الفصل العاشر
تبدّد الخوف في قلب جنى تيمور كالسحاب، لتحلّ مكانه رجفة من الإثارة الممزوجة بالذهول؛ فقد ظهر فجأة أمامها رجلٌ بدا كأنّه تجسيدٌ حيّ لأعظم الأبطال… رجلٌ تقدّم بثبات نحو الخطر، ليحميها من أنياب الذلّ.
لكنّ المفاجأة الكبرى لم تكن ظهوره فحسب… بل أنّ هذا الرجل لم يكن سوى رائد الهاشمي!
جنى، التي بالكاد كانت تقوى على حمل جسدها، لم تستطع الإمساك بالكوب، ترنّحت كطيفٍ ضائع في المدى، تتلاشى رؤيتها وسط ضباب الثمـ.ـالة… تراءى لها خيالٌ، كأنه شبح، لكنّه اقترب شيئًا فشيئًا، حتى تبيّن لها أنّه هو، حقًا، حيّ يُرزق أمامها. فتحت عينيها في ذهول، ونطقت بصوتٍ مكسور:
“رائد…”
لم يكن لدى رائد وقتٌ للكلام.
في لحظةٍ خاطفة، مال بجسده وتفادى ضربة فراس، ثم وجّه إليه لكمةً كالصاعقة، أصابته في موضعٍ قاتل، أسقطته أرضًا يتلوّى من الألم. انزلقت زجاجة الشراب من يد فراس وتهشّمت على الأرض، وتناثر زجاجها كما تناثرت هيبته. هزّ رأسه بقوة، وكأنّ صدمة اللكمة لا تزال تطنّ داخله، ثم صرخ مهدّدًا، وقد نفدت حيلته:
“أطلِق سراحي… وإلا قـ.ـتلتك!”
لكن رائد لم يكن في مجال للتفاوض.
فقد كان قد رأى ما يكفي ليشعل النار في عروقه. حين دخل الغرفة، لمح فراس وهو يحاول نزع حزامه، وجنى ممدّدة أمامه، عاجزة عن النطق أو الحراك. لم يحتج إلى شرح… ولم يحتمل ما شاهده.
قبض على رأس فراس، ووجّه به ضربتين متتاليتين فوق الطاولة! صوت الارتطام دوّى كالرعد، سال الـ.ـدم من جبهته في الحال، قبل أن ينهار جسده الثقيل على الأرض فاقدًا الوعي.
ثم استدار رائد نحو جنى، واقترب منها بعينين تمزجهما الشفقة والغضب، وهمس بصوتٍ متهدّج:
“دعينا نغادر… الآن.”
ثم حملها بين ذراعيه برفقٍ ناريّ، وخرج من الغرفة بخطى ثابتة لا تعرف التراجع.
لكن ما إن فتح الباب، حتى وجد نفسه أمام صفٍ من الحراس يقفون كجدارٍ بشريّ. أكثر من عشرين رجل أمن، كلّهم بزيّهم الرسميّ، صدورهم عريضة وعيونهم يقظة.
وفي مقدّمتهم، وقف رجلٌ أنيق يرتدي بدلة فاخرة، بملامح حادة ونظراتٍ جامدة… كنان، المدير العام لفندق “يو”. رجلٌ ذائع الصيت، يتظاهر بالنبل، ويخفي وراء وسامته قسوةً لا تعرف الرحمة.
لم يكن من يصل إلى هذا المنصب في فندقٍ فخمٍ بمحض الحظ. كنان كان ذكيًا، دقيقًا، وقادرًا على تحويل أي خطأٍ بسيط إلى مأساة مدروسة.
قال بصوتٍ هادئ، لكنه مشبع بالتهديد:
“مغادرة المكان بعد أن تعتدي على أحد ضيوفي؟ أمرٌ غير مقبول، أليس كذلك؟”
نظر إليه رائد بثباتٍ بارد، وردّ باقتضاب:
“تنحَّ جانبًا.”
شحب وجه كنان، وتجمّدت نظراته، إذ لم يعتد أن يتلقّى هذا النوع من الردود داخل مملكته. كلّ من مرّ من هنا انحنى له… إلا هذا الرجل.
غيّر نبرته، وأضاف شيئًا من الحدة:
“لن تخرج بهذه السهولة. إما أن تأتي معي بهدوء… أو ستُجبر على ذلك.”
لكن رائد أعاد كلماته، هذه المرّة بصوتٍ أكثر صقيعًا:
“قلت لك… تنحَّ عن طريقي.”
غلي الدم في عروق المدير، وبصق غضبه قائلًا:
“تبًّا لك!” ثم اندفع نحو رائد كالسهم…
تلقّى كنان ضربة مباغتة أطاحت به إلى الخلف، قبل أن يتمكّن حتى من لمس رائد. هوى أرضًا كمن داهمه إعصار.
وما أدهش الجميع أكثر من سقوطه… هو أنهم لم يروا شيئًا.
حتى رجال الأمن الواقفون على جانبي الممر، لم يستطيعوا إدراك ما حدث، سوى أن مديرهم… فشل.
ساد الصمت، وشعر الجميع بحيرة عميقة. كيف لرجلٍ بارع في القتال مثل كنان أن يسقط بهذه السهولة؟!
أكان هذا من فعل رائد؟ إن كان كذلك… فما نوع القوة التي يملكها؟!
وفجأةً، انفتح باب الغرفة الخاصة التالية بهدوء… وخرج منه رجل في الخمسين من عمره، يرتدي بذلة رسمية، يفيض وقارًا. كان نايف رعد.
ذلك الاسم وحده كان كافيًا ليقلب وجوه الحاضرين احترامًا ورعب.
في مدينة الشيخ، كان نايف رعد يُعدّ أسطورةً حيّة. وُلد فقيرًا، ونشأ في أحد أزقّتها المظلمة، لكنّه صعد سلّم السلطة والمال بأسنانه، حتى بات اليوم من أبرز رجالات المدينة.
يمتلك سلاسل فنادق، ملاهٍ ليلية، حانات، وقاعات كاريوكي، ويدير شبكةً رمادية تُمسك بخيوط الاقتصاد من الظلّ.
وكان فندق يو أحد أهم أملاكه.
في هذه الليلة، كان يتناول العشاء مع نخبةٍ من كبار شخصيات المدينة في الطابق الرابع. وعندما دوّى صوت العراك، تجاهله بادئ الأمر معتقدًا أنه شجارٌ تافه سيُقمع بسرعة.
لكن حين لاحظ أن الصخب لم يهدأ، نهض أخيرًا من مجلسه وخرج.
وما إن فتح الباب… حتى رأى مرؤوسه الأوفى، كنان، ملقىً أرضًا كجثة هامدة!
عندها فقط، فهم أن الخصم ليس كأي خصم.
“سيدي!”
“رئيسنا!”
انحنى له رجال الأمن احترامًا فور ظهوره، فيما ظلّ رائد واقفًا بثبات، ونظر إليه قائلًا ببرود:
“اهتم بشؤونك، ولا تتدخّل فيما لا يعنيك.”
يا إلهي…
نايف رعد، الذي كانت تُحنى له الرؤوس، يُخاطَب بازدراء؟!
لم يسبق لأحد أن تجرأ على ذلك!