الفصل 15
ما إن تسللت كلمات طارق إلى مسامع ظافر حتى شعر وكأن سهمًا مسمومًا قد اخترق صدره بغتة ناثرًا شظايا الألم في كل زاوية من روحه.
انتفض قلبه بين أضلاعه في نوبة هلع مفاجئة وتسارعت أنفاسه وكأن الهواء أصبح أثقل من أن يُستنشَق… ومن ثم تراجع خطوة إلى الوراء وكأن صدمة الخبر زعزعت توازنه، يتساءل بصوت مخنوق بالكاد يجد سبيلًا للخروج من بين شفتيه المرتجفتين:
“ماذا… ماذا قلت؟!”
ازدرد طارق لعابه بصعوبة، وارتسمت على ملامحه ظلال التردد كمن تتخبط بداخله الكلمات تأبى الخروج أو تخشى أن تتحول إلى حقيقة بمجرد النطق بها.
خفض عينيه وأطلق زفرة ثقيلة، قبل أن يهمس بصوت بالكاد يُسمع:
“لست متأكدًا… لكن عندما ذهبت إلى المشفى اليوم… أخبرني الأطباء أن سيرين… قد توفيت.”
ضربت الحقيقة رأس ظافر كصاعقة سقطت عليه من السماء حارقة كل خيوط الأمل التي تشبث بها.
شعر بكيانه يهوي إلى أسفل سافلين.. كحجر يسقط ببئر بلا قاع، وهناك باليسار ثقل مريع يسحق ضلوعه.
أخذ يردد بشكل جنوني كمن يهزي بكلمات غير مفهومة:
-لا… لا يمكن! بالأمس فقط كانت تضحك، تتحدث… كانت حية! كيف يمكن أن تُمحى هكذا من الوجود؟!
ارتجف جسده وهو يتقدّم خطوة مترنحة كأن الأرض فقدت صلابتها تحت قدميه فأصبحت كالهلام، ثم تمتم بصوت تائه، تحاصره دهشة العاجزين عن التصديق:
“كيف؟ ما الذي حدث؟!”
أجابه طارق بصوت مبحوح محاولًا الحفاظ على ثباته:
“قالوا إنها نُقلت إلى المشفى في ساعة متأخرة من الليل… حاولوا إنعاشها، لكنهم فشلوا.”
قبضت أنامل ظافر على حافة الطاولة كأنما تتشبث بحافة هاوية لا قرار لها.
أخذت عيناه تحدقان في الفراغ، ونبضه يتسارع، ثم، ودون أن ينطق بحرف انتزع معطفه وبخطوات متوترة غادر كعاصفة تائهة نحو المستشفى.
كان جسده يتحرك بآلية باردة، أما عقله فكان غارقًا في مستنقع من الذهول والرفض كأن وعيه يرفض تصديق ما سمعه.
داخل السيارة كان الصمت خانقًا، لكن رأسه لم يكفّ عن الضجيج… تلك الكلمات الأخيرة قد تسللت إلى أذنيه كهمس الموت.. بل كلعنة ترفض أن تخمد:
“السيد نصران… هل ستحزن إذا متّ؟”
عندها شعر ظافر بشيء يطبق على حنجرته، أنفاسه متقطعة كأنه يغرق في هواء معدوم.
مدّ يده المرتعشة نحو ياقة قميصه يعبث بأزراره بحثًا عن نسمة هواء تزيح هذا الثقل عن صدره لكن الاختناق ظل ينهش روحه بلا رحمة.
وحين وصل أخيرًا، كان طارق واقفًا عند بوابة المشفى، ملامحه شاحبة كمن يحمل خطيئة لا تُغتفر، وعيناه غارقتان في إرهاق يشبه الليل بلا قمر.
“أين هي؟”
خرج صوت ظافر أجوفًا كطعنة برد تخترق السكون.
التفت طارق نحوه ببطء، يخشى أن ينطق بالكلمة التي ستقلب عالمه رأسًا على عقب.
“الممرضات قلن إن شخصًا ما أخذها بالفعل… راجعت الكاميرات… كان كارم.”
تقلّصت ملامح ظافر، وانعقد حاجباه كمن تلقى صفعة أيقظته من كابوس ليدخل آخر أشد قسوة.
في هذه الأثناء التقط طارق هاتفه، مرّراً أصابعه فوق الشاشة، ثم عرضه أمامه.
