سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة الفصل 15 حصري على موقع دريمسيز

Prewedding

*عند “أريان”

عندما وقعت عيناه على خانة مدة العقوبة، وسبب الاعتقال، جحظت عيناه بصدمة وكاد ينكفء على وجهه، وأنتابته حالة من الغثيان.

عبث!! ما دُون بتلك الأوراق أقل ما يقال عنه عبث!!

لابد وأنه يحلم!! عن أي حلم يتحدث؟! إنه كابوس!!
بل أبشع كابوس قد يراه يوماً.

لحظات من الثبات حتى استوعب عقله ما يرى، ومن ثم أطلق العنان لساقيه يقطع الأرض أسفله كعاصفةٍ هوجاء تطيح بما يقابلها، والحارس خلفه لا يستطع مواكبة خطواته الأشبه بالركض،
ضغط زر المصعد، ولكنه أضاء دون استجابة يبدو أنه عالق.

حظى باب المصعد بضربة أشبه بالمطرقة، وهو يزفر أنفاسه بنفاذ صبر، ثانية من الانتظار، حسناً ثانيتين مرا عليه كعامين وأيضاً المصعد عالق، رفع رأسه لأعلى متخصراً بكلا ذراعيه، يتأفف بضجر، رمق الدرج بلهفة ظمآن جاب الصحراء في ساعة كيظ سيراً وراء السراب، وها قد عثر على المسقى.

انطلق كرمحٍ فلت من قوسه، يقطع الدرج قفزاً كل درجتين بخطوة، ولياقته البدنية ورشاقته تعاونه على ذلك، والحارس أسفل الدرج يتابعه بصدمة، متسائلاً ماذا أصاب القائد؟! أين الرزانة والكبر؟!

توقفت قدميه عند نهاية الدرج، بقى بضعة خطوات تقربه إليها، ولكنه لا يعلم لِمَ تجمدت أطرافه، لا هو قادر على القرب، ولا يملك رفاهية البعد.

انتبه لحديث أحدهم، وكان الضابط المعني بحراسة الوارد الجديد، وهو ينتزعه من دائرة المتاهة تلك، قائلاً:

-سيدي القائد، لقد فرغ العساكر من إنزال المؤن والسلاح، وبقى أن تستلم سيادتكم عدد الوارد، والتوقيع على أذونات الاستلام حتى نتمكن من المغادرة، عدد اليوم سجينة واحدة مرحلة.

لم يبد “أريان” أي استجابة، سوى بضعة كلمات مقتضبة، قالها بإيجاز:

-أين مفتاح الزنزانة الخاصة بالطائرة؟

أخرج الظابط المفتاح الخاص بالزنزانة من جيب سترة زيه العسكري، يناوله إياه.

اختطف “أريان” المفتاح من يده، وهو يزيحه جانباً، يتقدم من باب الطائرة، ودقات قلبه تضعف وتيرتها وكأنه مقدم على صراع حتى الموت.

وترك خلفه الضابط يقف مندهشاً، ولم يجب على قوله:

-سيدي، سيدي القائد، الأوراق سيد…

لم يكمل الضابط مقولته؛ إذ اندفع المتحدث إليه دون أن يعر حديثه انتباهاً.

اعتلى درجات سلم الطائرة، والرهبة تعتصر نابضه، اخفض رأسه؛ ليدخل، مغلقاً الباب خلفه، وعيناه زائغتان تستكشف داخل الطائرة، حتى وقع بصره على بابٍ موصود ذو طاقةٍ دائرية مغطاة بحاجزٍ متحرك.

تقدم يزيح ذلك الحاجز الذي يحجبها عنه، وهو ينظر من خلال الفتحة.

وجدها جالسة على أحد المقاعد بالزاوية مكبلة اليدين والقدمين، ترتدي ملابس السجن، مطرقة الرأس، تميل بجسدها إلى الأمام، مرتكزة بمرفقيها على فخذيها، تغطي وجهها براحتيها، وشعرها الأشقر الحريري بخصلاته الذهبية منسدل على الجانبين.

لم تنتبه على مراقبها، فدوامة أحزانها تسحبها إلى الأعماق، عقلها شارد، تتمنى أن تعود بالعمر حيث كان أكبر همها الخوف من معلمة الصف؛ لكونها لم تنهِ واجب الرياضيات الذي كان بالنسبة إليها طلاسم وأحجيات.

لاح في مخيلتها طيفه، منقذها وملاكها الحارس الذي كان يبيت ليله يدرسها تلك المادة بطريقة مبسطة، وهو يجالسها على درج بنايتها في أشد الليالي برداً، يغدق عليهما الشال الصوفي العائد لوالدته، تاركًا واجباته حتى تتمكن هي من الفهم والإستيعاب.

لا يشغله إذا كان سيتمكن هو الآخر من الإنتهاء مما لديه؛ حتى وإن تعرض هو للعقاب من معلميه أو من والديه، كم من مرةً أخطأت وتحمل عنها المسئولية!!

تنهيدة أسى، تبعها صوتها يناجيه؛ كي ينجدها ويأخذ بيدها من تلك المحنة كما عوَّدها، وتساءلت هل مازال يتذكرها من الأساس؟!

أدار مفتاح باب الزنزانة، مزيحاً ذلك العائق بينهما، يتقدم إلى الداخل.

استمعت إلى صوت الباب يفتح، ووقع أقدام يقترب، رفعت رأسها؛ لترَ مقتحم خلوتها، وهي تتفحصه بداية من أغمص قدميه مروراً بزيه الرسمي، وتلك الشارات والنياشين المعلقة على صدره، حتى…..

توقفت عينيها على صفحة وجهه، وهي تبتسم بسخرية، تستند برأسها إلى الحائط خلفها، تغمض عينيها بألم، وتلك الدموع الخائنة فرت هاربة تسيل على وجنتيها بصمت.

القلب الذي انخفضت وتيرة دقاته، عاد ينبض بقوة وكأنه صعق بجهاز الصدمات الكهربائية.

وبقدمين عَمِل على ثبات خطواتها؛ كي لا يهفُ قلبه إليها، فيخونه العقل ويندفع الجسد ملبياً رغبة ذلك اللعين قلبه، ويضمها إليه.

حسناً لقد ألجم ساقيه، ولكن لم يقدر السيطرة على متمرد آخر لسانه الذي نطق حروف اسمها:

-“سوزان”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top