رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل الواحد والعشرون

عشق لا يضاهى

الفصل 21

أحاط طارق رأسه بكفيه، وأطلق صرخة بدت كأنها آتية من أعماق روحه كمن يحاول انتزاع وجع متغلغل في ضلوعه. 

وعلى الجانب الآخر من الغرفة، وقف ماهر متوتراً، حاجباه منعقدان في قلق، وسأل بصوت مرتبك: 

“سيد طارق… ما الأمر؟” 

رفع طارق رأسه ببطء كالعائد من غيبوبة فكرية وعيناه تائهتان قبل أن تستقرّا على ماهر.

تنهد وكأن الهواء نفسه صار عبئًا على رئتيه، ثم قال بصوت حادّ لكنه يحمل في أعماقه مرارة دفينة: 

“دعني أسألك سؤالاً يا ماهر… لنفترض أن شخصًا ما أنقذ حياتك لكنك لم تدرك ذلك بل تعاملت معه بقسوة وجفاء… تُرى، لماذا لم يخبرك هذا المنقذ أنه هو من أنقذك؟ لماذا تركك تجهله رغم أنك لم تكن لتعامله بتلك الطريقة لو كنت تعرف؟” 

صمت ماهر للحظة وعقله شارداً يحاول فك خيوط السؤال المتشابكة، ثم قال متأملاً: 

“الأمر ليس معقدًا، بل بسيط في حقيقته… ربما كان هناك سببان. الأول، أنها كانت تظن أنني أعرف بالفعل من أنقذني، لكنها لم تسمعني أذكر الأمر أبدًا فظنتني جاحدًا ولا جدوى حينها من الاعتراف.” 

توقف للحظة وكأن عقله يغوص أعمق في دوامة الاحتمالات، ثم تابع: 

“أما السبب الثاني… فقد تكون لم تعتقد أن إنقاذي كان أمرًا يستحق الذكر من الأساس، وكأنه تفصيلة عابرة في مجرى الحياة، لا تستحق أن تُروى.” 

كلمات ماهر تسللت إلى وعي طارق كالمطر على أرض متشققة، وجعلته يدرك شيئًا لم يكن يراه من قبل…

**سيرين لم تتحدث يومًا عن الأشياء التي فعلتها لأجل ظافر ولا لأي شخص آخر على مر السنين.

لم تسعَ يومًا وراء الفخر أو الاعتراف وكأن الخير الذي تصنعه يُمحى لديها فور حدوثه كقطرات ماء تتلاشى في محيط الصمت.** 

شعر طارق بغصة حارقة في حلقه وكأنما إبرة طويلة انغرست هناك تمنعه حتى من ابتلاع مرارته.
 
بمجرد أن وطئت قدماه أرض المدينة، اجتاحت ذاكرته رائحة الماضي، كأن نسائمها كانت تنتظر عودته لتبعثر ما حاول جمعه من أشلاء النسيان. عيناه تجوّلتا في المكان كمن يبحث عن شبحٍ ظنه دفينَ الزمن، حتى ارتطمتا بذلك الوجه… مألوفٌ حدَّ الوجع، لكنه متشحٌ بهالةٍ من الغربة، كأنه انعكاسٌ باهت لصورة قديمة فقدت بريقها. 

في قلب الفناء، وقفت دينا، ثابتةً كتمثال نُحِت من صبرٍ طويل، وكأن السنوات لم تترك بصماتها عليها، كأنها لم تذق مرارة الفقد، ولم تلوّح لها الأيام بخناجر الخيانة. 

“طارق… لقد عدت.” 

كان صوتها ناعمًا، لكنه تقاطر على مسامعه كقطرات المطر الأولى بعد جفافٍ قاسٍ، لا يدري إن كان يحمل وعدًا بالارتواء أم تهديدًا بطوفانٍ لا خلاص منه. 

نهضت برشاقة، وكأنها نسمةُ فجرٍ تتهادى على استحياء، وتقدّمت نحوه. عيناه ظلّتا عالقتين بها، يتأملانها كغريبٍ يحدّق في مرآته لأول مرة بعد سنين… الملامح ذاتها، لكن روحها؟ كأنها أخرى، كأنها لوحةٌ أُعيد رسمها بألوانٍ باهتة. 

توقّفت أمامه، لم تتردد لحظةً وهي تمدُّ يديها بألفةٍ مصطنعة، لتعيد ترتيب أزرار قميصه بحركة واثقة، كأنها تحفظ تفاصيله أكثر مما يحفظها هو نفسه، كأن يديها اعتادتا عليه أكثر من قلبها. 

