار إلى ركبتيهِ وارتفع بكائه:
-اتعوَّرت وجابت ډم، أنا عايز ماما..
نهض أرسلان من مكانهِ بعدما وقع بصرهِ على ذلك المشهدِ الذي أدمى قلبه، وهو يرى دموعَ أخيه تتساقطُ بصمتٍ على بكاء طفلهِ ومطالبتهِ بوالدته..
حملهُ أرسلان وتحرَّك به إلى جلوسِ إلياس، ينادي على الخادمة بإحضارِ الإسعافات الأولية..
أجلسهُ فوق الطاولة وفرد ساقهِ مع بكائه:
-إنتَ بتوجعني، عايز ماما علشان تبوسها والألم يهرب زي ماكانت بتقولِّي.
نهض إلياس يتحرَّكُ للداخلِ بعدما فقد اتزانهِ أمام طفلهِ واتَّجهَ إلى غرفته، وجد فريدة ومصطفى بداخلها، اقترب بخطا ثقيلة ينظرُ إلى فريدة التي تحتضنُ ثيابها وتبكي، بينما جلس مصطفى بجوارها يضمُّها لأحضانه..
طاف بعينيهِ على الغرفة التي تمتلئُ برائحتها، فلم يدخلها منذ تلك الحاډثة.
وصلت الخادمة إليه:
-نعم ياباشا..؟!
أشار إلى ملابسِ ميرال وأردف بلسانٍ ثقيل:
-جهِّزي الشنط، مش عايز أيِّ حاجة هنا، لمِّي كلِّ هدومنا، وهدوم يوسف، وكلِّ متعلَّقات المدام، وخليهم ينزِّلوا الشنط في عربيتي، وقولي لحنان المربية تجهِّز يوسف هننقل بيتي.
شهقت فريدة ونهضت بجسدٍ مترنِّحٍ مقتربةً منه بعدما أشارت الخادمة:
-روحي يابنتي شوفي وراكي إيه..
تشبَّثت بذراعِ نجلها تنظر إلى ملامحهِ التي بهتت ولم يظهر منها سوى الألمِ والحزن:
-عايز تبعد عنِّي ياإلياس!!.. خلاص عايز تمشي، تقطع علاقتك بالبيت
ابتعدَ دون حديث، وسحب حقيبتهِ يجمعُ ملابسهِ بصمت، مع مراقبةِ فريدة ومصطفى إليه، تحرَّك مصطفى وتوقَّف ينظرُ إليه بأسف:
-إلياس..أنا آسف، واللهِ يابني ماكان قصدي.
رفع رأسهِ أخيرًا إلى مصطفى وهمس بكلماتٍ متقطِّعة:
-شكرًا على كلِّ حاجة، جميلك فوق راسي، بس مبقاش ينفع تقولِّي يابني، خلاص مفيش حاجة تربط إلياس الشافعي بمصطفى السيوفي، إنتَ عندك حق، أنا مش ابنك، وهيِّ كمان مش بنتك، أنا اللي بتأسِّف لحضرتك، آسف علشان أخدت أكتر ماليَّا، وصدَّقني مش زعلان منَّك، أنا زعلان من نفسي علشان طلعت مش قدِّ المسؤولية، معرفتش أحميها من نفسها، رغم تحذيرات الدكاترة بس كنت بسيبها بالساعات والأيام، وهيَّ استحملتني كتير، حضرتك مش مذنب، أنا أذنبت وغلطت وربِّنا عاقبني، علشان يعرَّفني قيمة النعمة اللي ضيَّعتها..
-شكرا مصطفى باشا على كلِّ حاجة..
وصل إليهِ بخطوةٍ ودفع الحقيبةَ بكلِّ محتوياتها وصړخ بصوتٍ زلزل المكان:
-أنا أبوك يالا، سواء رضيت أو لا، وإياك تقولِّي مصطفى باشا دي تاني، سمعتني يابنِ مصطفى..
نظر إلى عيناهُ مباشرةً وتمتم:
-أنا مش ابنك، آه أنا ابنِ الستِّ دي، بس مش ابنك، حاول تعيش على الحقيقة دي، هيَّ مش مُرة أوي، علشان كدا هتنسى بسرعة، وماشاء الله عندك ولدين أحسن منِّي مليون مرَّة.
