هروب دمية من اتحاد معذب كاملة حتى الفصل الأخير (عشق لا يضاهى) تمصير أسماء حميدة (الفصل السابع والأربعون)

عشق لا يضاهى

الفصل 47

بدأت دينا هجوماً واهٍ تنفث كلماتها وكأنها ترسم طريقًا شائكًا أمام سيرين:

“سيرين دعيني أمنحكِ بعض الحكمة، من لم يحبّكِ يومًا لن يحبّكِ أبدًا سواء تظاهرتِ بالصمم أو ادّعيتِ أنكِ فقدتِ ذاكرتك، صدقيني ظافر لن يميل إليكِ أبدًا، هذه معركة خاسرة حتى وإن أعدتِ ترتيبها آلاف المرات.”**

ظلت سيرين صامتة كأنها تمثال من جليد منحوت بعناية، لا حركة، لا اهتزاز في الجفون، ولا حتى شبح انفعال يطفو على سطح عينيها بل رفعت بصرها إليها وجاء صوتها هادئًا لكنه حمل لسعات باردة:

“هل انتهيتِ؟”

اهتزّت دينا للحظة؛ إذ لم تكن تتوقّع هذا البرود القاتل.

فوقفت سيرين ببطء وكأنها تعطي اللحظة وزنًا أثقل ثم استدارت إليها ترمقها بنظرة واثقة أشبه بحد السيف، وقالت:

“ما دمتِ متأكدة أنه يحبكِ فلماذا تشعرين بحاجة مُلحة لأن تواجِهيني حتى أنني ظننت حقاً كوني شخصاً يحاول انتزاع شيء بالقوة منكِ؟ أليس من المفترض أن يكون الحب مُطمئنًا؟ أم أنكِ تخشين أن يكون مجرّد وهم برأسك وأن ظافر لا يحبكِ فعلاً دينا؟”

لم تمنحها سيرين فرصة للرد بل أطلقت ضحكة ساخرة باردة كأنها نسمة شتاء تتسلل من نافذة مفتوحة على مصراعيها، ثم استدارت وغادرت تاركة خلفها صمتًا أثقل من الرصاص.

تابعت دينا خطوات سيرين وهي تختفي لتستحضر صورة قديمة في ذاكرتها… ابنة عائلة تهامي المتغطرسة تلك التي كان الجميع يسعى لنيل رضاها والآن؟ الآن لا شيء سوى أطلال عائلة كانت يومًا في القمة.

انقبض قلب دينا وهي تستعيد كيف كانت تُجبر على التودد إلى سيرين لمجرد أن تقترب من عائلة تهامي، وكيف كانت تهبط بكرامتها درجة تلو الأخرى لأجل ذلك، لكن الزمن دار والسقوط كان قاسيًا، تمتمت دينا بذهول:

“لم تعد سيرين شيئًا الآن فلماذا لا تزال تحمل كل هذا الكبرياء؟”

أخذت دينا نفسًا عميقًا تبتلع غصّة في حلقها ثم قطع صوت الهاتف أفكارها.

رفعت دينا الهاتف إلى أذنها لتستمع إلى صوت صديقتها تقول بشيء من الحماسة المضطربة:

“دينا، الأغنية التي أردتها أصبحت متاحة أخيرًا”.

ارتفع حاجبا دينا بدهشة تقول:

“حقًا؟”

لكن الصديقة تردّدت قليلًا قبل أن تضيف:

“ولكن…”

“ما الأمر؟ أخبرني”، سألتها دينا.

فأجابتها من على الطرف الآخر:

“السيدة ساسو لديها أغنية تم إصدارها على منصة في الخارج، لكنها لم تتقدم بطلب للحصول على حقوق الطبع والنشر بعد. لقد سمعت الأغنية. من المؤكد أنها ستصبح ناجحة. يمكننا إجراء بعض التعديلات …”

كان ذلك انتحال ودينا تفهم ذلك جيدًا، لكنها لم تتردد لحظة عندما قالت:

“بما أنه لا يوجد حقوق نشر، فهذا ليس عملها أنت تعرفين ذلك.”

