الفصل 11
مع انقضاء شهرٍ تقريبًا على رحيل الصيف، كانت السماء في الجنوب تفيض بمياهها كأنها تبكي أسرارًا دفينة حيث تهطل الأمطار بغزارة وكأنها تحاول محو آثار ما مضى فتغسل الطرقات والأرواح وتُعيد تشكيل المشاهد بعذوبة قاسية، منذرةً ببدايات جديدة أو ربما بعواقب لا مفرّ منها.
في الأيام التي عقبت خروج سيرين من المشفى، بدا أن كارم قد اتخذ قرارًا غير معلن؛ إذ بات وجوده في شركتها أمرًا معتادًا وكأنه يفرض حضوره كدرعٍ يحميها من شتات أفكارها أو كحاجزٍ يحول بينها وبين الغرق في بحرٍ من الذكريات التي لا ترحم.
لكن سيرين ورغم كل شيء كانت لا تزال تحمل آثار تلك الليالي الثقيلة، حينما استسلمت لسراب الحبوب المنومة التي عبثت بجسدها وأضعفت أوصالها… إذ أصبحت حالتها الجسدية في تراجع، ليس انهيارًا مدويًا، بل ذبولًا صامتًا مثل زهرةٍ فقدت ماءها لكنها لا تزال تحتفظ ببقايا لونها… ومع ذلك، كان هناك شيء ما يتوهّج داخلها، روحٌ تأبى الانكسار، عزيمة خفيّة تدفعها لفرض السيطرة على جسدها الواهن، حتى وإن فقدت شهيتها، كانت تجبر نفسها على التهام الطعام، كما لو كانت تملأ فجوةً سوداء داخلها، تحاول إقناع جسدها بالحياة من جديد.
لكن الغريب في الأمر، أو ربما الأكثر إيلامًا أنها لم تكن لتحاول أن تذكر اسم ظافر أمام كارم قط… لم تنطق به ولو لمرة واحدة كالتي عقدت اتفاقًا مع نفسها على نفيه من عالمها وكأن اسمه يحمل بين حروفه طاقةً مدمرة تخشى أن تُحررها خوفاً من أن تنهار تحت وطأة ما تحاول الفرار منه.
ربما كانت تعلم أنها إذا سمحت لشفتيها بأن تهمسا باسمه ستنفتح جراحها كندبةٍ قديمة لا تزال تؤلمها كلما عبرت عليها أصابع الذاكرة.
وربما أكثر من ذلك، إنها لم تكن ترغب في أن يلمح كارم ذلك الألم في عينيها حتى لا يشعر ولو للحظة بأنه ظلٌّ في معركتها الداخلية، أو أن وجوده مجرد جدار مؤقت تحتمي خلفه لكنها في الحقيقة لم تتجاوز ظافراً بعد…
بين ظلال المطر وأشباح الماضي
كانت سيرين وحيدة، تجلس في غرفتها المتواضعة تحت ضوء خافت، تتأمل صورة ملف ظافر على “واتساب”… تراقبها وكأنها تحاول أن تستشف من ثناياها إجابة لسؤال يرهق روحها: كيف ستفتح معه الحديث مجددًا عن الطلاق؟ كيف ستجد المدخل المناسب دون أن يُغلق الباب في وجهها مرة أخرى؟
وفي أحد الأيام، بعد جولة قصيرة لشراء بعض حاجيات المنزل، عادت سيرين بخطوات متثاقلة، لكن فجأة، اعترض طريقها شخص ما وقف في مواجهتها مباشرة قاطعًا عليها مسارها.
رفعت عينيها ببطء، لتجد امرأة تضع نظارة شمسية وقناعًا يغطي نصف وجهها… كان شعرها الطويل ينساب بحرية على كتفيها، أما فستانها المبهرج وكعبها العالي فقد أضافا إلى حضورها هالة من الجاذبية الغامضة.
رفعت المرأة حاجبيها قليلًا وسألت عن أحوال من تقاطعت بهما الطرق بصوت بارد، وكأن سيرين كانت تتوقع لقاءها.
ترددت سيرين للحظة إذ لم تكن تتوقع أن تجد دينا هنا في هذا المكان تحديدًا، وكأن القدر رسم لهما هذا اللقاء بعناية.
دون تبادل كلمات كثيرة، توجهتا إلى مقهى هادئ، حيث جلستا بجوار النافذة التي كانت تتناثر عليها قطرات المطر الثقيلة تتدحرج ببطء وكأنها تواسي بعضها البعض في صمت.
