رواية أحببته رغم جنونه الفصل 31

رواية أحببته رغم جنونه

رواية أحببته رغم جنونه الفصل 31

كانت واجهة ذلك المبنى الشاهق، المكوَّن من سبعة عشر طابقًا، تطلُّ على شارع عريض ينبض بالحياة، وعلى الرغم من أن الساعة تجاوزت العاشرة مساءً، فإن صخب المدينة لم يهدأ بعد. السيارات تتزاحم على الطريق، والمارة ينتشرون في كل مكان، وكأن الليل لا يعرف النوم.

فجأة، اخترق صړاخ حاد سكون الليل:

“انظروا! أحدهم يقفز من المبنى!”

في لحظة خاطفة، تجمهر الناس ونظروا إلى الأعلى بقلوب واجفة وعيون مذهولة. رأوا شخصًا يسقط من أعلى بسرعة مذهلة، حتى تجمد الزمن في تلك الثواني. ارتعشت الأجساد، وتجمدت الأصوات في الحناجر، كأن الخۏف شدَّ على أرواحهم قبضة حديدية.

لكن قبل أن تلامس الأرض، قفز شخص يرتدي ملابس سوداء من بين الحشود. انطلق بجسده في الهواء، قاطعًا مسافة ثلاثة إلى أربعة أمتار، ثم…


بصوتٍ مدوٍ، التقط الشخص الساقط بكل قوة بين ذراعيه، واحتضنه بقوة، ثم ارتطم بالأرض في مشهد لا يُصدَّق، وكأن بطلاً خارقًا خرج من صفحات القصص.

صُعق الحشد. تحوّلت الصدمة إلى ذهول، والذهول إلى دويّ داخلي في القلوب.

“يا إلهي… أليس هذا سوبرمان؟!” صړخ أحدهم بدهشة.

لكن “سوبرمان” هذا لم يكن سوى رائد.

كانت جنى قد سقطت بسرعة قاټلة، والجاذبية لم ترحمها. حاول رائد التخفيف من الصدمة بقفزته، لكن الضرر كان قد وقع.
بصقت جنى دمًا، ثم فقدت وعيها بين ذراعيه.

أما رائد، فشعر بوخز في ذراعه من قوة الارتطام، لكنه لم يُبالِ. عيناه اغرورقتا بالدموع، وهمس بصوت مكسور:

“لماذا فعلتِ هذا؟ لماذا اخترتِ المۏت؟”

كان صوته مبلَّلًا بالحزن، ووجهه يعكس ألمًا لا يُطاق.
أي جحيمٍ مرت به جنى لتدفعها الحياة إلى حافة الاڼتحار؟

امتلأت عينا رائد بالڠضب، ليس فقط على من أذوها، بل على نفسه لأنه لم يحُمِها. أقسم في داخله أن يجعل كل من ظلمها يدفع الثمن، واحدًا تلو الآخر.

بعد ساعة، نُقلت جنى إلى مستشفى الشعب بمدينة الزهور.
كانت ترقد بهدوء على السرير، بينما جلس رائد إلى جانبها، يحدّق فيها كما لو أنه يحاول الاطمئنان على نبض الحياة في ملامحها.

لم يغادر مكانه طوال الليل.

في صباح اليوم التالي، فتحت جنى عينيها ببطء، فرأت رائد واقفًا إلى جوارها، ووجهه مرهق لكنه مطمئن.

اضطر رائد للوقوف وقال بصوتٍ دافئ:
“هل أنتِ جائعة؟ سأجلب لكِ شيئًا لتأكليه.”

تسارعت أنفاسها للحظة، فقد بدا لها رائد مختلفًا. لم يعد الأحمق الساذج، بل بدا زوجًا ناضجًا يعرف كيف يعتني بامرأته.

همست: “حسنًا.”

عاد رائد بعد عشرين دقيقة ومعه طبق من العصيدة البيضاء.
ناولها إياه، لكنها بالكاد كانت تمسكه، فقال برقة:
“دعيني أطعمكِ.”

