رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل التاسع عشر

عشق لا يضاهى

الفصل 19

تناهت إلى مسامع ظافر همسات متفرقة تتردد بين الجيران امتزجت فيها نبرة الأسى بالحيرة كأنها نواح مكتوم يتسلل عبر الجدران: 

“المسكينة فاطمة… لم تُرزق يومًا بابنة، لكن الأقدار منحتها سيرين، فكانت لها الابنة التي لم تلدها، ثم انتُزعت منها كما انتُزع منها كل شيء.”** 

“أما كانت فتاة ذكية ومهذبة؟ كيف اختطفتها يد الموت بهذه العجلة؟” 

“الحياة وسط الأثرياء ليست كما يظنها الناس… آخر مرة رأيتها، كانت ظلًا باهتًا لفتاة، كأنها تمشي فوق خيط رفيع بين الحياة والفناء… نحيلة إلى درجة أن نسمة ريح كان بإمكانها أن تقتلعها من بيننا.” 

“كم تحدثت فاطمة وسيرين عن السعادة، عن زوج محب، عن حياة هانئة… لكنهما كانتا تكذبان، ربما حتى على نفسيهما… ثلاث سنوات مضت على زواجها، ولم يأتِ بها زوجها إلى هنا ولو مرة واحدة!” 

كان ظافر يستمع إلى كل ذلك، وصدره يضيق بغصة ثقيلة كأنها صخرة تهوي في بئر سحيق داخله… ورغم ذلك، انتظر… انتظر طوال اليوم، لكن لا فاطمة عادت، ولا سيرين.

اتكأ ظافر على كرسي خشبي محاولًا أن يغرق في غياهب النوم، لكنه لم يكن سوى شرك خادع، كمين مُحكم يقوده إلى فخ كابوس جديد.

جفناه أُسدِلا للحظات، لكنه سرعان ما انتفض كمن أُلقي في هاوية سحيقة.

ارتجف جسده كما لو كان يلفظ صقيع الموت، بينما حبات العرق انحدرت على جبينه كسيلٍ من الذكريات المُعذِّبة. 

مرة أخرى، طاردته الرؤيا ذاتها… موت سيرين… لكن هذه المرة لم يكن مجرد كابوس عابر بل حقيقة تتسلل إلى صدره، تكبّل أنفاسه، تزرع في رئتيه شوكًا لا يُقتلع. 

وعند العاشرة مساءً، كان حي فاطمة يعج باضطراب غريب وكأن الهواء ذاته قد تلبّسه الخوف.

اصطف الجيران في طوابير صامتة، يُقتادون واحدًا تلو الآخر نحو منزلها، ذلك البيت الذي كان يومًا ملاذًا دافئًا، لكنه الآن محاط بهالة قاتمة من الحراس الشخصيين، ببدلاتهم السوداء التي جعلت الجدران تبدو أضيق وكأنها تنكمش تحت وطأة الترقب. 

“أين هم؟” 

انطلقت الكلمات من فم ظافر كالسيف قاطعًا سكون القاعة كنذير بعاصفة وشيكة.

لم يكن أهل مقاطعة سان قد شهدوا مثل هذا الحدث من قبل؛ لذا التصقوا بمقاعدهم، رؤوسهم مُنحنية في خضوع، كأن كل واحد منهم يخشى أن يصبح الهدف التالي لتلك العيون المشتعلة بالغضب. 

بينما بدا ظافر المتربص في صدر المجلس كملك جائر في لحظة محاكمة… عينيه تضيقان بحذر وملامحه تتراوح بين الجمود الغامض والغضب المكتوم كبركان يتأهب للانفجار.

خرج صوت مبحوح من بين الحاضرين:

“قبل ليلتين، سمعتُ بكاء السيدة فاطمة… وعندما ذهبتُ للاطمئنان عليها، أخبرتني أن سيرين ماتت.” 

تردد الصدى بين الجدران المرهقة قبل أن يكسر الصمت شخص آخر: 

“موت فتاة شابة… أمر مؤلم… لقد أحرقوا جثتها في تلك الليلة، ثم دفنوها.” 

ضاقت عينا ظافر وتعمقت حلكتهما كأنما احتويا الليل نفسه. 

“وأين ذهبت فاطمة؟” 

لم يُجب أحد بل تبادلوا النظرات المرتبكة لكن لا إجابة، لا أثر، لا يقين. 

عاد السؤال بصوت ماهر هذه المرة عن مصير كارم… لكن الإجابات لم تختلف، كانت عيون الحاضرين تائهة تحمل ذات الذهول: 

“كان يتيمًا… ثم ذات يوم، جاء من أخذه بعيدًا… ولم يعد أبدًا.” 