كان الجو مشحونًا بالكثير من الكلام الذي لم يُقال بعد.
بهدوء رفعت دينا يديها ومن ثم سحبت القناع عن وجهها، كاشفة عن ملامحها التي ظلت خافية الكثير عمّ ما بداخلها.
ابتسمت دينا بسخرية خفيفة قبل أن تقول:
“لا تقلقي، سمعت أن تامر أخذ المال من السيد خليل وهرب خارج البلاد مع السيدة سارة… هذا يعني أنهما لن يكونا شوكة في طريقك بعد الآن.”
تأملت سيرين كلماتها، لكنها لم تُظهر أي رد فعل يُذكر إذ كانت تعرف هذه المعلومات مسبقًا من كارم، لكنها لم تُعِر الأمر اهتمامًا يُذكر… للحقيقة لم يكن يعنيها مصير سارة أو تامر بقدر ما كانت تعنيها حياتها التي علقت بين الماضي والمجهول.
لطالما كانت عائلة “آل تهامي” رمزًا للنفوذ والقوة، فمن كان يتخيل أن تسقط هذه العائلة العريقة في فخ الإفلاس والضياع بسبب ثلاثمائة مليون دولار فقط؟
تناهى إلى سمعها صوت المطر وهو يرتطم بزجاج النافذة، لكنه لم يكن كافيًا لإخماد الضجيج الذي بدأ يعلو بداخلها.
وأخيرًا، نظرت إلى دينا مباشرة وسألتها بثبات يخلو من أي انفعال:
“ما الذي تريدين قوله بالضبط؟”
تسلّلت نظرة دينا نحو بطن سيرين في خفاء، ترمقها بعينين مترقبتين… وبالرغم من أن حمل سيرين لم يكن قد بدأ في الظهور بعد، لكنه كان هناك… كامناً، يضفي على الموقف ثقلاً إضافياً لم تستطع إنكاره.
قبضت سيرين أصابعها للحظة، وكأنها تستميت على أفكارها قبل أن تفلت منها.
لم تتعجل سيرين في الرد، بل تركت لحظة صامتة تمتد بينهما كوتر مشدود، قبل أن تنطق دينا بصوت بارد، يكاد يخلو من الانفعال:
“أخبريني، ما الذي يتطلبه الأمر لتتركي ظافر؟ حددي ثمنًا، وسأدفع لك ما تريدين.”
كلماتها سقطت كحجر ثقيل وسط بحيرة من التوتر… لم تكن مجرد اقتراح، بل صفقة مغلفة بالغطرسة.
ضحكت سيرين، ضحكة لم تخلُ من الاستهزاء وبدت على معالم وجهها دهشة مسلية ومن ثم رفعت حاجبها قليلاً وكأنها تزن عرض دينا في عقلها قبل أن تجيب بنبرة يشوبها بعض من اللؤم:
“لثلاث سنوات، بلغت قيمة أصولنا المشتركة عدة مليارات من الدولارات على الأقل… هل يمكنكِ أن تعرضي عليَّ هذا المبلغ؟”
كانت الكلمات تحمل يقينًا مفرطًا، ثقة امرأة تعرف تمامًا أين تقف، وتدرك جيدًا أن خصمها لا يملك ما يكفي ليزحزحها قيد أنملة.
في تلك اللحظة، بدا أن الهواء بينهما قد تجمد… جزت دينا على أسنانها، وامتلأت عيناها بشرارات غضبٍ مكبوت، لكنها لم تجد ما تردّ به إذ كانت النظرات الساخرة في عيني سيرين كفيلة بإشعال كل نيران القهر داخل غريمتها.
لم يكن المال يوماً سوى رقم في نظرها، مجرد تفصيلة هامشية في عالمها الفاره…
سيرين تهامي، الحفيدة المدللة لرجل كان يُلقّب يومًا بأغنى رجال رجال الأعمال… وبلا أدنى مبالغة كانت سيرين عما قريب تسير بخطى ثابتة فوق سجادة المجد التي حاكها لها جدها، تعيش في كنف الثراء كما تعيش الفراشة في ضوء الشمس، لا ترى في الدنيا سوى رفاهية مُطلقة، ولا تشعر بثقل الأيام كما يفعل البسطاء…
لكن الآن؟ الآن، لم تعد سوى امرأة على شفا الطلاق، امرأة لفظها زوجها ولم يعد يرغب بها… فكرة كهذه وحدها كانت كفيلة بأن تمنح دينا شعورًا غريبًا بالراحة وكأنها تنتقم دون أن ترفع سيفًا.