تجمدت جنى للحظة، فقد كانت تلك الكلمات غريبة من فم رائد.
لسنوات، كانت هي من ترعاه، تعتني به كأنه طفل كبير.
واليوم، تغيّر كل شيء.
رائد الجديد أربكها… لكنه أيضًا لامس شيئًا عميقًا داخلها.

فتحت فمها بصمت، وتركت له مهمة الإطعام.

كان يتحرك بحذر، يطعمها ببطء، كأنما يرعى كنزًا ثمينًا بين يديه.
في كل لقمة، كانت جنى تبتلع مشاعرها، وفي كل لمسة، كانت تشعر برفقٍ افتقدته طويلًا.

كان طبق العصيدة هذا، على بساطته، أطيب ما تذوقته يومًا. 

عند الظهيرة، أجرى الطبيب فحصًا جسديًا شاملًا لجنى. وبعد دقائق من التأمل والتحاليل، أبلغها بإمكانية الخروج من المستشفى.
لم تُجادل، فقط أومأت برأسها، وتركت رائد يُنهي جميع الإجراءات. تبعته بصمت، وكأنها سلّمت نفسها له، تستند إلى وجوده بصمت لا يخلو من ثقة.

بعد الخروج، اصطحبها إلى مطعم قريب. اختار الطاولة، وطلب الطعام بدقة وهدوء، كأنما كان يقرأ ما يدور في ذهنها.
جميع الأطباق التي وصلت إلى الطاولة، كانت مفضّلاتها، كأن ذوقها القديم لم يغب عن ذاكرته يومًا.

وبينما كانت تتذوق تلك الأطباق المألوفة، بدأ الجليد الذي يغلّف قلبها يذوب شيئًا فشيئًا. لم يكن الطعام هو ما منحها الدفء، بل وجود رائد… طريقته في الاهتمام، صمته الذي صار أكثر تعبيرًا من أي كلام، ورعايته التي نضجت بهدوء.

في الماضي، كان رائد كثير الأخطاء، يُغضبها بتصرفاته، يُربكها بكلماته، ويسبب لها الإحراج أحيانًا. لكنها كانت تعلم، في أعماقها، أنه كان دائمًا يذود عنها.
صحيح أنه لم يكن بارعًا في التعبير، لكن قلبه كان دائمًا في صفّها.

رواية أحببته رغم جنونه كاملة

كانت تتجاهل حسن نواياه لأن طريقة تقديمه لها كانت خاطئة، أما الآن، فقد تغيّر. لم يعُد يتحدث بلا معنى، بل أصبح يُعبّر بالفعل، لا بالقول.
صار الصمت لغته، والرعاية وسيلته.

رائد، الذي كانت تراه عاديًا في السابق، بدا لها الآن رائعًا؛ لأنه كان حاضرًا عندما كانت بأمس الحاجة إلى من يُمسك بيدها.

لم تكن تطلب الكثير، فقط قلبًا صادقًا وسندًا تتكئ عليه.
رغم كل ما عانته، بدأت تشعر أن الحياة ما زالت تمنحها فرصة… ومع رائد، بدت هذه الفرصة ممكنة.

نظر إليها وهمس:
“أنا آسف… لقد سببتُ لكِ المعاناة.”

تأثرت جنى بكلماته، وتحرك قلبها دون إرادة. لكنها تذكّرت فجأة الکاړثة التي ارتكبتها الليلة الماضية.

فقالت بقلق:
“لقد ضړبت شخصًا البارحة… رجل ذو نفوذ في مدينة الزهور. لقد ورطت نفسي في مشكلة كبيرة. رائد، لا أريد البقاء هنا. لنغادر المدينة فورًا!”

نهض رائد من مقعده بثبات، وقال:
“الهروب ليس حلًا. يجب أن نواجه الأمر ونصلحه.”

نظرت إليه جنى بشك، مترددة:
“ماذا تنوي أن تفعل، رائد؟”

اقترب منها، نظر في عينيها، وقال بصوت مملوء بالعزم:
“بما أن العالم لم يكن عادلًا معكِ… فسأغيره لأجلك.”

ثم أمسك بيدها بقوة، وسار بها إلى الأمام، بخطوة واثقة.

رواية رواية أحببته رغم جنونه الفصل 32

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top