في الشركة الأم حيث الصديقان “سام” و”چاسم”.
كان يومهما حافلًا بالأعمال، فقد حضر إليهما مندوبي أكبر شركتي التوريد والشحن بأمريكا، بناء على تلك الأوامر التي والاها تِباعًا لموظفة العلاقات العامة صباحًا.
ف”سام” يستعد لنقل أكبر شحنة للمواد الغذائية من مصر، تحتاجها شركاته التي تعمل بمجال حفظ وتعبئة المواد الغذائية، وتحتوي تلك الشحنة على الخضروات والفاكهة والأسماك.
لذا يتوجب عليه نقلها بأسرع وقت ممكن، خاصةً بعد البريد الإلكتروني الذي جاء على موقع الشركة، وعرضته عليه تلك الموظفة صباحاً ضمن ملف الأعمال اليومي، وكان هذا البريد يتضمن قرار هيئة سلامة الغذاء المختصة بفحص الجودة، وأكدت أن الشحنة مطابقة للمواصفات.
وذلك يعني أن تصريح إعتماد الشحن ستصدره هيئة الرقابة الجمركية في غضون يومين، فمكوث الشحنة بعد ذلك بالميناء تعني كارثةً حتمية.
من جهة البضاعة المستوردة سريعة التلف، ومن جهةٍ أخرى إبقائها بالمستودعات الجمركية تعني تحمل الشركة تكلفة إيجار تلك الحاويات.
“چاسم” وهو يرفع معصمه يرمق ساعة يده:
-ظننت أن اليوم لن يمر، فلم يبقى سوى ساعة واحدة على موعد تسجيل بصمة الانصراف.
“سام” بإقرار:
-هذا بالنسبة للموظفين، أما أنت فلا.
“چاسم” بثورةٍ مفتعلة:
-ماذا تعني؟! ألست موظفًا ضمن موظفيك سيد “سام”؟!
“سام”:
-لا “چاسم” ، أنا لا أعتبرك موظفًا لديَّ،
“چاسم” أنت أخي.
“چاسم” بإمتعاض:
-تَبَرَّأ مني يا رجل.
“سام” مستكملًا:
-وشريكي.
“چاسم”:
-نَفُض تلك الشَّراكة.
“سام” بمشاكسةٍ:
-وماذا عن صداقتنا؟!
“چاسم” وهو يشيح بيده:
-تبًا لهكذا رفقة.
ثم انفجر كلاهما ضاحكًا، كلًا منهما لا يمكنه الإستغناء عن الآخر، فكما قال سام ما بينهما لا يندرج تحت مسمى واحد لنوعٍ من أنواع العلاقات الإنسانية:
فهما أَخوان لم ينجبهما رحمٌ واحد لكنهما متشابهان، وشريكان لا يغريهما الربح فيتقاتلان، وصديقان لن تأخذهما دوامة الحياة فيتفرقان.
وفي تلك الأثناء دق هاتف “چاسم”، فأخرجه من جيب سترته، ينظر إلى الشاشة، ضاغطًا على الفور زر الإجابة، وقد تبدلت ملامحه من العبث إلى الهيام، قائلًا:
-يا لا حظك “چاسم”، القمر حقي تنازل، وقرر مهاتفتي؟!
و”سام” يرفع ذراعيه مقلدًا وضعية عازف الكمان،بالطبع تلك المكالمة من زوجة رفيقه، فالتقط الآخر ثقالة الأوراق يمسكها بكفه يستعد؛ لقذفه بها.
و”سام” يزجره بعينيه، قائلًا:
-إياك وأن تفعل.
“چاسم” منتبهًا لحديث زوجته الحبيبة “چيسيكا”:
-أحبك “چاسم”، أرجوك لا تتوقف عن تدليلي، أحب مغازلتك وكلامك المعسول، اتصلت خصيصاً؛ لسماع صوتك.
مستكملةً بلكنةٍ عربية ركيكة، جاهد “چاسم” حتى يعلمها بعضاً من مفرداتها، بناءً على طلبها، كنوعٍ من مشاركتها إهتماماته:
-يا أبو العيون العسلية.
“چاسم” وقد أذابه دلالها الفطري، قائلًا:
-يا لا عذابك “چاسم”، هل اتفقتما عليّ؟! هذا المتجبر يحتجزني هنا، وأنت تزيدينها بدلالكِ، ارحما “چاسم” فأنا بشرٌ من لحمٍ ودمٍ.
“چيسيكا” بمحبةٍ أخوية:
-“سام” إلى جوارك، حبيبي؟!
“چاسم” مهندمًا ياقة قميصه بتفاخرٍ:
-نعم “چيسي” ، فهو لا يستطيع الإستغناء عني.
“چيسيكا” :
-ولا أنا، حبيبي، أعط الهاتف ل”سام”؛ ولدك يريد محادثته.
“چاسم”:
-الوغد، يريد محادثة العم “سام”، ولم يطلب مهاتفتي؟!
“چيسيكا”:
-ما دخلي بينكما؟! اصطفيا سويًّا.