ابتسمت دينا بسخرية وهي تخترق صمت المكان كخنجر بارد:
“ليس لديكِ أدنى فكرة عمّن أرسلني للبحث عنكِ… السيدة شادية طلبت مني شخصيًا أن أخبركِ بأن المال ليس مشكلة، أبدًا… طالما أنكِ توافقين على الطلاق، يمكننا اعتباره مجرد صدقة.”
كلمة “صدقة” ارتطمت بجدران عقل سيرين كصفعة مدوية جعلتها تتراجع للحظة إلى الوراء، ليس بجسدها، بل بذكرياتها… كيف يمكن أن يكون هذا حقيقيًا؟ كيف تحوّل الأمر هكذا؟
لقد كانت شادية نفسها من رتّبت زواجها من ظافر، وكانت في ذلك الوقت تتحدث عن سيرين كأنها الجوهرة الوحيدة التي تستحق أن تتلألأ في تاج العائلة. كانت تقولها دائمًا…
“ظافر لا يليق به إلا فتاة من عائلة تهامي.” بل وأقسمت أنها ستعاملها كابنتها!
والآن؟ الآن تُرسل وسيطةً لتساومها على حُطام زواجها؟
في تلك اللحظة، أدركت سيرين أن هذه اللعبة يجب أن تنتهي ولكن هذه المرة بشروطها هي…
رفعت سيرين عينيها ببطء، ولم يكن في نبرتها أي تردد حين قالت:
“إذن… أحضري المال أولًا، ثم يمكننا الحديث.”
حتى دون أن تنتظر ردة الفعل، كانت تعلم جيدًا أن شادية لن تدفع قرشًا واحدًا… لن تبيع لها خروجًا مشرفًا بل ستتركها تغرق.
وعندما أدارت ظهرها لتغادر، سمعت صوت دينا يلاحقها كظلٍّ ثقيل:
“سوف تندمين على هذا.”
لكنها لم تتوقف، لم تلتفت، فقط ابتسمت بسخرية خفية… كأنها تقول:
“سأقرر بنفسي متى أندم، إن ندمت أصلًا.”
في عمق الليل، حينما كانت الظلمة تلتف حول المدينة كعباءة ثقيلة، انقطع صمت الغرفة برنين هاتفها.
تململت سيرين بين طيات الفراش تجاهد وعيها الثقيل، قبل أن تمد يدها المرتجفة لالتقاط الهاتف.
أضاءت الشاشة باسمٍ لم تكن تتوقعه، أو ربما كانت تخشاه… ظافر.
بأنامل مرتعشة، سحبت زر الرد، وما إن وضعت الهاتف على أذنها حتى تسلل إلى مسامعها صوته العميق، ذاك الصوت الذي لطالما حمل بين طبقاته برودة صقيعية لا تقل قسوة عن صمته حين كان يتعمد الغياب.
“لقد فكرت فيكِ كثيرًا، سيرين…” جاء صوته واهنًا، لكن به نبرة خفية كمن يلقي شِراكًا في ظلمة الليل.
“كم مليار دولار تريدين؟”
حدقت في الفراغ، كأنما الكلمات لم تصل عقلها بعد.
لوهلة، تخيلت أنها تهذي أو أن هذا الحلم مجرد امتداد لكوابيسها التي طاردتها طوال الأيام الماضية… لكنها لم تكن تحلم… كان الأمر يبدو حقيقيا بشكلٍ كافٍ ليزيد من آلامها وصوته الرخيم كان أكثر واقعية من الهواء الذي يملأ رئتيها.
قالها كأنها مزحة، أو ربما تحدٍّ، وكأن وجودها كله يمكن تسعيره برقم يوضع في حساب مصرفي.
ابتلعت ريقها بصعوبة، بينما أفلتت منها شهقة لم تستطع كبحها.
“لقد اختفيتِ لبضعة أيام، وهذا كل ما توصلتِ إليه.. أصبحتِ الآن طريدة دون مال؟”
سقطت كلماته عليها كقطرات جليد التي جمدت شيئًا ما في أعماقها.
كان يعرف أنها رحلت، وكان يعلم أنها لن تعود بسهولة… لكنه لم يكن هنا ليعتذر، أو ليسألها عن حالها. كان هنا ليضعها أمام اختباره الأبدي… اختبارٌ لم تكن واثقة إن كانت قادرة على خوضه هذه المرة.
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة.
لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع (روايات عالمية بنكهة عربية) أو متابعة صفحة الكاتبة على الفيس بوك (روايات أسماء حميدة)