هذه الرواية حصري على موقع دريمسيز، ممنوع النسخ منعاً باتاً نظراً لحقوق الملكية الفكرية ومن يخالف ذلك سيخضع للمسائلة.
في بعض الأحيان ينأى الإنسان بنفسه عن البشر وزيفهم، يمنح روحه شيئاً من السلام النفسي، فعندما تسقط الأقنعة تضح الرؤى، ونعلم أن من كنا نظنه الحياة بالنسبة لنا، هو الموت، متبلورًا في ذاك الشخص الذي سلبنا شغفها.
لذلك عندما تجد نفسك وحيداً، أعد حساباتك، لعلك أنت المخطئ، وقد يكون الخطأ كونك لخصت معنى الحياة في دائرةٍ أحكمت غلقها على حالك، وسلمت مقاليدك لمن لا يستحق.
ولكن إذا كان مصدر تعستك هذا هو الشاكي، هو الناقم، فما فائدة الحديث إذًا، أرحل يا صديقي، ولا تنظر خلفك، فهنيئاً لك، لقد نجوت.
يجلس وحيداً، لاعنًا تاركيه، يتأمل وِحدةً صنعتها يداه، لم يعد يرغب برؤيته أحد، هجرته حبيبته بعدما أعتاد بقائها، وأيقن استسلامها لذاته، والأنا لديه أعمته من أن يرى شرارة التمرد، حتى رُفِعت راية العصيان.
زوجته وأم ابنته ما عادت تأمن جواره، فرت هاربة، وأخذت معها الدفء والسكينة، وبدلٌا من أن يلوم حاله ألقى اللوم عليها.
دقاتٌ تعالت على بابه، نبض لها قلبه الذي شاخ منذ زمن ومازال يُكابِر، قادته قدماه على أمل أن تكون هي، أو ربما وحيدته التي أخذتها معها.
ولكن خاب رجاءه، وتحطمت آماله، إنه “نيكولاس” شبيهه، قادمًا؛ ليتحالف مع مَقْصِيّ النعيم، طريد الجنة، الشيطان الأعظم، “ويلسون”،
نظرات أملٍ تلوح على وجه القادم، وأخرى فاترة خائبة على وجه المُسْتَقْبِل الذي تنحى جانبًا يسمح له بالمرور، فخطت أقدامه إلى وكر الشيطان؛ ليقدم فروض الولاء والطاعة.
“نيكولاس” مبادرًا بالحديث:
-كيف الحال “ويلسون”؟
“ويلسون” بإيجازٍ:
-كما ترى.
“نيكولاس”:
-ما بكَ “ويل”؟! وأين الجميع؟!
“ويلسون” وهو يعود إلى مجلسه قبل قدوم “نيكولاس”، يجيبه بنزق:
-هات ما عندك “نيكولاس”، فلا أظن أنك قطعت كل تلك المسافة؛ لتسأل عن أحوالي.
جلس “نيكولاس”، يضع ساقًا فوق الأخرى بتعالي، يستند بمرفقيه على جانبي المقعد، يشبك أصابع يده؛ يمنع ارتجافتهما، فقد جاء متلهفًا، يحيي ودًا زائفًا، على المصالح قائمًا، فمِن قبل قصده “ويلسون”؛ لغرضٍ فتَمَنَّع، واليوم هو قاصده.
أرجَع ويلسون ظهره إلى الخلف، مادٌا يده اليمنى إلى الجيب الداخلي لسترته من جهة اليسار، يخرج رزمتين من الدولارات، يضعهما أمامه على الطاولة الفاصلة بينهما، ثم مد يده اليسرى للجيب المخالف يفعل نفس الشيء.
ومن كان يجلس شاردًا بفتور، اعتدل في جلسته يراقب ما يفعله الآخر، وقد اتسعت حدقتيه، وهو ينظر إلى كومة الدولارات أمامه بجشع.