-إلياس..قالها مصطفى وهو يطبقُ على ملابسهِ يهزُّه ببكاءٍ وأردف باكيًا:
-حبيبي متعملشِ فيَّا كدا، أنا عارف إنِّي غلطت، بس وحياة ربِّنا ماكنت أقصد.
أمسك يديهِ المتشبِّثة بقميصهِ ونظر إليه بكمِّ الألمِ الذي يشعرُ به قائلًا:
-وأنا قولت لحضرتك، إنَّك مش غلطان، الغلط والذنب عندي، دا عقاپ من ربِّنا ولازم استحقُّه يامصطفى باشا.
-أنا مش فاهمة حاجة إيه اللي حصل، ممكن تفهِّموني.
ابتعد إلياس قائلًا:
-مفيش، أنا عايز أبني نفسي على إنِّي إلياس الشافعي، كتَّر خير حضرةِ اللوا، هيفضل متحمِّلنا لحدِّ أمتى.
هل هذا ماأخبر به والدته، هل لا تعلم بما صار إلى الآن؟!.
استدار مصطفى يتطلَّعُ إلى فريدة التي تنظرُ إليهم بجهلِ مايتلفَّظونه وقال:
-اللي حصل لميرال بسببي يافريدة، ولكن قاطعه إلياس
-أنا همشي ياماما من البيت خالص، عايز اعود نفسي على إلياس الشافعي ، لأن دا اصلي
اقتربت فريدة منه، تراقبهُ بعينيها المرتجفتين، تشعرُ وكأنَّ قلبها يلفظُ أنفاسهِ بتخبُّطه الزائدِ بصدرها، أمسكت ذراعهِ تنظرُ إلى حدقتيه:
– يعني إيه!!…يعني إيه ياابني عايز تسيب بيت أبوك؟! وايه إلياس الشافعي دي…!!
إنتَ بتقول إيه؟! إنتَ اټجننت؟!
نظر إليها بعينينِ غائرتين، لا دموع فيهما…من يراها يجد أنَّها لوحةً من الحزنِ والألم..
-خلاص مبقاش ليَّا مكان في البيت دا، ولا ليَّا حق في حضرةِ اللوا، خلاص ياماما، لازم كلِّ واحد يرجع لأصله.
– أنا مش فاهمة حاجة؟! إيه الكلام اللي بتقوله ده؟!
لم يُجِب، فقط انحنى يقبِّلُ جبينها بحنانٍ مُر، حنانًا بشعورِ الفقد من كلِّ مايمتلك.
– ماما…محتاج دعواتك وبس، مش تعارضيني..أنا قرَّرت وخلاص، مبقاش ليَّا مكان هنا، افهمي بقى.
نظرت إليه وكأنَّها لا تصدِّقُ ما تسمعه:
–مصطفى إنتَ سامع ابنك بيقول إيه!! بيقول إلياس الشافعي، لا وعايز يمشي، مش زي كلِّ مرَّة لا عايز يبعد، مش عايز تقول حاجة؟!..
ابتلعَ أنفاسه، وأردفَ بصوتٍ خرج مخنوقًا بالخذلان:
– ماما لو سمحتي، أنا فيَّا اللي مكفِّيني، متضغطيش علشان مش هرجع في كلامي مهما قولتي، وكلامك لحضرة اللواء لا هيأخَّر ولا حيقدِّم..قالها وانحنى ليحملَ حقيبته، لكن أوقفهُ صوتُ مصطفى:
– إلياس..
تجمَّد للحظة..لم يلتفت إليه، وظلَّ كالتمثالِ المتجمِّد، إلى أن استمعَ إلى رجائه:
– ما تسبنيش، علشان خاطري، بالله عليك يابني، انا آسف خد حقك بالطريقة اللي تعجبك، بس متبعدش عن ابوك
أغلقَ عينيه، وكأنَّ شيئًا ما كُسرَ داخله، ثمَّ قال بنبرةٍ ثابتةٍ لا تقبلُ الرجاء:
– خاطرك على راسي ياحضرةِ اللوا، مش موضوع ابعد عنك، هتفضل برضو ابويا اللي رباني، بس أنا، أنا خلاص قرَّرت..
