الفصل 23
كانت كلمات السكرتيرات تتراقص في الأجواء حين مرّ ماهر بالمكتب، فالتقطها سمعه كصياد محترف يعرف كيف يميّز الإشارات وسط الضجيج. لم يكن من هواة التدخل في شؤون الآخرين، لكن عيناه اللتين تمرّستا على قراءة تعابير ظافر ككتاب مفتوح، لم تستطيعا أن تتجاهلا ما يحدث.
ظافر… ذلك الرجل الذي صار شبحًا لا يهدأ، يطارد أثرًا غامضًا في الظلال. لم يكن عمله مجرد إدارة الشركات وإبرام الصفقات؛ بل باتت أيامه سلسلة متواصلة من البحث المحموم عن سيرين، وفي الوقت نفسه، حربًا صامتة على إمبراطورية كارم. بالنسبة لماهر، لم يكن هذا هوسًا انتقاميًا فحسب، بل كان شيئًا أعمق، شيئًا ينبض بألم لا يُقال، وكبرياء جريح يرفض الاعتراف بالخسارة.
مرت الأيام، كأنها تنسلّ من بين يديه كالرمل، لكنه لم يتعب، لم يتراجع، لم يفقد شغفه المحموم بالبحث.
في ليلة رأس السنة الجديدة، حينما احتضنت السماء المدينة بوشاح من الثلج، كان المكان يلمع بأنوار الاحتفال، لكن داخله، كان ظافر يغرق في ظلام صمته. في السنوات الماضية، لم تكن ليلة رأس السنة تكتمل دون أن تذهب سيرين معه إلى قصر آل نصران. أما الآن، فقد ذهب وحده، كظلّ بلا روح، كطائر فقد جناحه الأيسر.
لم يعد يمزح، لم يعد يتحدث بحيوية كما كان يفعل في حضورها. تحوّل إلى كيان بارد، عازل بينه وبين العالم جدار من صقيع، يُلقي التحيات باقتضاب، يدخل ويخرج كأنما تحمله الرياح. لم يعد المكان كما كان، ولا الناس كما كانوا، أو ربما لم يعد هو نفسه كما كان.
خارج القصر، كانت الثلوج تتراكم في صمت، تكسو الطرقات ببياض ناصع، مشهد ساحر كلوحة من وحي الأساطير. لكن بالنسبة لظافر، كان هناك شيء ناقص، شيء لا يراه الناس، لكنه يحسّه يتردد كصدى في صدره.
في مهب الذكرى ودوامة الضياع
وقف أمام النافذة العملاقة التي تمتد من الأرض إلى السقف، جبهته تستند إلى الزجاج البارد كأنما يحاول امتصاص شيء من صلابته.
كانت عيناه تحدقان في الثلج المتساقط، لكنه لم يكن يراه حقًا… بل كان يغوص في دوامة من الذكريات، بينما أنامله العابثة تواري أثر سيجارةٍ لم تكد تذوي حتى أشعل أخرى، وكأن الدخان وحده قادر على ملء الفراغ الرابض في صدره.
همس بصوتٍ خرج كصفير الريح بين أضلعٍ خاوية، يقطر وعيدًا ومرارةً كدمعةٍ لم تجد طريقها للسقوط:
“سيرين… من الأفضل لكِ أن تأملي ألا أجدك!”
لم يقطع صمته سوى صوت الباب وهو يُفتح ببطء، فتراجع بصره عن بياض الثلج ليقع على شادية وهي تخطو إلى الداخل. كانت ترتدي معطفًا يليق بأجواء الليل الباردة، لكن عيناها فقط هما ما حمل الدفء وسط كل هذا الصقيع.
اقتربت منه بخطواتٍ وئيدة، ثم قالت بصوتٍ مشوبٍ بالحيرة والقلق:
— “ظافر، ما الذي حدث لك؟ أشعر وكأنك شخصٌ آخر منذ أن رحلت سيرين…”
في نبرتها رجاء، لكنه لم يكن معنيًا بالاستجابة، لم يتغير… هو فقط أزاح القناع الذي كان يخفي جحيمه الداخلي.
أردفت شادية، وعيناها تتابعان ملامحه المتجمدة في قسوتها:
— “لا تقل لي أنك أحببتها؟ لكنها… رحلت الآن.”
رفع عينيه أخيرًا لينظر إليها، لكن النظرة التي ألقاها لم تكن سوى ظلٍّ باهتٍ للرجل الذي عرفته.
شفتاه انعطفتا في شبه ابتسامةٍ مشوبةٍ بالازدراء وكأن ما قالته لا يستحق حتى أن يُناقش.
— “إنها لا تستحق!”
خرجت كلماته كالسوط، حادةً، قاطعةً، لا مجال فيها لأي تأويل.
فتحت شادية فمها لترد، لكنها توقفت عندما رفع يده آمرًا إياها بالمغادرة. عرفت أنه لم يعد هناك ما يُقال، فاستدارت لتخرج، لكن ظلها بقي يطوف في الأرجاء حتى بعد أن غادر جسدها.
بقي وحده… كما كان دومًا، وكما سيظل، ومن ثم رمى بجسده فوق الأريكة يسكب شرابه في محاولة جدباء كي يُغرق نيرانًا لن تخمد.
لم يدرِ كم كأسًا شرب، ولا متى بدأ العالم حوله يترنح، كل ما شعر به هو البرد… بردٌ لا علاقة له بحرارة المدفأة التي تشتعل أمامه.