بسمة انتصار ارتسمت على وجه “نيكولاس”، وهو يراقب بصمت ردة فعل “ويلسون” لما يحدث تاركًا المجال للغةٍ أخرى لها أثر بالغ في الحديث،وهو في تأكدٍ تام أن هذه اللغة أقوى فصاحة وأشد وَقْعًّا، خاصةً على نفوس لا سيادة لها بدونه.
رفع “ويلسون” رأسه، يناظره بتساؤل، وكأنما أعطى الآخر إشارةً بالحديث:
-ما بك يا رجل، إلام تنظر؟! المال مالك، وعندما تحتاج المزيد، اعلمني.
“ويلسون” :
-هكذا، دون مقابل؟! ابدأ، فقد حظيت بانتباهي، وأَوْجدت لغةً للتفاهم بينا.
“نيكولاس”:
-أتعرف لما دامت صداقتنا حتى الآن “ويل”؟!
“ويلسون” وهو يناظره بسخرية:
-بالطبع أعرف، فإذا كنت صاحب المال، فأنا العَالِم هنا.
“نيكولاس”:
-حسناً، ندخل في صلب الموضوع، هذا المال عربون شراكتنا.
“ويلسون”:
-عن أي شراكة تتحدث؟!
“نيكولاس:
-أتذكر عندما أتيتني آخر مرة، وعرضت علي ذاك العرض؟!
“ويلسون”:
-نعم أتذكر، كما أتذكر جوابك حينها، فماذا حدث حتى تغير رأيك؟!
” نيكولاس” بمراوغة:
-أخبرني أولًا؟ هل بدأت العمل على تلك الفكرة الجهنمية؟!
شرد ” ويلسون”، وهو يتذكر حينما قام بإجراء التجربة على “روجر” صديقه الوفي، فبعد انتهائه من تخليق هذا الفيروس، قام بحقن كلبه “روجر”،
والمعروف عن هذا النوع من الكلاب فصيلة ال”روت وايلر” أنها شديدة الذكاء، سريعة التعلم، وفية لصاحبها، كما أن هذا النوع يتميز أيضاً عن غيره بضخامة الجسد.
ولكن بعد مهاجمة الفيروس لخلايا الدم لدى “روجر”.
بدأت بعض الأعراض تطرأ عليه كحاملٍ للفيروس في تلك الفترة “فترة حضانة الفيروس” ، ومن بين هذه الأعراض الخمول والوهن والضعف الشديد.
ونظرًا لحداثة الفيروس، فعند الكشف المبدأي للمصاب به، لن يتعرف الطبيب على السبب الحقيقي لشعور المصاب بمثل هذه الأعراض، ومن ثم يخطئ التشخيص، كما حدث في حالة “روجر”.
فقد أراد “ويلسون” معرفة إذا كان من الممكن اكتشاف سبب تلك الحالة، أم سيحدث ما توقعه ويُرجِع الطبيب سبب تلك الأعراض إلى إصابة العائل بحالة تسممٍ أو ما شابه، كما شَخَّص الطبيب البيطري.
وبعد مرور سبعة أيامٍ قضاها “روجر” على تلك الحالة، وقد وضعه “ويلسون” تحت الملاحظة الدقيقة، بقفصٍ حديديّ داخل المختبر الذي أعده وجهزه “ويلسون” بكافة الإمكانيات التي يحتاجها.
تبدلت حالة الأعياء والضعف التي كان عليها “روجر” إلى حالة هياجٍ شديد،.
لاحظ “ويلسون” زيادة شراسته، بعدما أعد كوبًا من القهوة، ووضعه إلى جانبه، وهو يشرع في إلقاء نظرة على تلك العينة التي سحبها من دماء “روجر” ؛ ليتابع مدى نشاط هذا الفيروس.
وعندما مد “ويلسون” يده؛ ليلتقط الشريحة الزجاجية الخاصة بالمجهر الذي أمامه.