الټفت إلى والدته، وأضافَ بصوتٍ أضعف:
– من وقت ماعرفت حقيقتي، وانا اقتنعت اني مش ابنِ البيت ده، أنا بس كنت ضيف في حضنِ وهم إلياس السيوفي، وجه الوقت لاحتضان إلياس الشافعي..
ارتبكت فريدة، ونظرت لمصطفى:
– مصطفى…هوَّ بيقول إيه؟! يقصد إيه؟!
انخفض رأسُ مصطفى، وارتجفت يدهِ وهو يمسحُ على جبينه، ولم يجرؤ على النظر إليها:
– ميرال…مشيت بسببي.
– قطبت جبينها فلان تشعر أنهم يتحدثون بالألغاز فقالت
-يعني إيه؟! صړخت بها كأنَّها طُعنت، بعدما فشلت في فهم كلماته وهتفت پضياع:
– مش فاهمة..إنتَ بتقول إيه
يامصطفى؟! يعني إيه ميرال مشيت بسببك؟!
هنا تذكَّرت كلماتهِ عندما دخلت عليه:
-لو كنت أعرف إنَّها بنتِ راجح مكنتش هقبل بيها..دارت كلماتهِ تصفعُ عقلها:
-هل مااخترقَ أذنها حديثُ زوجها!!
استدارت إلى إلياس، تصرخُ پانكسار:
– مصطفى قال على ميرال إنَّها بنتِ راجح ولو عرف كان مستحيل يوافق صح؟.ولَّا أنا اللي كنت بحلم؟!!
نظر إليها بعينينِ يغمرهم الۏجع، وقال:
– ماتلوميش حضرة اللواء يامدام فريدة، هوَّ قال الحقيقة، ودا اللي كان لازم أواجه المجتمع بيه، بس أنا للأسف عملت زي النعامة اللي دفنت رأسها في الرمل، كنت بضغط عليها، وأقنعها إنَّها مش بنته، وهيَّ عملت إيه..كانت بتضغط على نفسها علشان متزعلنيش، أنا كنت بحاول أخرَّجها من حقيقة لازم منها، وهيَّ كانت بتحتضر ياماما، ميرال لو ماټت فأنا اللي موَّتها محدش تاني..سمعتيني..أنا السبب، محدش تاني..ضړب على صدرهِ،
أنا اللي ضغطت ودوست وحاولت أخرَّجها من حقيقة مُرَّة لتدخل لحقيقة أصعب وأمَّر، أنا بس ياماما اللي موِّت مراتي..قالها بانهيارٍ حتى فقد اتِّزانهِ ليهوى على المقعد، اقتربت فريدة منه تحتضنُ رأسهِ إلى صدرها:
-حبيبي اهدى، دا عمرها، أنا مش عارفة أعمل إيه، هقولَّك حاجة ومش عارفة هتصدَّقني ولَّا لأ..أنا مش مقتنعة بفكرة مۏتها دي، أنا حاسة ببنتي عايشة، مش عايزة أديلَّك أمل بس مش مقتنعة يابني ڠصب عنِّي..
أزال دموعهِ واعتدلَ واقفًا:
-عارف إنَّها ممكن تكون عايشة، بس مش بإيدي حاجة، مش قدَّامي غير إنِّي أستنى لحدِّ ماتظهر، ماهي لو عايشة بحالتها أكيد هتظهر، أكيد مش هتقدر تبعد كتير..اقترب مصطفى منه:
-إلياس..ولكن قاطعهم دخولُ الخادمة في تلك اللحظة:
– جمعنا هدوم البيه الصغير ياباشا.
أشار إلياس إلى الحقيبة بصوتٍ أجوف:
– نزلِّوا الشنطة دي..استدار يرمقُ مصطفى بنظرةٍ تحملُ خذلانًا غير متوقَّع، وقال:
-عايز ألمِّ حاجتي لو سمحتوا..سحب فريدة وتحرَّك بعدما شقَّ صدرهِ نظرةُ إلياس المتألِّمة..
ظلَّت نظراتهِ على مغادرتهم إلى أن أغلقَ الباب، ثمَّ اتَّجهَ إلى غرفةِ نومهما، كأنَّ خطواتهِ تقودهُ إلى مقبرته.