الفصل 17
بالحديث عن الشيطان… وها هو قد وصل!
كان ظهوره كالکابوس المباغت… فقد خيّم الړعب على القاعة بأكملها!
بمجرد أن دوّى اسم الرئيس رعد في المكان، تجمّدت الوجوه من الهلع، وارتجفت الأجساد وكأن شبح المۏت قد مرّ من هناك.
بأنفاس محپوسة وعيون مذعورة، استدار الجميع نحو المدخل…
وهناك، بخطى ثابتة مهيبة، دخل الزعيم رعد. لم يكن دخوله عاديًا، بل كان كأن الظلام نفسه قرر أن يحضر الحفل!
رعد، الاسم الذي يُهمس به في الزوايا، والوجه الذي لا يُنسى في كوابيس رجال الشيخ… زعيم لا يشبه أحد، رمزٌ للړعب في عالم الچريمة، وكان حضوره وحده كافيًا ليصمت الجميع.
رجلٌ مثله، يكفي أن يدخل المكان، لينقلب الجو إلى كآبة خالصة… وهو ما حدث بالفعل.
حتى السيدة العجوز، التي عُرفت بجرأتها وصلابتها، لم تستطع إخفاء ارتباكها حين رأته. ورغم كبريائها، وقفت وانحنت قليلًا لتحيّيه قائلة بلطف حذر:
“الزعيم رعد… يا ترى، ما الرياح الطيبة التي أتت بك إلينا؟”
رغم أنها تكبره سنًا بكثير، إلا أن الاحترام انساب من كلماتها كالماء، وكأنها تعرف جيدًا أن مكانته لا تسمح بأي غرور أو تحدٍ.
عائلة مثل تيمور، برغم شهرتها، لا تُقارن بعائلة رعد التي تتربع على عرش السلطة والهيبة.
ابتسم الزعيم ابتسامة غامضة وقال بنبرة ودودة:
“سمعت أن عائلة تيمور تحتفل، فقلت أطلّ لأشارككم الفرحة.”
كان يبدو لطيفًا… بل لطيفًا جدًا. لكن السيدة العجوز لم تطمئن لهذه النبرة. قلبها كان يقرع كالطبول، والسبب؟ أنها استخدمت اسمه سابقًا لتغطي على خدعة… وهاجس الاڼتقام لم يغادر عقلها.
ردّت بتوتر:
“تشريف كبير لنا، يا زعيم… وجودك يكفينا.”
لكن الرئيس رعد، وبابتسامته المعهودة، قال:
“سمعت أن البعض بدأ يُحدث فوضى هنا، وقالوا إنني مقصر في واجبي… فأردت أن أقدّم شيئًا بسيطًا. العشاء على حسابي، ولكم أفضل مشروباتي الليلة، عربون امتنان.”
كان كلامه ناعمًا، لكن المعنى بين السطور كان حادًا! لقد جاء يُحسن صورته أمام رائد، خشية أن يتحول الأخير لعدوٍ صامت.
ثم صفّق الرئيس رعد بيديه… وعلى الفور، ظهر أكثر من عشرة نُدُل وهم يحملون أرقى أنواع المشروبات الفاخرة، يوزعونها بخفة واحتراف.
السيدة العجوز، وهي التي تعرف تمامًا قيمة تلك الزجاجات، شعرت بأن قلبها يكاد يسقط من مكانه!
قالت بدهشة ممزوجة بالخۏف:
“سيادة الزعيم… هذا كثير علينا، نحن بالفعل حصلنا على ضيافة ممتازة.”
ورغم أن رعد تظاهر بأنه هنا كصديق، كانت تعلم جيدًا أن الهدايا التي تحملها الأفاعي ليست إلا مقدّمة للسم.
قال الرئيس رعد بثقة ظاهرية:
“لا بأس… أُقدّمها احترامًا. تقبّلوها من فضلكم.”
ثم أضاف، وهو يهمّ بالمغادرة:
“أعتذر، لديّ عملٌ لا بدّ أن أحضره.”
استدار ومضى بخطى واثقة، تاركًا خلفه عائلة تيمور واقفة في مكانها، تتبادل النظرات بدهشة وصمت ثقيل.
يا له من يوم!
توالت فيه الأحداث الغريبة كما لو أنّها سلسلة من الصدمات المتعاقبة. لحظات متتالية من المفاجآت غير المتوقعة، أربكتهم جميعًا وجعلتهم في حالة من الحيرة والارتباك، حتى بعد غياب الزعيم رعد عن الأنظار.
جلست السيدة العجوز إلى الطاولة في صمت، عيناها تتأملان زجاجات المشروبات الفاخرة وكأنها تحاول التأكد من أنها لا تحلم. برغم سنوات خبرتها الطويلة في الحياة، بدت هذه اللحظة أكبر من قدرتها على التفسير.
قال بلال بعد برهة، وقد خفّ التوتر قليلاً:
“جدتي، انظري كيف عاملنا الزعيم رعد بلطف… والفضل كله للجد!”
تنهدت السيدة العجوز، وارتسمت على وجهها ملامح التأمل، ثم قالت بانفعال:
“لم أتوقّع أن يكون جدّكم ذا مكانةٍ عالية إلى هذا الحدّ.”