أطاح عن غير عمدٍ بالكوب؛ ليسقط أرضًا وتتناثر قطع الزجاج في كل مكان، وعند قيام “ويلسون” بجمع القطع الزجاجية المتناثرة، جُرِح أحد أصابعه نتيجة انغراس واحدةٍ من تلك الشظايا به، وسالت منه قطراتٌ من الدماء.
فاقترب من القفص الحديدي يفتح تلك الخزانة الخشبية المعلقة على الحائط؛ ليخرج علبة الإسعافات الأولية.
أخذ الكلب يحط برأسه أرضًا، يُعْمِل حاسة الشم لديه، وقد بدأ بؤبؤ عينيه في الاتساع، حتى احتل سواده كامل “الصُّلبَة”، يلهث بإصرارٍ، وقد تحفزت كامل حواسه، وبدأ فكه بالبروز إلى الخارج، وامتدت أنيابه بشكلٍ مخيف، وصدر عنه صوت عواء يشبه الأنين.
يقف على قدميه الخلفية، يشب بأماميتيه للأعلى، وقد بدأ جسده في التمدد بمنظر غير مألوف استرعى دهشة “ويلسون”، وأراد معرفة سر هذا التحول الذي لم يكن في الحسبان.
فاقترب من القفص متناسيًا أمر هذا الجرح بإصبعه النازف، وكلما اقترب يتجه بصر “روجر” ناحية هذا السائل الأحمر المتقطر من يده، فعلم أن هذا هو سبب ذلك التحول الطارئ.
خرج مسرعًا إلى الحديقة، يفك قيد كلب الحراسة الآخر، يجلبه إلى المعمل، حتى يضعه داخل القفص مع رفيقه “روجر”.
ولكن كلما اقترب “ويلسون” من القفص؛ ليفتح بابه، تزداد شراسة “روجر”.
فقرر “ويلسون” استخدام بندقية التخدير؛ ليتمكن من فتح باب القفص، حتى لا يهاجمه “روجر”.
وبالفعل قام بإطلاق تلك المادة المخدرة ال”كيتامين” عن بعد، فارتخت عضلات جسده، وهدأت نوبة هياجه.
ولكن عند فتح الباب، اختلت كل الثوابت، وبدأ “روجر” بالنشاط، مع الفارق أنه الآن طليق.
أسرع “ويلسون” بالخروج، مغلقًا باب المعمل من الخارج بإحكام، وهرع إلى الخارج، يتابع ما يفعله “روجر” من نافذة المعمل المطلة على الحديقة.
فوجد “روجر” ينقض على الكلب الآخر، يغرس تلك الأنياب البارزة حديثاً بجسد الكلب، وما إن تدفقت الدماء منه، أخذ يتجرعها بشراهة، وهو يمتص تلك المنطقة المنبثق منها الدماء، حتى هدأت مقاومة الكلب الآخر، دليل على نفوقه.
ويبدو أن تلك الجرعة من الدماء، لم تفي بالغرض، فأخذ يثب ناحية النافذة، بعدما اشتم رائحة “أكسير الحياة” بالنسبة له، يسري بعروق المتابع من النافذة.
وعندما لم يتمكن من النيل منه، بدأ بالوثوب يُخرِّب كل ما يطاله، وقد خرج الأمر عن السيطرة.
الحالة التي وصل إليها “روجر” لا خلاف عليها، ولكن كل هذا بات درب من دروب الجنون.
أيمكن أن يكون “ويلسون” توصل إلى طريقة تجسد أسطورة “مصاص الدماء”؟! كيف هذا؟! أهناك مجال لتحويل الخيال إلى واقع؟!
وتبقى هناك حلقة مفقودة، ولن تكتمل الصورة إلا بوجود مساهم في التجربة، وليس أي مساهم، لابد وأن يكون المساهم بشري.
قام “ويلسون” بإطلاق عدة طلقات مخدرة، جميعها أصابت “روجر”، ولكن لا استجابة.
بقى من بالخارج ينعي حظه على ما لحق بمعمله من خراب، فقد أنفق كل سنتٍ معه على تجهيز تلك الصومعة.
