الفصل 42
بعد أن انتهى زكريا من الاستحمام ارتدى ملابسه على عجل، وخرج من الحمام بخطوات ثقيلة، يتجنب النظر إلى عينا كوثر وكأن لقاء نظراتهما سيشعل معركة استنزافية هو ليس مستعدًا لها بعد.
شق الصغير طريقه إلى غرفته بصمت لكنه كان يعلم أن هذه الليلة لن تمر كأي ليلة أخرى، وأن كوثر قد ألقت أولى شِباكها عليه لتعرف مخططاته وأسباب مجيئه إلى المدينة بتلك الطريقة، والآن… لم يعد متأكدًا إن كان قادرًا على الإفلات منها.
في تلك الليلة، كان قصر آل نصران يغرق في هدوء ثقيل لا يقطعه سوى أصداء خافتة لأقدام الخدم وهي تتلاشى في الممرات.
في مكتب فخم جلس ظافر نصران، وألسنة اللهب تتراقص في المدفأة تلقي ظلالًا كالأشباح على ملامحه الصارمة، أمامه على شاشة هاتفه استقرت رسالة مختصرة من حارسه الشخصي تخبره بأن سيرين قد أنهت عشاءها وعادت إلى القصر.
رفع ظافر نظره عن الهاتف، ولم يبدُ عليه أي انفعال كأن الخبر لم يكن سوى موجة عابرة في بحر هدوئه المتلاطم، لكن في داخله كانت هناك عاصفة لم يدرِ إن كانت غضباً أم حنين أم شيء آخر يأبى أن يسميه.
وفي قاعة الطعام حيث كانت الأضواء الذهبية تبعث دفئًا زائفًا جلست كلاً من شادية ودينا تتبادلان النظرات؛ فمنذ لحظة دخول ظافر لاحظت كلتاهما شروده، وذلك الصمت الذي كان يتحدث أكثر من أي كلمات.
**”دينا، طالما أنك هنا اليوم، لمَ لا تمكثين الليلة؟ سيعود عدنان غدًا، وهو يريد رؤيتك”
** اقترحت شادية بنبرة توحي بأنها أكثر من مجرد دعوة.
عدنان نصران الرجل الذي كان يومًا أسطورة في عالم المال والنفوذ لكنه لم يكن سوى صياد ماهر في غابة النساء، ورغم سنواته التي تراكمت على كتفيه لم يكن قد فقد شهيته للمغامرات.
ارتسمت ابتسامة على شفتي دينا، لكنها مصطنعة لم تصل إلى عينيها، تقول
“بالتأكيد.”
أما ظافر فقد بدا وكأنه في عالم آخر يتناول بضع لقيمات بلا اهتمام، ثم دفع كرسيه للخلف ونهض بعزم صامت.
“ظافر، إلى أين تذهب؟” سألت شادية محاولة أن تخفي قلقها خلف ستار من البرود.
“البيت.”
كلمة واحدة لكنها إسقاط لمعنى كامل. وعلى إثرها شهقت شادية بدهشة حالما أدركت ما لم يوضحه ظافر بالكلمات.
ظافر كان يقصد القصر الذي جمعه بسيرين ذاك المكان الذي كان يومًا عشًا جمعهما قبل أن يتحول إلى قوقعة خاوية. كيف لا يزال يعتبره “البيت”؟
حاولت أن تثنيه:
“ابقَ هنا الليلة، سيعود عدنان غدًا، ويمكننا مناقشة زواجك من دينا معًا.”
توقف للحظة ومن ثم رمقها بنظرة باردة كخنجر مغموس في الجليد، مردفاً بحزم:
“لم أطلَّق بعد… عن أي زواج تتحدثين؟”
خفق قلب شادية بقوة وابتلعت ريقها بصعوبة، أما دينا فلم يتغير تعبير وجهها، لكن أصابعها كانت قد التفت حول الشوكة بقوة تكاد تكسرها… سنوات… سنوات طويلة مرت على موت سيرين فهل يهم حقًا إن كانا مطلقين أم لا؟
وحين استدار ليغادر لحقت به صدى خطوات يتبع أثره.
“ظافر!”
توقف ظافر لكنه لم يلتفت، فاقتربت منه صاحبة الصوت، ونبرتها المنخفضة تسرب إليه رجاء يخفي قباحة نفسها:
“هل أخطأت في شيء؟ لماذا لا تقبلني حتى الآن؟” همست دينا وكأنها تحاول أن تتسلل إلى قلبه المغلق… وعندما لم يأتها رد، استكملت باستعطاف مبتزل:
“لقد انتظرتك لثماني سنوات، منذ زواجك بسيرين وحتى الآن كنت أخشى أنني لست جيدة بما يكفي لك لذا عملت على نفسي… استغرقني الأمر وقتًا طويلًا حتى أصل إلى ما أنا عليه وأقترب منك مجددًا.”