خطف الصغير “سام” الهاتف من يد والدته، يحادث أبيه بلباقةٍ تفوق سنوات عمره الستة، قائلًا بنبرةٍ ساخرة:
-ما بك “چيه”؟! ماذا فيها إذا أردت محادثة العم”سام”؟! أعطه الهاتف على الفور، وكفاك ملاطفةً ل”چيسيكاك”، ألا تمل يا رجل؟!
جحظت أعين “چاسم” أو “چيه” كما يلقبه صغيره.
بينما “چيسيكا” ارتفع صوت ضحكاتها؛ بسبب مواقف وطرائف طفليها، فعندما يُحتكم أحد بينهما سيجد “چاسم” أكثرهما عنادًا بروحٍ طفولية مرحة، فما أروعها حياة تعيشها مع رجل شرقي ذو نخوةٍ وشهامة، غيورًا، مُحب!
ونفس ذاك الشخص بداخله طفلٌ صغير، يعاني حرمانًا، ترضيه كلمة وتغضبه أخرى، أحياناً يتقاتلان هو وصغيره، أيهما سيبيت إلى جوارها الليلة، وعندما يراها تبدي اهتمامًا بالصغير يفتعل ضجةً بلا سبب، رغبةً في لفت انتباهها.
مد “چاسم” يده بالهاتف إلى “سام” الذي لاحظ تزمره وتلك النظرة الساخطة التي تزين ملامح وجهه، فعلم أنه نال واصلة استهجان من الصغير “سام”، ملتقطًا الهاتف غامزا له، وهو يقول:
-تضع نفسك بمواقفٍ محرجة، اكبر “چيه”، إنه ولدك، وليس زوج أمك.
تأفف “چاسم” بضجرٍ، قائلًا:
-أنت و” چيسيكا” تنصرانه عليَّ دائماً.
هز “سام” رأسه بيأسٍ من صديقه الذي عانى فقدان الأم، وهي على قيد الحياة، فما يفعله الكبار يتحمل عواقبه الصغار.
“سام چاكوب” يحادث الصغير على الهاتف:
-أهلاً بالمشاغب الصغير، كيف حالك يا صديقي؟
“سام” الصغير يجيب بحماسةٍ:
-أهلاً بك”سام”، أفتقدك عمي، لما لم تعد تأتي إلى منزلنا؟! أتخاف أن أغلبك في “البلاي ستيشن” ككل مرةٍ؟!
“سام” بضحكةٍ رنانة:
-بالطبع صغيري، فأنت لاعبٌ محترف.
الصغير “سام”:
-لكن غدًا لا أعذار، إنه عيد مولدي، يا صاح، وأريد أن تكون أول الحاضرين.
“سام چاكوب” :
-حسناً يا صغيري، ماذا تريد كهديةٍ في هذا العام؟!
الصغير “سام”:
-أنت هديتي”سام”، فقط لا تتأخر.
“سام چاكوب” :
-لن أتأخر، أعدك يا صاح، إلى اللقاء غدًا يا بني.
ضغط “سام” زر الإغلاق، وناول الهاتف لذلك الممتعض “چاسم”، وعادا يتناقشان بخصوص العمل.
عودة إلى الحانة.
بعد سقوط “نك” بفعل المنوم الذي وضعته “ساندي” بكأسه، اقتربت منه تفك أزرار قميصه، تخلعه عنه بتوترٍ، كم هو مرهق هذا ال”نك” بضخامة عضلات ذراعيه القويتين وجسده الرياضي هذا!
كم بدى وسيمًا بحدٍ زائد عن قرب، هادئ في غفوته تلك.
ولكن لفت انتباهها آثار جروح متفرقة على طول ذراعيه، وعندما أدارته بصعوبة؛ لتخليص الذراع الآخر من القميص.
وجدت آثار جَلْدٍ واضحة على بشرة ظهره، فناظرته باشمئزازٍ، ربما هو من هؤلاء الساديون المحبون للعنف أثناء ممارستهم.
هي تلجأ إلى تلك الحيلة كلما أجبرها عديم الرجولة “ستيڤ” على المغادرة مع أحد رواد الحانة، فهو يمارس سلطته؛ لإجبار العاملات على إغراء هؤلاء الثمالى؛ ليتربح من وراءهن، ودون علم الزعيم “ريكا”.
وعند خروجها مع أحدهم تتحين أي فرصة؛ لتجعله يتناول تلك الحبوب بأية طريقةٍ؛ فهي بحاجةٍ ماسة للمال، وراتبها من الحانة لا يكفي لعلاج أخيها الصغير، الذي أصيب بسرطان الدم، ويحتاج إلى نقل دم مرتين على الأقل خلال شهرٍ واحد، إلى جانب تكاليف المشفى الباهظة، وكذا مصاريف العلاج والأدوية.
خرجت مسرعةً من مكتبه، وكأنما تلاحقها الأشباح، فيجب عليها مغادرة المكان، لا بل المدينة بأكملها، على أية حالٍ لا يوجد ما يربطها هنا، فهي فتاة يونانية الأصل، ولدت بإحدى المناطق الريفية هناك، حيث تقارب عادتهم عادات الشرقيين.
