الفصل 43
في بهو السلطة والنفوذ، حيث تُحاك الخيوط الخفية للمصائر، وقف اسمٌ يلمع كالذهب في سجل الأعمال:
ظافر نصران—الرئيس التنفيذي لشركة آل نصران كوربوريشن، الوريث الأكثر بريقًا وسط عائلة نصران العريقة حيث المال ليس مجرد وسيلة بل هوية تتوارثها الأجيال.
على شاشة الهاتف أجرى زكريا بحثه السريع فلم يستغرق الأمر سوى لحظات حتى وجد الموقع الإلكتروني لمجموعة آل نصران والمقر الرئيسي للإمبراطورية، خزن زكريا الموقع في ذاكرة الهاتف وبينما كانت أصابع القدر تعزف لحنًا جديدًا تسربت أغنية شهيرة أخرى إلى مسامعه وكأنها تؤرخ لحظة اكتشافه التالي.
عنوان يتصدر وسائل التواصل الاجتماعي، يزأر كإعلان حرب:
“عودة دينا إلى المنزل برفقة الرئيس التنفيذي لشركة آل نصران كوربوريشن.. والتقت رسمياً مع والديه.. هل سيكون زفافها على وريث العائلة وشيكًا؟”
تجمدت ملامح زكريا بينما التوت شفتاه في سخرية قاتمة، واندلعت نيران خفية في عينيه وهو يحدق في الشاشة بحثًا عن كل ما يمكن أن يقوده إلى حقيقتها.
غاص في أعماق الشبكة المظلمة حيث القصص ليست مجرد أخبار، بل ظلالٌ تسكن العتمة تتراقص على حافة الحقيقة والخيال.
كل معلومة وجدها عن دينا كانت أكثر إثارة من سابقتها كأنها ألغاز متشابكة كل خيط فيها يقوده إلى متاهة أخرى أكثر تعقيدًا.
عبس الصبي الصغير، يتمتم بحدة:
“ظافر؟! ذلك الحقير الذي لا يعرف معنى المبادئ ولا شيء عن الأبوة! إنه عارٌ على اسمه!”
في البداية فكر زكريا في فضح كل تلك الأسرار على الملأ لكنه تراجع بعد لحظة تأمل فقد كان ذلك بمثابة تساهل لا يستحقه ظافر، لكن .. إذا كان لا بد أن يدفع ثمن قراراته فليكن العقاب أعنف وأقسى—وذلك لن يتحقق إلا بوجود دينا في حياته.
***
في صباح اليوم التالي وبينما الشمس ترسم خيوطها الذهبية على المدينة كانت كوثر تستعد ليوم حافل؛ فكونها ابنة لعائلة مرموقة كان والدها يرى أن عليها خوض معترك الإدارة واكتساب الخبرة لذا قرر أن تعود إلى المنزل وتتولى إدارة إحدى الشركات الفرعية، لذا لم يكن بوسعها البقاء في الفيلا كثيرًا لكنها لم تكن قلقة؛ فالمنزل عامر بالمدبرات، وزكريا رغم حداثة سنه إلا أنه كان يتصرف بوعي يسبق عمره مما جعل العناية به أمرًا في غاية السهولة.
وقفت كوثر أمام المرآة تمسك فرشاة أسنانها وهي تتحدث إلى سيرين عبر الهاتف وجاء صوتها مفعم بالنشاط رغم تعب الصباح:
“ساسو، زاك طفل رائع لا يزال نائمًا في غرفته.”
على الطرف الآخر أومأت سيرين، ثم أضافت بعد لحظة تفكير:
“كنت أخطط لإلحاقه بروضة أطفال عندما كنا في أثينا، لكن تأخرت الأمور بسبب حالة نوح لذا أريد أن أجد له مكانًا مناسبًا الآن.”
توقفت كوثر عما تفعله، ورفعت حاجبًا متفاجئة:
“زاك؟ روضة أطفال؟”
الطفل الذي يتعامل مع الحياة بذكاء يفوق سنه؟ ذاك الذي يمتلك نظرة تخترق الأرواح؟ كيف سيندمج وسط الأطفال؟
لكنها فكرت للحظة أخرى.. صحيح أنه يملك شخصية قوية قد تجعله مهيمنًا بين أقرانه لكنه أيضًا يمتلك جانبًا لطيفًا يجعله محبوبًا، ومع ذلك بوجهه الوسيم وثقته الطاغية لن يكون للأولاد في الروضة أي فرصة أمامه!
“هل هناك مشكلة؟” سألت سيرين بحيرة.
“لا شيء.. سأهتم بالأمر. أعرف روضة دولية ممتازة تناسبه.” تذكرت كوثر أن ابن أخيها كان يرتاد نفس المكان.
“اعتبريه منتهيًا.”
أجابتها سيرين بإمتنان:
“شكرًا لكِ.”
ابتسمت كوثر برحابة وكأن الأخرى تراها، وقالت بود:
“لا داعي للشكر، ساسو.”
***
أما زكريا، فقد كان لا يزال غارقًا في نومه بعد أن ظل مستيقظًا حتى وقت متأخر ليلة البارحة غافلًا عن أن مصيره قد رسم بالفعل وأن خطة جديدة لحياته بدأت تُحبك في الخفاء.