ثم همس وكأنما يستجدي طيفها:
— “سيرين… آه، سيرين…”
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل حين دوّى صوت المنبه وكأنه يدعوه للعودة إلى الواقع الذي طالما تهرّب منه.
فتح عينيه بصعوبة، يتلمس الهواء من حوله… للحظة، كان متأكدًا أنه رآها، أنها هنا، أن أصابعها الباردة قد لامست وجهه، أن أنفاسها قد خالطت أنفاسه.
مدّ يده نحوها بجنون، لكن… لا شيء، كانت قد اختفت، تمامًا كما اختفت من حياته.
في تلك اللحظة، كان الليل قد أسدل ستائره على المدينة لكن النوم استعصى على طارق أيضاً وكأن الأرق قد اتخذ من جفنيه وطنًا. هاتفه لم يكف عن الرنين، باسم دينا الذي يتوهج على شاشته كوميض خاطف يقتحم عزلته، يتكرر بلا هوادة كنداء يرفض أن يخبو.
وحين تجاهل الرد انهالت عليه الرسائل كلماتها تتكاثر كأمواج غاضبة ترتطم بصخور صمته لكنه لم يعبأ.
بلا تردد مد يده وأغلق الهاتف وكأنه يحاول أن يغلق معه بوابة ضجيج لم يعد يحتمله.
ثم من جيب سترته الداخلي أخرج قلادة الكريستال—تلك القطعة الصغيرة التي لم تفارقه يومًا كشريان خفي يصل بينه وبين ماضٍ يحاول الفرار منه دون جدوى.
أمسكها بقوة، كمن يتمسك بظل ذكرى توشك على التلاشي.
مرر أنامله عليها ببطء بحركة تشبه همس الريح فوق سطح ماء ساكن، يستعيد عبر ملمسها دفءَ أصابعها التي حوتها ذات مساء بعيد.
في مطار أثينا، بعد أربع سنوات…
برز ثلاثة أشخاص وسط الحشود، رجل وامرأة يافعان، وبينهما صبي صغير يحمل على ملامحه وقاره الصغير.
كانت الفتاة تسير بخطوات هادئة، وقد ثبتت شعرها إلى الخلف بمشبك بسيط تتراقص منه بضع خصلات ناعمة كأنها تعاند النسيم الذي يمر على استحياء، وفي أذنيها استقرت سماعة وكأنها تحاول أن تعزل نفسها عن صخب العالم أو ربما العكس من يدري؟ .
لكن الجمال في وجهها لم يكن مجرد ملامح منحوتة بإتقان، بل كان يكمن في عينيها المتألقتين عميقتي البريق اللتان تحملان ألف قصة لم تُروَ بعد، ومع ذلك كان هناك ظل ثقيل من الحزن يختبئ خلف لمعانهما كأنهما نافذتان تطلان على قلب مرهق بحكايات لا تناسب عمرها.
إلى جوارها جلس صبي لم يتجاوز الثالثة من عمره، غير أن وقاره وفطتنته كانا أكبر من سنواته الضئيلة.
كان الصبي يرتدي ملابس بسيطة لكنها أضفت عليه هيبة صامتة، كأنها رداء ملك صغير نُفي عن عرشه، وبين يديه جريدة مالية يتفحص صفحاتها بجدية لا تليق إلا برجل يخطط لمستقبله لا بطفل ما زال يتعلم أبجديات الحياة.
وعلى الجانب الآخر منه،ذ جلست فاطمة، وقد نالت السنوات منها بعض الشيء إلا أن نظرة الحنان في عينيها ظلت كما هي ثابتة كأنها ملاذ دافئ لا يتغير.
رفعت سيرين عينيها إلى الساعة ثم مالت برأسها نحو الصغير ومسحت على شعره بحنو، تقول:
“لقد حان الوقت تقريبًا زاك. كن مطيعًا لجدتك، حسنًا؟”
أخفض زكريا الجريدة ببطء، وعيناه تمران سريعًا على الصورة التي تتصدر إحدى الصفحات… صورة ظافر، تحركت أصابعه الصغيرة ليطوي الجريدة برفق ثم رفع رأسه إليها، وقال بصوت هادئ لكنه مفعم بالجديّة:
“سأفعل.”
لم يكن سوى طفل في الثالثة لكنه كان يتحدث بثقة رجل اعتاد أن يحمل الأعباء على كتفيه دون تذمر.
حدّقت سيرين في عينيه للحظة وكأنها ترى انعكاس ظافر في ملامحه، نفس النظرة، نفس الثبات، حتى الصمت بين كلماته كان يشبهه.
مدّت ذراعيها لتعانقه، ترددها كان واضحًا، كأنها تحاول أن تختزن دفء حضنه قبل أن تبتعد، ومن ثم أردفت تقول بهمس:
“اعتنِ بأخيك الصغير أيضًا.”
ربّتت فاطمة على كتفها بلطف، قائلة بابتسامة مطمئنة:
“لا تقلقي، سأعتني بهذين الشقيين.”
أومأت سيرين بينما أناملها ما زالت متشبثة بالحقيبة، وكأنها تحاول تأجيل الرحيل.
ثم ببطء سحبت الحقيبة خلفها ومضت نحو الطائرة المتجهة إلى المدينة، تاركة خلفها قلبًا صغيرًا يحمل ملامح رجل وعينين تترقبان عودتها بشوق.