“في منتصف الليل تقريبًا، أُحضرت سيرين إلى المستشفى… نزفت كثيرًا… ولم يتمكنوا من إنقاذها.”
الثانية عشرة!! … أي بعد وقت قصير من مغادرته!!
جمدت الفكرة عقله للحظات كطلقة اخترقت جمجمته، لكنه رفض التصديق.
وأسئلة لا إجابات لها تدور ككلاب مسعورة برأسه:
لا… هذا غير ممكن! كيف لها أن تموت هكذا… كيف يمكنها أن تفعل هذا بي؟ فقدان الدم؟ لماذا نزفت أصلًا؟
أخرج ظافر هاتفه من جيب منطاله وبمجرد أن لامست أنامله الهاتف، انطلقت أصابعه بخفة لا تخلو من التوتر فوق الشاشة، ينسج خيوط الاتصال بشبكته الخاصة باحثًا في ثنايا الظلام عن أي خيط قد يوصله إلى الحقيقة.
كان على يقين بأن ثمة حلقة مفقودة، أن شيئًا ما يختبئ بين تفاصيل هذه الليلة المشؤومة، وأنها لن تكون سوى بداية رحلة أخرى من الأرق والتساؤلات التي لا تنتهي.
طارق لم يكن أقل اضطرابًا، إذ راح يذرع المكان جيئة وذهابًا، خطواته المتعثرة كأنها تحاول أن تسابق أفكاره، أن تفرغ في الأرض بعضًا من ذلك القلق المتفاقم داخله… ومن ثم زفر بغضب، يقول وصوته يرتجف تحت وطأة الانفعال:
“كيف يمكن لشخص أن يموت بهذه الطريقة؟ اللعنة! ماذا فعل ظافر بسيرين هذه المرة؟!”
لكن ظافر لم يكن في وارد الإجابة… عيناه كانتا مسمرتين في الفراغ، عقله غارق في معادلة معقدة، لا وقت لديه للشرح أو التبرير.
التفت إلى طارق وحدّق فيه بثبات قبل أن يقطع صمته بصوت منخفض لكنه نافذ:
“ابقَ هنا… راقب الوضع في المشفى.”
ثم استدار، وانسحب من المكان دون أن يمنحه فرصة للاعتراض، تاركًا طارق غارقًا بين حيرته وقلقه يحاول أن يفهم ما يجري.
لم تمضِ سوى دقائق حتى بدأ موظفو المستشفى بتجميع التقارير الطبية الأخيرة لسيرين، أيدٍ مشغولة بأوراق تحمل بين طياتها أسرارًا قد تقلب الموازين.
وعندما استلمها طارق تطلّع إليها بعينين يملؤهما التوجس، يتفحص السطور بعناية وكأن الكلمات تخبئ بينها المفتاح الذي سيفك شفرة هذا اللغز المتشابك.
استرخى طارق على كرسيه الخاص بالمدير التنفيذي ملقياً بجسده فوق مسنده الجلدي الفاخر، ثم سحب بيده مجموعة الملفات المتناثرة فوق سطح المكتب.
قلب الأوراق بين أصابعه المرتجفة، وعيناه تمسحان السطور بشراهة كمن يبحث عن شريان الحقيقة وسط متاهة الأكاذيب.
كان يعلم أن سيرين نُقلت إلى المستشفى بعد محاولة انتحارها بتناول كمية مهولة من الحبوب المنومة…. كان هذا كل ما يعرفه حتى جاءت تلك الأوراق التي قلبت كل شيء رأسًا على عقب.
سطور السجلات الطبية كشفت عن مأساة كانت تتوارى خلف ابتسامتها المتكلفة.
سيرين لم تكن فقط في صراع مع أفكارها السوداوية، بل كان جسدها ذاته يعلن التمرد عليها… إذ كانت تعاني من صمم متفاقم أدى إلى نزيف متكرر من الأذنين، أمراض متغلغلة في أعماقها، وكأنها لعنة أبدية لا فكاك منها… أقلها الاكتئاب وتدهور الذاكرة والعقم… نعم، كانت عاقرًا، فكيف حملت إذًا؟!
جملة واحدة ترددت في رأسه كناقوس خطر: “العقم التام”.
كيف إذًا كانت تحمل طفلًا في أحشائها؟ سؤال أشبه بصندوق “باندورا” الملعون مجرد فتحه قد يطلق العنان لجحيم لم يتخيله يومًا.