وعلى الجانب الآخر، أغلقت سيرين الهاتف على مضض وهي تستعد للخطوة التالية في لعبتها.. لذا عليها التوجه إلى مجموعة آل نصران حيث ستبدأ معركة أخرى، وسيكون للقدر كلمته الأخيرة.
استفاقت سيرين ذلك الصباح على خبر لم تكن تتوقعه قط.
مرّرت أصابعها فوق شاشة هاتفها وعيناها تضيقان شيئًا فشيئًا مع كل عنوان يتراقص أمامها… ظافر أخذ دينا إلى منزله.
زفرت بتوتر فهي تعلم أن عليها التحرك بسرعة… أن تسبق الزمن قبل أن يُحكم قبضته عليها، أجل إذ يجب أن تكون هي أول من يحمل بذرته قبل أن يثبت زواجه من دينا وإلا سيصبح كل شيء أكثر تعقيدًا بل وأكثر ألمًا.
وقفت أمام المرآة ومرّرت أناملها بخفة فوق ملامحها كأنها تنحت تمثالًا لامرأة يجب أن تكون مثالية الليلة.
اختارت فستانًا أسوداً أنيقًا لونُه يغزل الليل في تفاصيله وأضفت على عينيها قليلًا من السحر المتقن بمستحضراتها.
حين انتهت سيرين من إتمام زينتها رمقت انعكاس صورتها في المرآة بنظرةٍ جديدة…
اليوم هي ليست سيرين المعتادة بل امرأة تُحارب من أجل صغيرها.
وما إن استقر جسدها الممشوق داخل السيارة حتى اهتز هاتفها برسالة من رامي، حارسها الشخصي.
“طارق ينتظر عند البوابة.”
قطّبت سيرين حاجبيها في انزعاج، وانفرجت شفتاها عن تنهيدة ساخطة؛ إلى أي مدى يمكن أن تصل به دينا للسيطرة عليه؟ كيف أصبح طارق ظِلًّا يتبع خطواتها أينما ذهبت؟
بلا تردد التفتت سيرين نحو السائق وأمرته:
“قد بسرعة… لا أريد أي إزعاج اليوم.”
تحركت السيارة بسلاسة ولكن عند بوابة القصر كانت هناك سيارة “مايباخ” تقف بثبات كأنها صخرة تتحدّى التيار.
لم تكترث سيرين لأمر من بالخارج، أمرت السائق بتجاوزه واندفعت سيارتها كالسهم.
في المقابل كان طارق يتابع المشهد بعينين تضيقان كصقرٍ أدرك أن فريسته تحاول الفرار. وبجانبه وقف حارسه الخاص مترددًا في كسر الصمت المتوتر:
“سيد طارق… هل نتحرك؟”
كان صوت طارق حادًّا كحد السيف:
“اتبعها.”
أومأ السائق يقول بطاعة:
“أوامرك، سيد طارق.”
استند طارق إلى المقعد، ونظراته ظلت معلقتان بالمركبة التي تتلاشى في الأفق لكن داخله كان الطوفان يجرفه بعيدًا عن يقينه، نظرة واحدة في المرآة العاكسة لروحه كشفت ما يحاول إنكاره… ذلك الشعور الغريب بالذنب الذي تسلل إلى ملامحه.
حين بدأت السيارة التي تقلّ سيرين تتجه نحو شركة فرعية تابعة لمجموعة “نصران”، ازداد فضوله.
لماذا تأتي إلى هنا؟ كانت هذه الشركة تحت إشرافه مباشرة، وتشترك في نفس المبنى مع المقر الرئيسي للمجموعة.
لم ينتظر طويلًا التقط هاتفه وأصدر أوامره بصرامة:
“ماهر… انزل الآن.”
وبعد دقائق كان ماهر أمامه، حاجباه معقودان بدهشة غير مفتعلة تمامًا.
لكن حين نطق طارق بجملته التالية اتسعت عيناه بصعوبة:
“سيرين هنا. اكتشف لي ما الذي تفعله.”
كاد ماهر أن يتلعثم ويفضح علمه بأمرها، اسمها وحده كان كفيلًا بتجميد الكلمات في حلقه، وفجأة قال بتأتأة:
“سيد طارق… أليست سيرين ميتة؟ كيف تكون هنا؟”
ظل طارق صامتًا ولكن عبثت يمينه بجيب سترته وأخرج هاتفه بلا تردد ومن ثم مرر إصبعه فوق الشاشة حتى ظهرت الصورة بوضوح… كانت لسيرين وهي تخطو بثقة داخل المبنى، ملامحها في الصورة واضحة تعطي معلومة صريحة بأنها من الأحياء، فلا مجال للشك.
تسللت الصدمة إلى عظام ماهر ولبث للحظات عاجزًا عن استيعاب ما يرى، ومن ثم غمغم بتردد:
كيف يمكن لشخص مات أن يعود ليظهر أمامهم بهذه السهولة؟
قلبه يخفق بارتباك فهو يعلم كم كراهية طارق لسيرين، لكن صوت طارق اخترق أفكاره كالسوط:
“تحقق فورًا! لا أريد أي شائعات عنها تنتشر في هذا المكان. فهمت؟”
أومأ ماهر سريعًا وقبل أن يسمح لنفسه بالتفكير تحرك في الاتجاه المطلوب.
لم يكن يدري إن كان سيبحث عن إجابة… أم عن حيلة لإبقاءها شبح؟