في حضرة الظلام والمطر الغزير، حيث تنهمر السماء وكأنها تبكي بحرقة، كان الوقت يشير إلى الثانية عشرة وثلاث دقائق بعد منتصف الليل. وميض البرق يشق عتمة الليل، يتبعه دوي الرعد كصرخة غاضبة في فضاء الريف البعيد. الطرق الترابية غارقة في الوحل، تجعل السير عليها ضربًا من العذاب.

تردد صوت ماهر وسط العتمة وهو يسأل بتردد: 
“سيدي نصران، هل نذهب إلى المقبرة غدًا؟” 

كان الإرهاق ينهش جسده بعد الأيام الشاقة التي قضاها مؤخرًا، وكأنه بات على شفا الانهيار، لكن نظرة واحدة من ظافر كانت كفيلة بإخماد أي اعتراض داخله… تجمد ماهر بمكانه ثم أطاع بلا جدال حاملاً المظلة يتبع ظافر بخطوات حذرة فيما كان عقله يعج بالتساؤلات. 

لماذا؟ 

لم يكن هناك من يجهل أن ظافر لا يحمل أي مشاعر لسيرين… فلماذا إذن يستهلك كل هذا الوقت والجهد للبحث عنها؟ لماذا تبدو هذه الرحلة وكأنها مسألة حياة أو موت بالنسبة له؟ 

عندما وصلا إلى المقبرة كان المكان يغرق في سكون ثقيل… لم يتطلب الأمر أكثر من نظرة واحدة من ظافر حتى يرصد القبر الجديد الوحيد على قمة التل.

انقبض قلبه، وتوقفت خطواته، حدّق به طويلًا، وكأنه يراه للمرة الأولى، ثم بصوت أشبه بالهمس لكنه يحمل أمرًا لا يقبل النقاش، قال: 

“احفروا!” 

لم يكن لديه خيار آخر. إن كانت سيرين على قيد الحياة، أراد أن يجدها. وإن كانت ميتة… أراد أن يراها بعينيه… لن يسمح لعقله بتصديق رحيلها حتى يواجه الحقيقة وجهًا لوجه. 

كان الهواء يثقل صدورهم وهم ينفذون الأمر، ظافر، بوجهه الخالي من أي تعبير أخذ يراقب بصمت القبر الذي يُنتزع شيئًا فشيئًا، لم يكن قلبه في مثل هذا الاضطراب من قبل، يدق بعنف، وكأنه يحاول الفرار من قفصه الصدري.

وأخيرًا، جاءه أحد الحراس يحمل بين يديه جرة رماد. 

“ها هو، سيد نصران.” 

في الظلام، لم يكن أحد يستطيع رؤية ملامحه بوضوح، لكنه استقام في مكانه، وصوته خرج واهيًا لكنه قاطع: 

“أعيدوا القبر كما كان.” 

طوال الطريق إلى المنزل، غلفه صمت مخيف. ظافر لم يكن من النوع الذي يكبح مشاعره، لكنه في تلك الليلة كان أشبه بشبح فقد بوصلته، حينها لم يستطع أحد منهم أن يحدد ما إذا كان حزينًا، غاضبًا، أو ربما… مكسورًا. 

ليالٍ طويلة مضت، ولم يعرف للراحة سبيلًا… لم ينم… لم يغمض له جفن. 

والآن، وهو مستند برأسه إلى مقعد السيارة، لم يشعر بالتعب كما ينبغي… عيناه كانتا معلقتين على المدينة التي شهدت نشأتها، المباني، الشوارع، الأرصفة… كل شيء يذكره بها، تردد صوتها في أذنه وكأنها تقف بجانبه، هامسةً كما اعتادت: 

“ظافر، هل يمكن أن تعانقني؟ أشعر بالبرد…” 

“سيد نصران، هل ستحزن إن متُّ؟” 

“الحقيقة أنني… كنت فقط أتمنى أن تكون سعيدًا.” 

شعر بشيءٍ غريب يجتاح جسده، الألم الذي بدأ في صدره تسرّب ببطء إلى روحه، لكن أحدًا لم يرَ عيناه المحمرتين المنعكستين على زجاج نافذة السيارة. 

في هذا العالم، لا أحد يموت من أجل أحد، لا أحد يُفترض به أن يكون غير قادر على الحياة دون شخصٍ آخر. 

لكن الحقيقة القاسية… أن هذه القاعدة لم تنطبق على ظافر نصران. 

عندما عاد حاملاً رمادها، لم يكن هناك شك لدى الجميع أن سيرين رحلت حتى بعد العثور على كارم لم يتغير شيء.

ذرفوا بعض الدموع، تحسروا قليلًا، ثم واصلوا حياتهم. 

الجميع… إلا ظافر.

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top