لكن النهاية كانت مرسومة بدمائها… الاكتئاب الذي كانت تعانيه جعلها تتخلى عن مقاومتها لمتاعب الحياة، الحبوب التي ابتلعتها حد الجنون، الارتباك العقلي الذي دفعها إلى تمزيق معصمها بيدين مرتجفتين… نزيف، ثم غيبوبة، ثم موتٌ بطيء بارد، كشمعة انطفأت دون أن يلحظ أحد تراقص ضوئها للمرة الأخيرة.
طارق، الذي كان يظن أنه رأى كل شيء وجد نفسه محاصرًا بين الأوراق، يتسع أمامه الفراغ كمحيط شاسع بلا شط ولا قاع… عجز عن استيعاب الحقيقة، كأنها موجة اجتاحت روحه وأسقطته في ظلام لا شعاع ضوء به يكسر عتمته.
بجواره، لم يستطع محمود أن يتمالك نفسه فانهمرت دموعه في صمتٍ حارق، كأنها اعتذارٌ متأخر عن كل ما لاقته تلك الفتاة المسكينة… فكيف لقلبٍ صغير أن يحتمل كل هذا العذاب؟ كيف استطاعت أن تواجه كل هذه الأهوال وحدها؟
رفع رأسه المثقل بالندم وحدّق في طارق بعينين تضجان بالعتاب:
“طارق، قبل أربع سنوات… أنقذتك سيرين بروحها، كان ينبغي عليك أن تردّ لها الجميل بأي ثمن.”
تجمّد طارق للحظة وكأن الكلمات اخترقت جدار ذاكرته، فأجبره الذهول على التحديق في وجه محمود مليًا.
“عن أي شيء تتحدث؟! الشخص الذي أنقذني لم يكن… لم تكن هي!”
انعقد حاجبا محمود في ارتباك ثم تنهد وهو يخرج صورة من جيبه، ومن ثم مدّها إلى طارق بصمتٍ دام للحظات قبل أن يقول:
“لا، أنا متأكد. كانت هي… أتذكر ذلك بوضوح… أتذكر كيف نزفت بغزارة عندما اندفعت لإنقاذك، كيف غطّت الدماء ذراعها حين اخترقه الزجاج المكسور… هذه الصورة ستثبت لك كل شيء.”
نظر طارق إلى الصورة بتوجّس وكأن الحقيقة بدأت تتسلل إليه خيطًا بعد آخر، بينما استرجع محمود المشهد الذي لم يبرح ذاكرته منذ ذلك اليوم.
كانت سيرين مضرّجة بالدماء، لكن ملامحها لم تعرف للخوف طريقًا بل ظلت عيناها مركزتين على إنقاذ الأرواح التي تطايرت بين الحياة والموت… لم تهتم بجراحها، لم تذرف دمعة واحدة، لم تتراجع.
في ذلك الوقت، لم يكن محمود قد صار المخرج الذي هو عليه اليوم مجرد طبيب يحاول انتزاع الأرواح من قبضة الموت.
كان الحادث مروعًا، والضحايا كُثر، ولم يكن يعلم أن من بين المصابين وريث عائلة شومان، طارق!
لكن، حين نظر إلى وجه سيرين الملطّخ بالدماء، عرف أنها لم تفكّر للحظة في هوية من أنقذته لم تهتم إن كان شخصًا عاديًا أو وريثًا لإمبراطورية… كانت روحها مخلصة للإنسانية وهذا وحده ما كان يعنيها.
مرت السنوات، لكن صورة ذلك الوجه الشاحب المتوشّح بالعزيمة لم تفارقه… ظلّت الندبة شاهدة على كل شيء، نقشًا أبديًا على ذراعها، وطيفًا لا يمّحي من ذاكرته.
وبينما كان محمود يذكّره بتلك العلامة التي خلدت لحظة الإنقاذ انخفض نظر طارق إلى الصورة يمعن النظر فيها، وبدأت الحقيقة ترتسم أمامه ببطءٍ قاتل.
هناك، على الذراع النحيلة برز أثر الجرح الذي لم يختفِ تمامًا رغم مرور الزمن.
كانت الندبة شاحبة، لكن وجودها وحده كان كفيلًا بأن يضيّق صدره، أن يخنقه الشعور بالذنب، أن يجعل قلبه ينقبض كمن طُعِن بخنجر الغدر ولكن مَن غدر مَن؟! هو الغادر وهو أيضاً من يتألم.
لقد كانت هي… ولم يعرف ذلك إلا بعد فوات الأوان.
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة، لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة