“نك” بصحبة مجموعة من رجاله الموثوق بهم، ويضمن ولائهم له، يتوقفون بسياراتهم الثلاثة العائدة في الأساس ل”ريكا” أسفل البناية التي تقبع بها تلك الشقة المدارة للعب والمقامرات.
ومن ثَّم ترجلوا جميعهم، يسيرون وأسلحتهم منكسة أرضاً بإيديهم خلف “نك” في مشهد مهيب يُعْمِل الرعب في النفوس.
وما إن ولجوا مدخل البناية، حتى إصفرت وجوه حراسها. حيث يحوز مسئولهم مسدساً فارغ الطلقات، أما البقية فهم عُزَّل، وإذا كان المسدس عامراً ماذا سيفعل مسدس “الدرينجر” اليدوي قديم الطراز أمام مخزن الذخيرة المقبل عليهم.
بدأ طاقم الحراسة بابتلاع لعابهم بجزع .
توقف “نك” أمامهم، ورجاله متراجعون بخطوة؛ حتى يتمكنوا من إدارة الموقف.
تملكت أحد الحراس حالة من الغباء، حيث أطرق رأسه ونظره مصوب أسفل المكتب الرخامي المتواري خلفه منتصف جسده، وامتدت يديه محاولا الضغط على زر الإنذار المتصل بمكتب تلقي البلاغات بالمربع السكني التابع له البناية.
وما إن ابتعد ذراعه ببطئ عن موضع ثباته، حتى باغته أحد رجال “نك” بطلقتين من مسدس كاتم للصوت، إحداهما استهدفت ذراعه، وقبل أن تنفرج شفتاه بآهة ألم، استقرت الطلقة الثانية في جبهته بين حاجبيه، فهوى جسده أرضاً، يلقى حتفه على الفور.
و”نك” يراقب بتلذذ ما يدور ونظرات الرعب والرجاء تبدو واضحة بأعين البقية، الذين التف رأس” نك” إليهم يناظرهم بحاجب مرفوع في سخرية، رفع لها الجميع أيديهم كعلامة استسلام.
قرص “نك” مقدمة أنفه ومع ارتفاع يده هوت قلوب المتابعين، وعندما استقرت على مقدمة أنفه زفروا أنفاسهم براحة، ولازالت أيديهم مرفوعة باستسلام مخزي، ولكن ليس في استطاعتهم شيء يفعلوه، فمن حاول منهم غادر الحياة بلا رجعة.
فيبدو أن هذا المتجبر الدموي سيمر وينفذ ما جاء من أجله، حتى لو أبادهم جميعاً، داهساً بحذاءه الفاخر جثثهم الغارقة بالدماء.
هبط كف “نك” يحكه بالآخر قائلا بتسلية:
-يبدو أننا سنتفق؟!
أومأ الجميع رؤوسهم بالموافقة على الفور، ولم يجرؤ أحدهم على التفوه بكلمة.
“نك” مشيراً لأحد رجاله ناحية الخارج لأعلى، فتوجه المشار إليه بنظره صوب الجهة المشار إليها، حيث يقف رجل لا تتضح ملامح وجهه؛ لبعد المسافة، ولكن رأسه منكس أسفل يتابع شيئاً يمسكه بيده.
أخرج “نك” جهاز إرسال من جيب سترته، يناوله إياه قائلاً :
-ابقَ أنت هنا، ومن يقاوم قم بتصفيته، وارسل أمر للواقف بالأعلى أن يعيد تشغيل الكاميرات الخارجية؛ كي لا يشك أحد بالأمر حتى ننتهي من عملنا هنا، وأخبره أن ينتظر إشارة أخرى لإعادة تعطيلها؛ لنغادر، ولا تنسى أن تذكره باستمراية تعطيل الكاميرات الداخلية للمبنى.
الرجل بطاعة:
-أوامرك يا زعيم.
تهللت أسارير “نك” بعد هذا اللقب الذي حلم به لسنوات، وحال دون الوصول إليه “ريكا”، غير مكترث لأفضال “ريكا” عليه.
فقد بدأ “ريكا” نشاطه مؤسساً إمبراطوريته في سن صغير، منذ أن بدأت علامات البلوغ تخط ملامحه، أي في عمر السابعة عشر، وقتها تعرف على “نك”، ذاك الطفل الصغير البالغ من العمر إثنا عشر عاماً، متكوماً في مرأب سيارات تابعاً لعائلة “ريكا”.
ضمه “ريكا” إلى رجاله، ووفر له المأوى والحياة الكريمة، فحين كان “نك” يقاسم كلاب الشوارع قوتهم بثيابه البالية.
