الفصل 110
انكمش وجه **ظافر** بدهشة مباغتة وكأن صاعقة من الحيرة قد ضربت عقله وهو يردد في نفسه:
*ألم تقل ذات مساء إنها تهيم عشقًا بالمجوهرات؟*
ثم انسلّ صوته مترددًا من بين شفتيه ببرودة تنذر بانهيار وشيك:
“هل أنتِ واثقة مما تقولين؟”
تلك النبرة التي خرجت منه كأنما صدى شرخ تصدع داخله، وعلى النقيض فقد أدركت **سيرين** الحقيقة التي كانت تتوجسها… لقد نسي! نسي كلماته، نسي لحظاته، نسيها…
فأطلقت عبارتها كخنجر من لهب غاص في صدره بلا رحمة:
“سأتقبل الهدايا من أيّ شخص… إلا أنت… لا أريد منك شيئًا.”
ثم استدارت بكامل جسدها تبتعد متجاوزةً إياه كمن يفرّ من ماضٍ مسموم وصعدت الدرج بثبات زائف… لم تلتفت وراءها… ولم تمنح له فرصة الرد… فنظراتها اللا مبالية كانت تُطفئ كل بارقة أمل.
حدّق **ظافر** في أثر جسدها الذي تلاشى عند أعلى الدرج بعينين موحشتين ثم التفت فجأة كأنما استفاق من غفوة سامة وألقى بعلبة المجوهرات في سلة المهملات بحركة يائسة بدت كمقامرة خاسرة.
أحسَّ بجوفه يتلوى لم يكن السبب الجوع وحده ولا نزلة البرد التي أرهقته بل كان هناك وجع خفي أشبه بنيران تشتعل في أحشائه… شيء غريب يسري في دمه يعكر صفو عقله.
ما بي اليوم؟
سؤال تردد بداخله كصدى في كهف مغلق.
زفر باختناق وهو يستعيد ذلك الموقف عندما رأى السوار الفاخر الذي أرسله أحد زبائنه كعربون امتنان فاندفعت ذاكرته فجأة كفيضان:
مشهد **سيرين** وهي تتجول في المنزل ذلك اليوم… تتظاهر بأنها فقدت ذاكرتها وفي لحظة صفاء مشوشة قالت:
“أستطيع أن أقولها بوضوح… أحب المكياج، وأعشق الألوان، وأهوى المجوهرات اللامعة!”
كأن كلماتها الآن تلسعه، تسخر منه، تذكره بكمِّ التناقضات التي ابتلعها دون أن يفهمها فشعر بالخزي يتدفق في عروقه.
جلس على الأريكة كأنها مقصلة لا مقعد، وجهه يزداد قتامة وغضبه يتخمر بصمتٍ عاصف.
أما **سيرين**، فلم تعد تلك المرأة التي كانت تمشي على أطراف الكلمات لتتجنبه أو تسترضيه إذ عادت إلى غرفتها كأنما تطوي صفحة مهترئة من كتاب قديم.
خلعت عنها ملابس النهار وتركت روحها تستسلم للماء وللصمت… فقد أوصاها الطبيب بالهدوء والنوم المبكر، وحذرها من السهر الذي قد يعيد لها نوبات الاضطراب السمعي الذي عادت أعراضه بالفعل بالأمس تطرق أذنها كالطبولٍ تنذر بأن الداخل لم يهدأ بعد.
جلس **ظافر** على الأريكة وكأن ثقل العالم قد جثم على كتفيه… مضت نصف ساعة وهو يحدق في الفراغ، يصغي إلى صمتٍ ثقيل يتسرب من الطابق العلوي حيث غرفة **سيرين**… ذلك الصمت رغم هدوئه كان صارخًا يعلن بلا مواربة أنها لم تعد تُكترث… لا به ولا بصراعه الداخلي الذي ينهش روحه.
في الأعلى كانت **سيرين** قد استسلمت ببطء إلى حضن النوم بعد أن تناولت دواءها… والآن الغرفة غارقة في الظلمة إلا من خيط نور باهت يتسلل من خلف الستائر يتمايل مع أنفاسها الهادئة كأن الزمن توقف ليصغي إليها.
ثم… وبلا إنذار انكسر الصمت إذ دارت فتحة المفتاح في القفل بصوت خافت لكنه حاد كمشرطٍ يفتح جرحًا.
دُفع الباب ببطء وظهر في العتبة ظلٌ طويل يزحف داخل الغرفة كطيفٍ خرج لتوه من رحم الكوابيس.
اقترب صاحب الظل… وسحب الغطاء كما يُنتزع الأمان من قلبٍ واهن.
ثم انحنى وضم **سيرين** بين ذرا عيه كمن يخشى أن تضيع منه ثانية… قـ ـبض عليها كما يُمسك الغريق بطوق النجاة بلا هوادة، بلا تردد.
كانت رائحة **سيرين** تنبعث من بشر تها كعطرٍ يعرف طريقه في الظلام… تلك الرائحة التي لطالما ربطت ذاكرة **ظافر** بالسكينة، بالحنين، بالبيت…
وهنا خفّ اضطرابه للحظة وبدت حو اسه وكأنها تستسلم لطمأنينة خادعة.
تحركت **سيرين** فجأة وقد باغتها هذا الاحتضا ن الغريب، فتحت عينيها بتثاقل، ثم حاولت دفع الجـ ـسد القا بض عليها، ولكن… الغرفة كانت معتمة والمجهول يحتـ. ضنها.