وهذا ما جعله يلجأ إلى “نيكولاس” الذي رده خائبا، وازداد الأمر سوءا عندما عاد ووجد من احتضر في هجوم هذا الوحش قد بعث مرةً أخرى على نفس شاكلة المدمر الأول.
فإذا كان مايراه بعينه حقيقة، فلا سبيل للخلاص سوى ضوء الشمس إكمالًا لما يحدث من عجائب.
ولكن بقت المعضلة في كيفية استدراج هذين المسخين إلى الخارج دون أن يهاجماه ويلقى نفس مصيرهما؟!
حتى قاده تفكيره إلى استدراج أحد كلاب الشارع، وقام بذبحه في حوضٍ بلاستيكي.
وأخذ ما سال من دمائه يضعه بكيس من أكياس حفظ الطعام، ساكبًا كميةً منه على الأرضية في خطٍ عريض، نهايته بمنتصف حديقة المنزل، وربط ماتبقى في الكيس بذيل فأره “الألبينو”، ثاقبًا إياه ثقوبًا ضيقة بسن إبرة.
حتى يتمكن من فتح الباب، جاعلًا من ذلك الفأر وسيلة؛ لاستدراجهما إلى الخارج، مصرفًا انتباهما عنه فأينما تحرك الفأر تابعاه، وساعده في ذلك أنه قد اختار سابقاً مكان المعمل بالغرفة الملحقة بالمنزل ذات البابين أحدهما يفضي إلى الحديقة.
وقد كان.
وما لا يمكن حدوثه، وقع.
فبمجرد خروج هذين المسخين وتعرضهما لضوء الشمس، اكتملت الأسطورة.
ولكن بقى الخراب يعشش في الأرجاء، حتى طال حياته بأكملها، فانخراطه في معمله ذاك، كان يلهيه عن سائر البشر.
حتى عندما غادرت زوجته بلا رجعة لم يبالي، ولم يشعر بغياب فلذة كبده وهي في العشرين من عمرها، فلو أولاها إهتمامًا مثلما يفعل مع أبحاثه المدمرة تلك، ربما رفضت أن تتبع أمها، أو على الأقل جاءت لزيارته ولو لمرةٍ واحدة على مدار ثلاثة أعوامٍ مضت.
وللحق لم تنتابه حالة الخواء تلك إلا بعد ما حدث لمعمله عما قريب، أي منذ شهر تقريباً، فأي أبًا هذا وأي مقابل ينتظر من زوجة أو أبناء؟!
أفاق “ويلسون” من لحظات شروده على صوتٍ بدى قادمًا من بعيد، يعيده إلى أرض الواقع، وهو صوت “نيكولاس” المتسائل بإلحاحٍ:
-لن أخفي عليك “ويل”، أتيتك وأنا يائس، ما بنيته في حياتي بأكملها مهددٌ بالضياع، دعنا ننحي أي سوء تفاهم حدث بينا، يكفيك أني أعترف الآن بنبوغك، وأثق بقدراتك، فأصدقني قولاً، هل سيتكاتف كلانا لإغاثة الآخر أم أنني أخطأت بالمجيء؟
“ويلسون” وعيناه تنطلق منها أسهم الشر، ينوي الخروج من مخبأه؛ ليعود إلى الصدارة كما كان ولا يهمه من سيكتسح بطريقه، وبدون تردد بسط قبضته إليه كموافقةٍ على صفقة عَقْدها مخطوطٌ بدم الأبرياء، والمقصود هنا ليس البراءة المطلقة، فإن كان ضحايا تلك الحرب منهم الآثمين، فلا يعني هذا أن يُنَصَبُ الشيطان عليهم حاكم وجلاد.
تهللت أسارير اليائس، واشتدت حماسة الآخر، تتعانق كفوفهما، كعناق الأفعى لضحاياها قبل خلاص الروح، وهي تعتصر الجسد.