“كم مرةً أخبرتك أن تهتم بمظهرك؟ دائمًا مُهملٌ كطفلٍ شارد!” 

قالتها بنبرةٍ ناعمة، توبيخٌ مغلفٌ بحنانٍ قديم، لكن طارق لم يُمهلها الفرصة لتتغلغل أكثر، أبعد يديها ببرود، كمن يقطع خيطًا واهيًا يوشك أن يلتف حول عنقه. 

“ماذا تريدين، دينا؟” 

خرجت كلماته باردة، كأنها وُلدت في قلب شتاءٍ جاف، بلا دفء، بلا انتظارٍ لأي إجابة…

كان طارق يدرك يقينًا أن دينا لا تتودّد إلا إذا كانت تبتغي شيئًا، فلطالما كان الحنان في قاموسها سلاحًا، لا طبعًا. كانت تعرف جيدًا كيف ترسم ملامح اللطف على وجهها، وكيف تلوّن صوتها بنبرة دافئة، لكنها لم تخدعه يومًا. كان يقرأ نواياها كما يقرأ كتابًا مفتوحًا، ويتلمّس خلف كلماتها الخيوط الدقيقة التي تحيك بها مكائدها. 

لم تلحظ دينا التبدّل الطفيف في نبرته، ذلك البرود الذي تسلّل إليها كنسيم بارد يسبق العاصفة، بل مضت في حديثها مباشرةً، دون مواربة، وكأنها تقذف حجارتها في بركة راكدة لترى ما سيطفو على السطح. 

“سمعتُ أن ظافر ذهب للبحث عن سيرين… ماذا حدث؟” 

رفع عينيه إليها، متفرسًا في ملامحها كما لو كان ينقّب عن الحقيقة خلف تلك البراءة المصطنعة التي ترتديها كقناع شفّاف. كانت ابتسامتها رقيقة، لكنها لم تكن سوى ستار يخفي خلفه نصلًا مسمومًا، حادًا بما يكفي ليترك جرحًا دون أن يسيل منه الدم. 

“سيرين ماتت منذ زمن… ألم أخبرك بذلك من قبل؟ ما الذي تخشينه الآن؟” 

توسّعت عيناها للحظة، كأنما باغتها وقع كلماته، لكن سرعان ما استعادت رباطة جأشها، تخلط الذهول بالتماسك في مزيج متقن الصنع، قبل أن تقول بنبرة حاولت أن تكسوها باللامبالاة: 

“كنت فقط فضولية… عائلة تهامي قدّمت لي الكثير في الماضي. صحيح أن سيرين لم تكن تحبني، لكنها لم تؤذني قط… كنت فقط أشعر بالامتنان لهم.” 

قالتها، وهي تزيّن كلماتها بابتسامة هادئة، لكنها كانت تدرك جيدًا أن طارق ليس ممّن تنطلي عليهم الألاعيب.

كان يراها بوضوح، كما يرى الذئب أثر أقدام الصياد في الثلج.

امتنان؟! 
لم يكن طارق يذكر يومًا أن دينا شعرت بالامتنان لأحد، ناهيك عن أن يكون ذلك الامتنان موجّهًا لعائلة تهامي! 

لكنّه آثر الصمت، تظاهر بتجاهل كذبها، ثم نزع سترته ببطء، كمن يُلقي عن كاهله ثقلًا غير مرئي، سلّمها لمدبرة المنزل، والتفت إليها بعينين تخلوان من أي انفعال، قبل أن ينطق بصوتٍ هادئٍ كهدوء العاصفة قبل أن تضرب: 

“جدي طلب مني قلادة الكريستال التذكارية… أعيديها لي، وسأمنحكِ شيئًا آخر بدلًا عنها.” 

ما إن تسللت كلماته إلى مسامعها، حتى لمح تلك الومضة الخاطفة التي عبرت عينيها، كبرقٍ فضح عاصفةً على وشك الاجتياح. اتسعت حدقتاها لوهلة، قبل أن يعبر وجهها شحوبٌ خفيفٌ، وسرعان ما غطّته بعبوسٍ متقن: 

“آسفة، لقد فقدتها.” 

تكذب. 

