سجناء الجزيرة للكاتبة أسماء حميدة الفصل الثالث حصري على موقع دريمسيز

Prewedding

تفوح من فمه رائحة النبيذ المعتق، يجلس في ثمالةٍ على مقعد مكتبٍ، تمنى لسنوات أن يحتله مطيحًا بصاحبه، وها قد ابتسم له الحظ، وأدارت الحياة وجهها إليه.

بعدما ربى مشردًا في الأزقة وعلى الأرصفة، لا يجد ما يقتاته، فيصل به الحال كل ليلةٍ متسطحًا على عتبة أحد المنازل، أو متكومًا في ركن من أركان مرأب سياراتٍ، تتلوى أحشائه جوعًا، وينخر البرد عظامه.

لا يعرف له بيتًا ولا عائلة، كل ما يطفو إلى مخيلته من بئر الماضي، تلك المرأة البدينة، صاحبة الوجه العكر، ذات اللسان السليط، التي من المفترض أن تحنو عليه هو وزملائه ممن فقدوا دفء الأسرة، جاهلون معنى الإنتماء.

كانت طفولةٌ معذبة، قضاها في إحدى دور الرعاية، عن أي رعاية يتحدثون؟!
فجسده للآن مشوهٌ بعلامات الرعاية، أي هراء هذا؟!
وأي مكابدة عايشها في كنف دار من المفترض أن تكون مشرفته أمًا بديلة؟!

لكن تلك الحاضنة لفظت للمجتمع أفرادًا، تحمل الضغائن لمن حابهم الله بما حرموا منه.

كلما تذكرها تتفجر داخله حممٌ مستعرة، حانقًا على بنات حواء كلهن، فأصبحت أي امرأةٍ بالنسبة له وسيلةً للمتعة اللحظية، فلا ثبوت للعدم لديه، بدايةً من أمٍ أنجبت ونفرت ما نمى بأحشائها ملقيةً إياه لعتمة المجهول، مرورًا بتلك البشعة التي أذاقته العذاب جرعات.

وفي النهاية تلك الخائنة التي جعلت منه محطةً للوصول إلى رفيقه، حتى وإن رفضها إكرامًا له، وتساءل لِما جميعهن يمقتانه؟!
لا أمًا حنت، ولا راعيةً أشفقت، ولا حبيبةً أخلصت.

نظراتٌ كارهة صوبها لتلك الجالسة على فخذيه، تعبث أناملها بأزرار قميصه بمداعبةٍ، ويدٌ امتدت تقبض على كفها؛ توقف ما شرعت به، وهو ينفضها بعيداً عنه، فسقط جسدها أسفل قدميه، وساقٌ تقدمت تسحق أصابع كفها بحذاءه.

صرخة ألمٍ صدرت عنها، وهي ترفع رأسها إليه، وعينيها تتوسله الرحمة، ولا تعِ ما فعلته؛ ليبدو على تلك الحالة.

إنها إحدى فتيات الحانة التي يملكها “الداهية”،
وهذا هو رفيقه وساعده الأيمن “نك”، وهو من أرسل في طلبها؛ كي تأنسه.

“نك” وهو يرمقها باشمئزاز، وأنحنى بجسده إليها، يجذب خصلات شعرها قابضًا عليها بقوة.

يرفعها إليه بعدما كف حذاءه عنها، فضمت قبضتها إلى صدرها، وقد اعتلى وجهها حمرة قانية من عِظَم وجعها ، فمن ناحيةٍ يدها التي تئن ألما، ومن ناحيةٍ أخرى شعرها الذي يكاد يقتلعه بيديه.

مقربًا وجهها إليه، جازًا على أنيابه، وعينيه تطلق سهامًا من البغض، وحديثه يخرج محملًا بكمٍ من العذاب، أخفاه وراء ساترٍ من النفور :

-إياكي أن تتجاوزي حدودكِ معي، أنا من يقرر إذا كنت أرغب في جسدكِ المستهلك هذا، أم لا، والآن لا رغبة لي بكِ، اغربي عن وجهي أيتها العاهرة، جميعكن عاهرات.

دفعها بعيداً عنه، فتعثرت خطواتها بذلك الحذاء ذو الكعب العالي، وزلت قدماها، وجسدها يهوي أرضًا، تزحف إلى الخلف بمعاونة ذراعيها، وهي تهز رأسها بهلعٍ، ودموعها تعرف مجراها على وجنتيها المزدانة بحمرة خدود برَّاقة، وزينة وجهٍ صارخة تلائم وظيفتها بمكانٍ كهذا، فهي “ساندي” عاملة البار.

جاءت إليه مجبرةً، بعدما أخبرها مسئول الصالة برغبة السيد “نك”، في حضورها إلى المكتب الذي يشغره الآن لحين عودة زعيمهم.

وقد أخبر “نك” مسئول الصالة “ستيڤ” بأن تجلب بحوزتها زجاجة النبيذ الفاخر تلك، والتي شارفت على الإنتهاء، في إيضاحٍ غير مباشر لسبب استدعاءه لها دونًا عن غيرها من فتيات الحانة.

“ساندي” بكبرياءٍ، فعملها هنا؛ لسبب، وقبولها الذهاب إليه؛ لِعِلَّة، ومُجاراتها له؛ خُدعة:

-ليس كلنا كمن أنجبتك أيها السيد المدلل.

خطت بقدميها حقل ألغام، وكأنما وضعت مِلحًا على جراحه النازفة حتى يومنا هذا، وبعد سنوات عمره الثلاثون لازالت الجِراح متقيحة تُفتح عندما تخالجه ذكريات ماضٍ أليم، فما بالكم بعد ماتفوهت به من حمقاتٍ ستقحمها إلى جحيمه وهي من بادرت إليه.

كان يجب عليها الرحيل عندما أمرها بذلك، ولكنها بدلاً من الهروب بقت تناطحه بشجاعةٍ.

هم ينقض عليها، ولكن بمجرد أن تقدم خطوة حتى تشوشت الرؤية، وغامت عينيه بالسواد، والأرض تميد به، حتى سقط مغشيًا عليه، فمفعول الحبوب المنومة التي خلطتها بالنبيذ، قد سَرَت بدمه، وعزز مفعولها هذا المُسْكِر، فهي تحتفظ بتلك الحبوب بحوزتها تحسباً لظرف مماثل.

ابتسمت بخبث، وهي ترمقه بسخريةٍ، قائلةً:
-أحلامٌ سعيدة أيها الوسيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top