عامله “ريكا” كأخٍ أصغر، قربه إليه، واطلعه على أسراره، وجعله ذراعه الأيمن، وميزه عن سائر رجاله.
وفي المقابل بقى “نك” يتحين الفرصة؛ ليحظَ بكل شيء بضربةٍ واحدة، وها قد حالفه الحظ، بقت خطوة واحدة حتى تغفو عينيه هنيئة بما طمع به، ويصبح هو خليفة “ريكا”، حاملاً لقب الزعيم “نك”.
وجه “نك” حديثه لأفراد أمن البناية، قائلاً وكأنه يخاطب مجموعة من الأطفال الصغار:
-حسناً يا شباب، لا أريد مشاغبات؛ حتى لا يتأذى أحد آخر.
أجابه أفراد الأمن في صوتٍ واحد كالكورال:
-أوامرك يا زعيم.
إنتشاءة أخرى حظى بها تزامناً مع فرقعة أصابعه أمام وجه أحدهم، وإشارة وجَّهها بسبابته نحو المصعد، فتوجه فرد الأمن هذا نحو المصعد، يضغط على زر الاستدعاء.
وما إن استقر بالطابق الأرضي الماكثون به، حتى مد الرجل يده يفتح الباب برضوخ؛ ليلج “نك” ومن معه، تاركين من بيده جهاز الإرسال يقوم ببث أمرٍ مباشرٍ لمن بالأعلى في الجهة الأخرى بالتعليمات التي تلقاها من زعيمه.
وبيده الثانية رشاش تشيلي من النوع “SAF” آليّ العمل، يتميز بسهولة استخدامه، وسرعته في إطلاق النيران، أمَّا مداه يصل إلى 100 متر.
أشار “نك” بعينيه إلى فرد الأمن ناحية لوحة التحكم الخاصة بالمصعد، قائلاً بإيجاز:
-الثالث.
وعلى الفور ضغط الحارس الزر المنشود، خارجاً من المصعد، يتنفس الصعداء.
استقر المصعد بالطابق الثالث، وخرج جميعهم، يتقدمهم “نك” بخيلاء بعد أن قام أحدهم بفتح الباب؛ ليمر الزعيم أولاً، ومن ثَّم تَبِعوه.
توقف “نك” أمام أحد أبواب الوحدات السكنية بالطابق، يبدو أنه يعلم وجهته جيداً، ودون كلمة أخرج مُطْلِق النار بالأسفل المسدس كاتم الصوت خاصته، يشهره ناحية قفل الباب، يصوب إليه ثلاث طلقات متتالية، أدت إلي تفجير القفل.
فحين تراجع “نك” والبقية خطوتين إلى الخلف بعيداً عن مرمى ارتداد فارغ الطلقات.
تقدم “نك” إلى الداخل، ورجاله يحاوطونه بتأمين، الأمر الذي أثار بلبةٍ بالداخل، وبدأ بعض من المتواجدين المغادرة.
الأمر الذي تعجب له “أريان”، واستقام ليفعل المثل، ولكن زعيم تلك الجماعة والمقصود هنا “نك”، أشهر بوجهه مسدسه؛ مما جعله يحط بجسده مرةً أخرى على الكرسي موضع مجلسه، وهو على يقين تام بأنه المستهدف من تلك المداهمة.
ولكن لِمَا؟! فهو لا يعرف هذا الشخص أو أحد من تابعيه، وليس له عداوة مع أحد.
انفض الجمع من حولهم، وبقى “نك” ورجاله، و”مارك” صديق “أريان”، ف “مارك” هذا صاحب الشقة التي تقام به حفلات المقامرة.
بدى من تعبيرات وجه “مارك” أنه لم يتفاجئ بهم، إذاً فهو على علم مسبق بما يدور الآن بل ومشترك به أيضاً.
حسناً خيانة أخرى من صديقٍ غادر.
أخرج أحد المحتشدين حول قائد فريق المداهمة، هاتفه يلتقط عدة صور ل “أريان” وأمامه أوراق اللعب على الطاولة الجالس عليها، وكذلك صكوك المراهنات، وبعض كؤوس الخمر.
وما إن انتبه “أريان” لعدسة الهاتف التي أطلقت فلاشها بوجهه، حتى رفع كفه يحجب وجهه عن العدسة، ولكن بعد فوات الأوان، فلقد سجلت الكاميرا لقطات عدة له بملامح ظاهرة، مسجلة الوضع المخزي الذي عليه الآن.
فلو التقطت تلك الصور له مع امرأة بالفراش سيكون هذا أهون بكثير.