بمجرد الاستماع إلى هذا التصريح تنفّست صديقتها براحة، والآن أصبحت واثقة من قدرتها على تنفيذ الأمر.

أغلقت دينا الهاتف، لكن عقلها لم يكن مع الأغنية، بل كان يتجه نحو شيء آخر… سيرين.

كيف ستتعامل معها بعد الآن؟

لم تتجه سيرين نحو منزلها الحالي مباشرة بل ساقتها قدماها إلى القصر… قصر تهامي الإرث الذي حمل عبق ذكريات طفولتها وأحلام مراهقتها لكنه الآن لم يعد كما كان.

فحينما عبثت يد الخيانة بأموال العائلة ونُهبت الثروة على يد سارة وتامر كان القصر هو الثمن الذي قُدم قربانًا للضياع وها هو الآن محجوزٌ في قبضة غرباء لا يمتّون إليها بصلة ولا تعرف من هم.

جلّ ما تعرفه أن غرباء يسكنون حيث كانت ضحكاتها تتردد بين الجدران، حيث كانت خطوات أبيها تتهادى في الممرات الرخامية، حيث كانت الشمس ترسل خيوطها الدافئة عبر نوافذ الطابق العلوي لتوقظها كل صباح على أحلامٍ لم يكتب لها أن تكتمل.

لم تكن سيرين تعلم شيئًا عن مصير سارة أو تامر بعد أن قررت الانسحاب من المشهد كأنها شبح قرر أن يتلاشى بلا أثر وظلت أخبارهم سرابًا بالنسبة لها ولم تشأ أن تمدّ يدها لتلمسه خشية أن تصطدم بحقيقة أكثر إيلامًا مما تخيلت.

ترجلت من السيارة على مهل كأن روحها تزن أضعاف جسدها ووقفت هناك على مسافة كافية لتتأمل المبنى المألوف لكنه بدا لها غريبًا…

نظرت سيرين بحزن إلى نوافذ القصر العتيقة التي كانت تطل منها ليالي الصيف والآن لم تعد تحمل دفء الذكريات وكذلك أبوابه الفخمة التي لطالما فُتحت لاستقبال الأحباب، بدت موصدة في وجهها وحدها.

تسلل القهر إلى مقلتيها فارتعشت نظراتها وهي تبحر بين تفاصيل القصر الذي كان بالأمس مملكتها.

تخللها إحساس بالضيق الشديد إذ شعرت وكأن حجارة المبنى تشاركها مأساتها وتهمس لها كل قطعة في القصر وكأن جدرانه تشتكي من صمتها الطويل.

ظلت سيرين واقفة هناك تحرقها الذكريات كما تلتهم النار أطراف ورقة يابسة حتى لم يعد في قلبها متسع لمزيد من الألم.

عاودت سيرين أدراجها أخيراً ثم صعدت إلى السيارة وأغلقت الباب بهدوء لكن بداخلها كانت العاصفة لم تهدأ بعد.

كان اليوم التالي عطلة رسمية فبادرت كوثر بالاتصال بسيرين منذ الصباح الباكر تخبرها بأن تأتي لتقضيا اليوم معًا ربما تهربان قليلًا من عبء الأيام وثقلها المستمر.

حلّ المساء وأطلّت سيرين على عتبة منزل كوثر، حيث وجدت مشهدًا غريبًا ينكشّف أمامها:

كان زكريا واقف أمام طاولة المطبخ، يشرح لكوثر طريقة خبز بسكويت الشوفان وكأنه طاهٍ محترف بينما ظلت كوثر تحدّق فيه كمن يسمع لغةً لم تُكتشف بعد.

“هل تستطيع فعلًا صنع بسكويت الشوفان؟” سألت كوثر زكريا بدهشة وكأن الأمر فوق قدرات الرجال! عن رجال تتحدث؟! إنه لا زال طفل صغير.

تنهد زكريا بصبر نافد وعيناه تلمعان بوهج ساخر، متمتماً بأعين مستنكرة:

“يمكنكِ ببساطة مشاهدة مقطع فيديو عنه… هل كل النساء جاهلات إلى هذا الحد؟” ثم سرح للحظة وهواجسه بدأت تتلاعب به هل ستكون زوجته المستقبلية من هذا النوع أيضًا؟ مجرد الشرود في فكرة كتلك جعلت القلق يتمدد في صدره كظل ثقيل.

