هذه الرواية حصري على موقع دريمسيز، ممنوع النسخ منعاً باتاً نظراً لحقوق الملكية الفكرية ومن يخالف ذلك سيخضع للمسائلة.
الفصل الأول
ها هي وحدها على جزيرة معزولة حيث لا أثر للحياة سوى صدى الرياح العاتية، السماء تمطر بغضب وكأنها تعاقب الأرض بقطرات أشبه بالرصاص المنهمر.
ارتجفت الأمواج تحت وطأة العاصفة تعزف لحنًا جنائزيًا يشبه قرع الطبول في معركة لا تنتهي ووسط هذا الجحيم السماوي جلست چوانا ممسكةً بخنـ ـجرها تحفر بأنفاسها المرهقة في قلب قطعة خشبية كأنها تحاول سلخ الماضي عن ذاكرتها لكن المطر كان عنيدًا إذ أخذ يجلد وجهها بلا رحمة كأنه يصر على محو كل أثر لدفءٍ قد يكون سكن ملامحها يومًا.
عشر سنوات من التيه، عشر سنوات من الوحدة كأنها عمرٌ بأكمله حتى أوشكت الحقيقة أن تشرق من ظلمات الغموض وذلك حين عثرت أخيرًا على عائلة الأسيوطي.
ظنت چوانا أنها قد اقتربت أخيراً من فك لغز مقتل والدتها إذ كانت على أعتاب اللحظة التي تزيل عنها اللعنة لكن الأقدار كانت تضحك بسخرية مُرة إذ انقلب الحلم إلى فخّ والأمان إلى فاجعة حين حاول من ادّعوا إعادتَها قتلَها بدم بارد.
حاربتهم كوحش جريح صمدت رغم الفزع ورغم أنفاس الموت التي لامست عنقها، انتصرت على خاطفيها لكن البحر كان خصمًا أشد ضراوة إذ غرقت السفينة وابتلعها الموج ولم يترك لها سوى هذه الجزيرة جزيرة بلا شهود، بلا نجاة.
سبعة أيام مرت وكل لحظة منها تقطر وحدةً وصراعًا مع المجهول ولم تمر عليها أي سفينة كأن البحر قرر أن يعزلها عن العالم للأبد.
لكن القدر رغم قسوته لم يكن بلا رحمة فقد منحتها الجزيرة أشجارًا ونباتات جمعت من أخشابها المتناثرة قاربًا خشبيًا هزيلًا كأمل متهالك لا يزال يقاوم الغرق.
وها هي الآن تعمل على نحت المجاديف بينما السحب تزمجر بغضب وفجأة وكأن السماء اختارت التواطؤ مع العاصفة إذ انهمرت الأمطار بغزارة وكأنها ترفض أن تمنحها فرصة للهروب.
تحت ظلال العاصفة على رمال الجزيرة المنسية، نهضت چوانا على قدميها وكانت على وشك اللجؤ إلى الكوخ، لكن عينيها استقرتا على شيء غامض بجوار الصخور، شيء داكن بدا وكأنه جزء من الليل الذي لفظه البحر على الشاطئ.
اقتربت بحذر خطواتها فوق الرمال بدت كأنها تزن الاحتمالات حتى وجدت نفسها أمام حقيقة صاعقة… إنه رجل.
كان وسيماً رغم الشحوب الذي طغى على ملامحه وكأن البحر نزف منه الحياة قبل أن يجود به إلى اليابسة.
الجرح الذي في خصره كان نافذًا ودماؤه امتزجت بمياه البحر ترسم غروبًا قرمزيًا يتراقص فوق الموج.
انحنت چوانا ووضعت إصبعها أسفل أنفه… فوجدت أنفاسه لا تزال تناضل معلنةً تمرده على الموت.
لم تفكر كثيرًا بل أمسكت بكتفيه وسحبته فوق الرمال بصعوبة نحو الملجأ الوحيد الذي عرفته خلال الأيام الماضية: **كهفها**.
أشـ ـعلت النار وتركت ألسنة اللهب ترسم ظلالًا مرتجفة على جدران الكهف ثم خرجت مجددًا إلى المطر وتركته هناك بين الحياة والمـ ـوت، وعادت بعد لحظات تحمل حفنة من الأعشاب التي جمعتها من قلب الجزيرة.
جلست بجانبه تزيح شعرها الرطب خلف أذنها ومدت يدها إلى سترته المبللة.
“أنت محظوظ لأنك التقيت بي.”، قالتها بصوت هادئ بينما عيناها تتفحصان الجرح العميق الذي مـ ـزق خصره كأثّر لسكين دون شك.
تساءلت: هل أصاب أعضاءه الداخلية؟ هل يمكن إنقاذه؟
لكن قبل أن تصل إلى معصمه لقياس نبضه، تحركت يده بغتة تقبص على رسغها بقوة كمن استيقظ من كابوس.
“م-من أنت؟”جاء صوته هامسًا واهنًا لكن قبضته كانت قوية كأنه يحاول الإمساك بحياته قبل أن تفلت منه.
نظرت إليه چوانا وارتسمت على شفاهه ابتسامة حزينة، وقالت:
“من أنا؟ أنا منقذتك، يا عزيزي لكن إن استمريت في التشبث بي بهذه الطريقة فسأكون مجبرة على بناء قبر لك بنفسي تخليدًا لذكراك بالطبع… هل يعجبك ذلك؟”**
تجمد الرجل للحظات وعبس في صمت ثم تحولت عيناه نحو الأعشاب التي كانت تطحنها بين يديها.
“ما الأمر؟ انزع قميصك، سأساعدك.”
قالت كلماتها ثم امتدت يدها نحوه مجددًا مصمّمة على ألا تتركه يغرق في مصيره كما أغرقها البحر في قدَرها.
“سأفعل ذلك بنفسي.”
خرجت كلماته كحدّ السيف مشبّعة بازدراءٍ لا تخطئه العين ومن ثم أزاح يديها بخشونةٍ متعمدة ثم شرع في خلع قميصه بنفسه متحررًا من لمستها كمن ينفض عنه قيودًا غير مرئية.
عيناه الداكنتان ظلّتا مسمرتين عليها ترصدان كل حركة، كل نَفَسٍ كصيّاد يراقب طريدته التي قد تفلت من بين يديه في لحظةٍ مباغتة.
وحين انسلَّ القماش عن جسده لم تستطع چوانا منع عينيها من الترحال فوق تضاريسه.
تلك العضلات المشدودة المرسومة بإتقان والامتداد الواضح لخطوط الـ V التي تتغلغل عميقًا نحو حدود البنطال كأنها دروبٌ محفورة على صخرٍ صلب.
كانت تفاصيله تُشبه منحوتة إغريقية صنعتها يدُ فنانٍ بارع ولم تستطع إلا أن تتساءل في سرّها: هل يمكن لجسد رجلٍ أن يكون بهذا الكمال؟
شعرت چوانا بجفافٍ في حلقها فابتلعت ريقها على عجل، ولكن الحرارة بدأت تزحف إلى وجنتيها كجمرٍ أُوقد فجأة فحاولت التظاهر بالتماسك وهي تضع الأعشاب بعنايةٍ فوق موضع الجرح.
“ما هذا؟” جاء صوته منخفضًا خاليًا من أي نبرة انفعال كأن الأمر لا يعنيه.
“أعشابٌ مطهرة، ستوقف النزيـ ـف.”
عاود سؤالها:
“وأين أنا؟”