مدت دينا يديها لتطوق عنقه في مشهد إغواء سخيف لكن جسده انساب بعيدًا عنها كأنه ماء لا يُمسك.
تجمدت في مكانها ونظرتها التي كانت تفوح بلهفة كاذبة تحولت إلى صدمة، أو شيء آخر أكثر قتامة، وقبل أن تتمكن من استجماع نفسها جاءها صوته باردًا كريح ليلية تهب فوق الأطلال:
“هل سبق أن منعتُ عنكِ أي شيء مما طلبته على مدار هذه السنوات؟ اكتفي بما لديكِ، وارضِ.”
ثم غادر ومن استقل سيارته وانطلق تاركًا إياها وحدها في العتمة تقف كتمثال تآكله الزمن تراقب أضواء السيارة وهي تختفي في الظلام.
لكن خلف تلك الملامح المتجمدة كانت نيرانها تشتعل… طمعًا، غيظًا، وربما… شيئًا آخر لا يزال ينمو في الظل.
في اللحظة ذاتها خرجت شادية من القصر عيناها تنطقان بالبرود كريحٍ شتويةٍ قاسية، ومن ثم وقفت أمام دينا تأملتها بنظرةٍ تخلو من أي تعاطف ثم مالت برأسها قليلًا وكأنها تُجهِّز سهمًا مسمومًا لإطلاقه دون رحمة.
قالت بصوتٍ يحمل سخريةً لاذعة:
— “أربع سنواتٍ مضت… يوم جئتِ إليّ تحملين بين يديكِ تقريرًا طبيًا، متوهمةً أنكِ ستُنجِبين أول حفيدٍ لعائلة نصران خلال عام! لم أكن لأسْمَح لممثلةٍ مثلكِ بالاقتراب من ظافر لولا هذا الوهم الساذج. والآن؟ مرت السنون الأربع، ولم تنجبي طفلًا، بل إن ظافر نفسه لم يعد يطيق حتى لمستكِ! على الأقل، سيرين فعلت ما لم تستطيعي فعله… تزوّجته!”
كانت كلماتها كسياطٍ من نارٍ لسعت صدر دينا لكن شادية لم تمنحها حتى فرصة الرد… واستدارت ببساطةٍ كأنها تلفظ شيئًا تافهًا من حياتها تاركةً إياها وحيدةً وسط العراء.
وقفت دينا في مكانها تكافح دموع الذل التي تجمعت في عينيها رغمًا عنها، ولم تجد أمامها سوى هاتفها تتشبث به كطوق نجاة قبل أن تتصل بصديقتها، تطلب منها أن تأتي وتأخذها بعيدًا عن هذا المكان الذي لم يخلّف لها سوى المهانة.
بعد قليل كانت السيارة تتنقل بهما بين الطرقات وصوت المدينة ينبض من حولهما لكن عقل دينا كان في مكانٍ آخر. وحين مرّت السيارة بمطعم Golden Moon التفتت نحوه بلا وعي كأنما تبحث عن شيءٍ مفقودٍ بين أضوائه الخافتة.
— “دينا، ماذا هناك؟” سألتها صديقتها باستغراب وهي تراقبها بطرف عينها.
لكن دينا لم تجب، فقد كانت الأفكار تتدافع في رأسها كأنما تُعيد مشاهد يومها في قصر نصران بكل تفاصيلها القاسية.
شعرت بيدها تنقبض وكأنها تحاول كبح غضبٍ يشتعل في أعماقها. وأخيرًا، نطقت بصوتٍ منخفضٍ لكنه مُصمم:
— “أعلني أنني زرتُ قصر نصران اليوم… مع ظافر.”
نظرت إليها صديقتها بتمعن ثم أومأت برأسها.
— “فهمتكِ.”
***
في تلك الأثناء في فيلا كوثر الفاخرة كان الليل قد أرخى سدوله وسكونٌ ثقيلٌ خيّم على المكان.
في الداخل وقف زكريا عند باب غرفته يلقى نظرةً خاطفةً على أرجاء الفيلا ثم زفر بضجرٍ قبل أن يدّعي الإرهاق ويغلق الباب خلفه بهدوء.
وما إن انفرد بنفسه حتى تحولت ملامحه، وأسرع يجلس أمام مكتبه، ثم فتح حاسوبه المحمول، وأخذت أصابعه تنقر على لوحة المفاتيح بسرعةٍ ودقة.
وفي لحظات كانت الشاشة تومض بسيلٍ من المعلومات، سطورٌ متشابكةٌ وكلماتٌ متراقصة، كلها تدور حول رجلٍ واحد… ظافر.