لم يكن بحاجة إلى دليل… كذبها لم يكن مجرد كلماتٍ فارغة، بل كان شيئًا محسوسًا، يملأ الهواء بينهما كدخانٍ ثقيل، يكاد يراه، يلمسه، يشمّ رائحته النفاذة. لكنه لم يُفصح عن شيء… اكتفى بالصمت، مراقبًا، مترقبًا… أراد فقط أن يرى إلى أي مدى تستطيع الاستمرار في تمثيليتها. 

— 

في ذلك المساء، غادرت دينا القصر وحدها. جلست في سيارتها، وأسندت رأسها إلى المقعد، إلا أن شيئًا باردًا تسلّل تحت جلدها، زحف كالأفعى، ترك أثره على عمودها الفقري، فأجبرها على أن تهمس لنفسها، وكأنها تخشى أن يُسمع صوتها حتى في الخواء: 

“ماتت بالفعل… لماذا لا تزال تلاحقني حتى الآن؟ لماذا لم يخبرني طارق أنه يريد القلادة؟” 

عضّت على شفتها، وكأنها تحاول منع شيءٍ ما من الانفلات… ربما شهقة، ربما اعتراف، وربما كانت تحاول فقط إقناع نفسها بأنها لا تشعر بالخوف. لكن القدر أبى إلا أن يمنحها إجابة قاسية. 

شقّت السماء صاعقةٌ خاطفة، أضاءت الأفق بلونٍ أبيض ناصع، أعقبها دويّ رعدٍ قوي، كأنه زئيرُ وحشٍ غاضب، جعل قلبها يقفز داخل صدرها. شهقت لا إراديًا، وقبل أن تهدأ أنفاسها، ارتفع طرف حاجبها بدهشة وهي تنظر من نافذة السيارة… المشهد الذي رأته جعل الدم يتجمّد في عروقها. 

مبنى مألوف… لكنه لم يكن كما اعتادته. كان ينهار. 

اتسعت عيناها بصدمةٍ، وهي تهتف بلهفة: “سائق، أليس هذا المبنى التاريخي لعائلة تهامي؟ لماذا يتم هدمه؟!” 

ألقى السائق نظرةً سريعة، ثم عاد ببصره إلى الأمام، وأجاب ببرودٍ لا يليق بجسامة المشهد: “ظافر أمر بهدم جميع ممتلكات عائلة تهامي وإعادة بنائها.” 

لم يكن هناك من يعرف السبب الحقيقي وراء قراره… لا الطبقة العليا، ولا العامة، ولا حتى أقرب المقرّبين. لكن الجميع تساءلوا همسًا: 

هل ضاق ظافر ذرعًا بالماضي؟ أم أنه قرّر دفنه إلى الأبد؟ أو ربما لم يجد سبيلاً ما ينفق به أمواله الطائلة فظل يعبث بلا هدى يهدم ويصلح كمن فقد عقله؟!


وقف طارق في الطابق العلوي من المبنى المقابل، يرقب الغبار وهو يتصاعد نحو السماء، كأن المدينة تتنفس للمرة الأخيرة قبل أن تبتلع وجعها. كان المشهد أقرب إلى جنازة… لا، بل كان جنازة حقيقية، لكن الميت ليس شخصًا بل ماضٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت الركام يودّع الدنيا دون عزاء، دون شاهد، سوى عينين متسعتين برعب الفقد. 

ظل واقفًا، كأن قدميه قد تجذرتا في الأرض، عاجزًا عن التقدم، غير قادر على التراجع. للحظة، شعر أن الزمن نفسه قد توقف، كساعة تحطمت عقاربها فجأة.

ثم بعد صمت ثقيل، تسلل صوته كأنما ينتمي إلى عالم آخر، هامسًا بالكاد: 

“ظافر… لماذا تفعل هذا؟” 

لكن ظافر، على بعد أمتار قليلة، لم يتحرك. لم ينبس ببنت شفة.

فقط أغمض عينيه، كما لو كان يصغي إلى وشوشة الموتى، أو لعله كان يحاول إخماد النيران التي تتراقص في صدره، تتغذى على الغضب، على الخيانة، على الألم الذي صار جزءًا من جلده. 

لم يستطع طارق أن يصمت أكثر، فاندفع صوته ليشق السكون، كحجر يُلقى في بئر عميقة: 

“ظافر، الحادث لم يكن لسيرين يدٌ فيه… والدتها وأخوها هما من دبّرا كل شيء—” 

لكن الكلمات، مهما كانت صادقة، لم تعد تجد طريقها إليه. فقد سحقها الركام كما سُحقت الذكريات ودفنتها الأنقاض كما يُدفن الأمل.

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top