الفتاة لديهم يجب أن تحفظ نفسها، فلا علاقات للفتاة لديهم قبل الزواج، وهي تتمسك بتلك التقاليد التي نشأت عليها وزرعها بداخلها أبويها اللذان لقيا مصرعهما إثر حادث انقلاب إحدى سيارات النقل الجماعي، تاركين على عاتقها مسئوليةً كبيرة، وهي لازالت بالحادية والعشرين من عمرها.
في أثناء خروجها من المكتب، اصطدمت بأحدهم.
رفعت رأسها؛ لترَ العائق الذي ظهر أمامها من العدم، وجدته هذا البغيض “ستيڤ”، فابتسمت بارتباك تمسد كف يدها الذي سحقه ذاك المسطح أرضًا بالداخل.
سألها “ستيڤ” باهتمامٍ بالغ، ونبرة محذرة:
-ما بكِ “ساندي”؟! إياكِ أن تكوني أغضبتي السيد “نك”؟
خلعت عنها رداء التوتر وتلبست عباءة المجون، وهي تقترب منه تضع يدها على كتفه بخلاعة، على كل حال لا خوفًا منه؛ فليس لديه شغفٌ بالنساء، ولكن له ميولًا انحرافية أخرى.
“ساندي” مدعية الخبرة، تلك العذراء اللعوب، وهي تشير بسبابتها إلى حالها بتمجيد:
-إياك أنت وأن تشكك بقدرات “ساندي”، سيدك ممدد بالداخل، لا يقوَ على الحراك، فقد فتنته حتى أنه سمح لي بالذهاب باكرًا؛ كي استريح بعد جموحه معي، أأخبرك شيئاً “ستيڤ”؟
أماء لها ستيڤ وهو يزدرد لعابه بإثارة.
فاستكملت “ساندي”، وهي تداعب خده بأناملها، وداخلها يتقزز، تريد التقيؤ:
-سيدك هذا من نوعك المفضل، يعشق السادية.
رمت للكلب عظمة ألهته بها، وغادرت على الفور، فيجب عليها الذهاب؛ لتأخذ أغراضها القليلة من تلك الغرفة البالية التي تمكث بها في أحد الفنادق متدنية المستوى والتي تلاءم إمكانياتها.
ولكن يجب عليها أن تذهب إلى المشفى أولًا حيث يرقد أخاها؛ لتدفع ما ادخرته من مال، وما أخذته من هذا الحقير قبل ولوجها إلى مكتب هذا “السادي الوسيم”.
على كل حال هو لن يراها مجدداً، ستنتقل باحثةً عن عملٍ آخر.
بعد خروجها بساعةٍ انتفض ذلك الملقى أرضًا عندما راوده أحد كوابيس ماضيه الأليم، وهو يُكوى بسكينٍ ساخن كالجمر، بعد أن زلف لسانه أمام أحد المسئولين أثناء زيارته للدار، برغبته هو وزملائه ممن يعانون الجوع والعوز في استبدال تلك المشرفة.
وبرغم عدم اهتمام هذا المسئول برغبة هؤلاء الصغار، فزيارته هذه ليست سوى أمر شكلي؛ كي يظهر هو في أحد المجلات.
بعدما التُقِطَت له عدة صور فوتوغرافية مع أطفال الدار بكاميرا أحد المصورين، استعداداً للحفل الخيري الذي يقام سنوياً، بغرض جمع التبرعات على شرف هذا الدار، وليت يلحقهم من هذا المال شيئاً ولو صغير.
إلا أن تلك المنزوعة الرحمة، عديمة الشفقة لم تمرق شكوى الصغار، ولكنها جمعت الشاكين وقامت بصب جم غضبها عليهم، ليبقى آثار التعذيب علاماتٌ نُقِشت إلى الأبد على أجسادهم الضعيفة الهزيلة.
ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة، وعندما نفذت طاقة إحتماله، فر هاربًا من هذا الجحيم.
أخذ يضغط جفنيه بقوة، رامشًا بأهدابه، تضح أمامه الرؤية شيئاً فشيء، وهو يرفع كفه، يمسد جبهته، إثر الألم الحاد برأسه، وهو يحاول الاستقامة، مستندًا إلى المكتب خلفه بوهن.
تجسدت تلك الأحداث السابقة أمامه يتذكر ما حدث قبل تلك الغفوة، يتعجب من حالته وهو عاري الصدر، وقد عبث أحدهم بسحاب منطاله، ولكن ما يوقنه أنه لم يمسسها، وضع يديه بجيبه يخرج هاتفه، فلم يجده، وكذلك حافظة نقوده.
تشنجت معالم وجهه، وهو يسب ويلعن تلك المحتالة، يطيح بما يوجد أمامه على المكتب، يزأر بغضبٍ، متوعدًا إياها:
-أتسرقين “نك” الذي جابها من شرقها إلى غربها، أي ريحٍ خبيثة ألقت بك في جحيمي أيتها……..
رواية سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة، ممنوع النسخ