حين دخلت سيرين توقفت عند العتبة للحظات تتأمل المشهد وكأنه لقطة سينمائية دافئة تنتمي لفيلم قديم عن العائلة والمودة غير المشروطة.

“أمي، تعالي وتذوقي بعض الكوكيز!” قال زكريا بحماس طفولي وهو يرفع طبقًا مليئًا بالبسكويت الذهبي.

استدارت كوثر إلى سيرين بابتسامة ارتياح:

“أنا سعيدة لأنكِ هنا، مدبرة المنزل عادت إلى أهلها للعطلة لذا لم يبقَ في البيت إلا أنا وزاك.”

ثم خفضت صوتها فجأة وعيناها تتفحصان الأركان بقلق متوجس:

“رجال ظافر… لم يتبعوكِ، أليس كذلك؟”

نظرت سيرين نحو النافذة بإدراك بارد وقالت بصوت خافت لكنه واثق:

“إنهم بالخارج.”

“وماذا سنفعل؟” همست كوثر وكأن الأسئلة قد تحوّلت إلى سكاكين تقطع سكون المكان.

هزّت سيرين كتفيها بلا مبالاة مصطنعة:

“لا تقلقي، في أسوأ الأحوال سيخبرونه فقط أنني جئت لرؤية صديقة.”

تنهدت كوثر بارتياح وكأنها وجدت منطِقًا وسط فوضى الشكوك:

“هذا صحيح.”

في تلك اللحظة كان زكريا قد انتهى من ترتيب الطبق ودفعه نحو سيرين بابتسامة متفاخرة:

“أمي، صنعنا لكِ بسكويت الشوفان المفضل لديكِ.”

تناولت سيرين قطعة وابتسمت بحنان دافئ:

“أحبك، زاك!”

احمرّ وجه زكريا قليلاً لكنه تمالك نفسه سريعًا وقال:

“وأنا أحبكِ أيضًا، أمي.”

راقبته كوثر بنظرة متفحصة قبل أن تعقد ذراعيها بتحدٍّ ساخر:

“كنتُ على وشك صنع بسكويت الشوكولاتة لكنك أقنعتني أن الشوفان أكثر صحة والآن اكتشفت أنه النوع المفضل لـ سيرين أليس كذلك؟! . كيف تجرؤ على خداعي؟”

رفع زكريا حاجبيه بمكر، يجيب بعفوية مصطنعة:

“لم أخدعكِ… فقط أرشدتكِ إلى الخيار الأفضل!”

وهكذا تحوّل الحديث إلى مشادة مرحة بين كوثر وزكريا تتطاير منها الكلمات كشرارات صغيرة تنثر الحياة في زوايا الغرفة وتغمرها بطاقة من الضحكات والمشاكسات اللطيفة.

أما سيرين فقد جلست تراقب كل ذلك بصمت بينما فكرها كان يجوب أماكن أخرى… إلى حيث نوح وفاطمة البعيدين عن هذا المنزل.

كم كانت سيرين تتمنى أن يعودا قريبًا ليكتمل دفء العائلة من جديد.

كما فكرت في رامي أيضًا ذاك الذي لم يفارق ظلها يومًا والذي غالبًا ما يقف وحيدًا في الخلفية يحرسها دون أن تطلب، يحميها دون أن تشعر.

لماذا لم تدعه هو الآخر إلى هذه الجلسة؟

انتبهت سيرين إلى نظرة كوثر المتفحصة نحوها وكأنها التقطت شرودها من الهواء.

سألت كوثر بفضول مبطن بشيء من الحذر عندما استمعت إلى اسم رامي يتردد من بين شفاه صديقتها: “رامي… هل هو الحارس الشخصي الذي استأجره كارم من أجلك؟ هل جاء إلى هنا معكِ؟”

انعكست في عيني سيرين آلاف من الأفكار لكنها اكتفت بابتسامة غامضة تاركة السؤال معلقًا في الهواء بلا إجابة كأسرار كثيرة لا تزال تنتظر موعد كشفها…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top