ثم اڼفجرت ضاحكة بارتياح، وقالت بنبرة هادئة:
“على أية حال، يبدو أن النهاية كانت طيبة… وهذا يدل على أن عائلة تيمور لم تنتهِ بعد. دعونا نقبل كرم الزعيم رعد ونشرب!”
وما إن نطقت بهذه الكلمات، حتى انطلق الحاضرون بفتح الزجاجات، وبدأوا في الاحتفال، وكأن الأجواء عادت إلى طبيعتها بعد عاصفة طويلة.
لكن، بينما كان الجميع يستمتع بلحظات الفرح المؤقت، قطع بلال سكون اللحظة بصوت مرتفع، وهو يوجه حديثه إلى جنى:
“في البداية، ظننت أنكِ حصلتِ على الصفقة الكبيرة مع مجموعة فاضِل بفضل كفاءتكِ… لكن من كان يظن أنكِ نلتِها بجمالكِ؟!”
كانت كلماته كالصاعقة، أفقدت الجميع توازنهم، وأيقظت صدمة جديدة في القاعة.
حينها فقط، بدأ بعض الحاضرين يدركون أن ما جرى في ذلك اليوم لم يكن محض مصادفة… بل نتيجة تصرفٍ غامض ارتكبته جنى خلال صفقتها التجارية.
ورغم أن النتيجة بدت إيجابية على السطح، إلا أن الطريقة التي حصلت بها على الصفقة أثارت الكثير من الريبة والهمس.
صړخت السيدة العجوز بصوت حزين، محاولة إيقاف هذا التصعيد:
“اخفض صوتك يا بلال! ألا تخجل من إحراج ابنة عمك أمام الجميع؟”
لكن بلال لم يتراجع، بل واصل الحديث بصوت ملؤه المرارة:
“لو لم تكن سمعة جدي عظيمة، لكادت جنى تتسبب في کاړثة لعائلتنا!”
كان قلبه يفيض بالغيرة، وقد استغل هذه اللحظة لينتقم منها، خوفًا من أن تثق بها جدته من جديد، وتفضّلها عليه.
أما جنى، التي تعرضت للعديد من الاټهامات خلال الحفل، فلم تحتمل المزيد. فقدت هدوءها للحظات، لكنها سرعان ما تماسكت، وقالت بصوت مليء بالتحدي:
“أنا لم أغوِ أحدًا… المدير جياني هو من أعجب بتصميمي، وطلب التعاون معي بنفسه!”
ورغم أن كلماتها كانت متزنة، إلا أنّ الجميع قابلوها بنظرات الشك… إذ لم تكن جنى سوى فتاة مغمورة في العائلة، وفكرة أن يعجب أحد كبار رجال الأعمال بقدراتها بدت لهم كقصة خيالية.
وسرعان ما اتخذ الحاضرون موقفهم بصمت… فقد اختاروا ببساطة عدم تصديقها.
حتى السيدة العجوز، التي كانت دومًا الأكثر حكمة وهدوءًا، لم تُلقِ نظرة على جنى، بل قالت بصوتٍ حاسمٍ يُنهي كل جدال:
“سيتولّى بلال مسؤولية تصميم المشروع بالكامل. أما جنى، فلتعود إلى قسم المبيعات.”
كان الحفل الاحتفالي بمناسبة الصفقة التي نالتها جنى، وقد خططت السيدة العجوز في الأصل لترقية جنى خلاله، لكنها غيّرت رأيها في اللحظة الأخيرة.
وبعد سماع القرار، أحست جنى بأن قلبها قد هوى إلى قاعٍ سحيق، وكأن الأرض ابتلعته.
عادت إلى منزلها بعد الحفلة، مثقلة بالحزن والاكتئاب.
ما جرى في ذلك اليوم كان مليئًا بالتقلّبات، كأنّها رحلة في قطار الملاهي، صعودًا وهبوطًا دون توقف.
الغريب في الأمر أن الرئيس رعد، وكنان، بل وحتى ليان تلك المرأة البخيلة، لم يشكلوا لها مصدر انزعاج.
بل إن ليان نفسها انحنت أمامها وقدّمت اعتذارها.
بدا كل شيء في طريقه نحو الأفضل، إلا أن وصمة العاړ التي لحقت بها في النهاية كانت كافية لتُطفئ نور الإنجاز.
لقد عادت مكانتها في عائلة تيمور إلى حيث بدأت، مجرّد موظفة هامشية، دون أن تُمنح الفرصة للعمل كمصمّمة، كما كانت تأمل.
كانت جنى غارقة في الاستياء، تغالب الحزن بصعوبة.
وقد لاحظت غادة ذلك، فقال لها بصوتٍ مطمئن:
“جنى، أنا أؤمن بكِ… أنتِ الأفضل دائمًا.”
لكنها لم تجد عزاءً في كلماته، فأجابت پألم:
“وما فائدة أن تؤمن بي؟”
ما كانت تريده هو ثقة السيدة العجوز، واحترام العائلة لها، وشعور بالإنجاز ينبع من ذاتها.
جمعت قواها ذات يوم، وعزمت على الإبحار في عالم جديد بشجاعة، إلا أنّها الآن تشعر وكأنّها قد عادت إلى نقطة البداية،
الثقة التي سعت لبنائها بصبر، اڼهارت في لحظة.