**”ابتعد عني!”** همست بصوت مرتجف لم تعرف إن كان الخوف هو مصدره أم خيانة الأمان.
لكنه لم يجب، بل شدّ ذر اعيه حولها أكثر وخرج صوته من صدره وكأنه قادم من كهفٍ غائر، أجشّ، مبحوح، متهدّ ج بأنفا س متقطعة:
“لا… لا تتحركي. دعيني… فقط دعيني أحتـ ـضنك.”
كانت نبرته كأنها صدى لرجل فقد السيطرة على كل شيء، حتى على نفسه.
لكن **سيرين** وقد شعرت بحرارة جسـ ـده التي تحر ق جلدها فأدركت أنه مريض… وأن هذا الاحتضا ن ليس مجرد عا طفة، بل هروب من انهيارٍ داخلي.
“ابتعد، ظافر… أنت تحترق!” قالتها محذّرة فصوتها ارتجف كما يرتجف لهب شمعة أمام ريح عاصفة.
لم يجبها.
بل مدّ يده إلى معصميها، ورفعهما عاليًا فو ق رأ سها، بقبـ ـضة مرتجفة ولكنها مشبعة بالإصرار… ثم همس كمن يطلق اعترافًا مذنبًا في آخر لحظة:
**”قلت لكِ… لا.”**
وبينما كانت **سيرين** تحاول دفعه بعيدًا ارتطمت يدها بشيء ما فارتدت غريزيًا إلى الوراء وكأن لمسها له قد أيقظ فيها خوفًا كانت تحاول دفنه.
أطلق **ظافر** تنهيدة امتزجت فيها نفحة تعب بوميض غضبٍ مكتوم، وقال بصوتٍ خفيض، أجشّ، تصطك فيه الأحبال الصوتية بتوترٍ خفي:
“قلتُ لكِ… لا تتحركي.”
تحر كت تفا حة آدم خاصته كأنها تُقاوم اختناقًا داخليًا وكأن جـ ـسده يرفض ما ينطق به قلبه.
كانت **سيرين** تستمع إلى دقّات قلبه المتسا رعة كطبولٍ تدقّ في صد ره تقرع أذنيها وتربك اتزانها… فاهتز ثباتها المزعوم وانكمشت إلى الداخل لكن ذر اعيه الطو يلتين أحاطتا بها مجددًا كأنها وطنه الأخير في هذا الخراب.
أسند رأسه على كتفها، وجسده الثقيل لم يسقط هذه المرة مثل الأمس بل يتشبث بها كما يتشبث الغريق بطوق نجاة.
كان حـ ـضنه مختلفًا، مشوشًا، كأنما لا يعرف إن كان يبحث عن دفء… أم عن انتقام.
لم يكن نبيلًا في حركاته ولا مهذبًا في لمسا ته… يداه كانتا تبحثان عن معنى، عن ردّ، عن شيء يكسر هذا الجدار بينهما.
همست **سيرين**، محاولة دفعه بلطف:
“ماذا تفعل…؟”
نظرت إليه بعينين متسعتين من الذهول لكنّه قال بصوتٍ أقرب للمرارة منه للرغبة:
“ألستِ تكرهينني؟ إليكِ فرصةٌ أخرى لتزيدي تلك الكراهية.”
كانت حرارة جـ ـسده تزداد كأن نيران الحمى والغيرة والتشوش تشتعل فيه بلا هوادة.
فقالت **سيرين** بحزم وهي تتراجع قدر ما سمح لها المكان الضيق:
“لا أحتاج إلى فرص للكراهية… وأنت تعلم جيدًا أنّ الوقت قد فات على قول لا.”
ثم توقف الزمن لوهلة.
أحتـ ـضنها من جديد، وهذه المرة كان عنا قه مشحونًا بكل شيء… خيبة، ر غبة، خذلان، وكأنّه كان يبحث عن نفسه الضائعة في تفاصيل جـ ـسدها.
لكن ظافر لم يمنحها فرصة للتفكير، قبّلها كمن ينتقم من صمته، قبْلا ت متعجلة، غليظة، خالية من الر قة، مليئة بجرحٍ قديم لم يندمل.
ارتجفت **سيرين**، لكنها لم تقاوم…
كانت عيناها معلقتين بصورة واحدة:
*نوح*.
ذلك الطفل الذي ينتظرها خلف كل هذا الألم… كانت تتحمّل لأجله فيجب عليها إنجاب طفل جديد للنجاة بمن يصا رع الموت.
وحده **ظافر** لاحظ ر عشة جسـ ـدها، ورأى كيف توترت أنفاسها، وكيف أن نظراتها لم تكن له بل إلى مسافة أبعد بكثير منه.
فهمس بسخرية قاتمة:
“أحقًا لا أستطيع… لكن كارم يستطيع؟”
كانت الجملة كالخنجر فقاطعته صفـ ـعة.. صفـ ـعة هزّت الصمت حتى أن **سيرين** نفسها شهقت من قو تها.
تورد خدّ ظافر، وانعقد حاجباه، لكنّه لم يتراجع… لم يصرخ، لم يهاجم… بل اكتفى بالصمت، صمتٍ ثقيل كأنّه ينفجر داخله.
أطبقت **سيرين** على كتفه بقبضة مرتجفة لا تعلم إن كانت رد فعل أم دفا عًا، لكنه شعر بها.
شعر بها بوضوح.
واهتزت تفا حة آدم لديه مجددًا كأنها تعترف بما لا يريد الاعتراف به:
أنّه يجرحها… ومع ذلك، لا يستطيع الابتعاد عنها.
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة، لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع على التليجرام
الرواية كاملة من هنا