فضيحة كبرى ووصمة عار ستلاحقه إن انتشرت هذه الصور، ووصل الأمر إلى قياداته.
جلس “نك” بالمقعد المقابل له على الطاولة، يمرر ل “أريان” المسدس الذي بحوزته، دافعاً إياه بخفة ناحيته على الطاولة.
لكن “أريان” لم يحرك ساكناً، ولم يفكر أن يمد يده؛ لالتقاطه فما نفعه، كما أن بحوزته سلاحه الميري، ولكنه ليس أبلهاً؛ ليفكر بأن يشهر السلاح ناحيته؛ وهو فرد وسط جماعة.
فخروج طلقة من سلاحه موجهة إلى الجالس قبالته، سواء أصابت الهدف أو لم تصبه، تعني غربلة جسده بواحد من تلك الرشاشات القابض عليها أتباعه.
كما جلوسه وتمريره المسدس إليه، تعني أنه جاء للتفاوض بأمر ما، فلو قدم لاغتياله ما كان؛ ليلتقط تلك الصور ويجلس أمامه متأهباً لبدء حديث، فبإمكانه إطلاق النار والمغادرة على الفور هذا إذا كان الغرض من العرض الإجراميّ ذاك القتل.
مد “نك” يده إلى “مارك”، فأخرج الأخير مجموعة أوراق مطوية، ناولها إياه.
وقام “نك” بدوره تمريرها إلى “أريان”، وبإشارة من يده وضع من بيده الهاتف الذي حفظت عليه تلك الصور، ذلك الهاتف أيضاً أمام “أريان” على الطاولة.
مد “نك” يده إلى جيب سترته الداخلي، يخرج هو أيضاً ورقة مطوية، وضعها هي الأخرى صوب عيني “أريان” على الطاولة.
تم كل هذا سريعاً، ولازال “أريان” يحاول استيعاب ما يدور، فنطق مستفسراً:
-من أنت؟! وماذا تريد؟!
“نك” وهو يشير إلى الطاولة ناحية تلك الأوراق، قائلاً بعملية:
-ألقِ نظرة على تلك الأوراق، وبعدها نتحدث.
التقط “أريان” الأوراق يتفحصها، وتبين له أنها إيصالات الأمانة التي حررها على نفسه لصالح “مارك” كضمان لدين قماره، وعددها ست إيصالات بقيمة مليوني دولار، والورقة الأخرى سند بنكي قابل الصرف لحامله بقيمة خمس ملايين دولار صافية من أية ضريبة.
عرض مغري، ولكن تُرى ما المقابل؟!
هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهن “أريان”.
تراجع “نك” يستند إلى ظهر الكرسي خلفه، قائلاً:
-“ريكا”، الزعيم “ريكا”.
“أريان” متسائلاً:
-ما به؟! أنا لن أشترك في تهريبه.
“نك” بإبتسامة خبيثة:
-متسرع أنت “أريان”! من جاء على ذكر تهريبه؟! أنا لا أفكر بشيء من هذا القبيل، كما أنني أعلم أنك لن توافق.
“أريان” بسخرية:
-إذاً ما المقابل؟! أتريدني أن أهتم به في السجن، وأقص له حكايات ما قبل النوم.
أشار “أريان” بيده كعلامة رفض، وهو يقهقه عالياً، وما إن هدأت نوبة ضحكه، حتى قال:
-يالا خفة دمك “أريان”!! الأمر أبسط من ذلك بكثير.
“أريان” بضجر:
-خلصني، ماذا تريد؟!
“نك”، وهو يميل بجذعه ناحية الطاولة حتى بات على قرب، وكأنه يتأهب؛ ليفصح عن سر حربي، قائلاً ببساطة، وهو يهز أحد كتفيه:
-سنقتله.
ضرب “أريان” الطاولة أمامه بكفيه، وهو يهب واقفاً دليلاً على رفضه، فصُوِّبت كل تلك الرشاشات بحوزة الآخرين نحوه، وأشعتها الليزرية الحمراء تتقاطع بعضاً منها في نقطة واحدة بمنتصف جبهته، والأخرى ملتقية في نقطة تجميعية على صدره من الجهة اليسرى بحرفية عالية وبشكل جماعي منظم تستهدف بالطبع قلبه مباشرةً.
نظرات خوف مشتتة وزعها “أريان” بين “نك” وهذه الأسلحة المصوبة نحوه، و”مارك” الصديق الخائن مجسداً تلك المقولة الشهيرة.
-“احظر عدوك مرة، وصديقك ألف مرة”
Back
سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