رواية عشق لا يضاهي كاملة بقلم أسماء حميدة (الفصل الخامس والأربعون)

عشق لا يضاهى

الفصل 45

لم يكن ظافر رجلاً يكتفي بالإجابات السهلة بل كان كالصياد الذي لا يهدأ حتى يُحكم قبضته على فريسته.

اقترب منها أكثر، حتى باتت المسافة بينهما عدم لا يذكر وأنفاسه الساخنة تلفح جانب وجهها كأنها وشم من نار لا يُمحى.

تراجعت سيرين خطوة إلى الخلف فوجدت ظهرها يستند إلى الحائط وكأنها باتت رهينة للحظةٍ لا مفر منها، لحظة معلقة بين الخوف واليقين، بين الماضي الذي يطاردها والحاضر الذي يأسرها.**

تأملها للحظات وقد طفق بعينيه طوفانٌ من المشاعر، خليطٌ مربك من الغضب والعتاب والحنين، مشاعر لم تستطع سيرين أن تفك شفرتها، أو ربما لم ترد أن تفهمها.

غمغم ظافر بصوتٍ هادئ لكنه يحمل صدى عاصفة وشيكة:

“من أين حصلتِ على كل هذه الأموال للأعمال الخيرية في أقل من خمس سنوات؟ هل منحكِ كارم إياها؟”**

ما لم تكن تعرفه سيرين هو أن ظافر لم يذق طعم النوم منذ رحيلها وأن الأيام القليلة الماضية لم تحمل له سوى أرقٍ يتغذى على صورها مع كارم، وبات الأرق بهواجسه بهما غولاً ينهش عقله بلا رحمة.

حاولت سيرين أن تحافظ على تماسكها كي تبدو واثقة من حالها، وهي تقول:

“أنا وكارم مجرد صديقين… لقد كسبتُ مالي بنفسي”

لكنها لم تكد تنهي جملتها حتى أحاطت يديه بكتفيها، تلك اليد التي هوت عليها ببطء كقيدٍ غير مرئي قبل أن تنزلق إلى أسفل لتلتف حول ذراعيها كأنها تطوقها بوعدٍ مبطن، بل كتهديد صامت أو ربما توسّل خفي، ومن ثم عاود سؤاله بغشم:

“كيف حصلتِ على هذا كله؟! ماذا أعطيته في المقابل سيرين؟ اجيبيني؟” كانت نبرته مشحونةً بشيءٍ أعمق من مجرد الفضول، شيءٍ يشبه الغيرة لكنه مسموم بالشك.

دوى السؤال في رأسها كصدى في كهفٍ معتم فحدقت فيه بعدم تصديق وارتجفت شفتاها قبل أن تنطق: “ماذا قلت؟”**

يداه كانتا دافئتين لكن كلماته كانت بردًا يزحف تحت جلدها، يجعل أطرافها ترتجف بغير إرادتها.

عضّت سيرين على شفتيها بقهر عندما شعرت بالدماء تتدفق سريعًا إلى قلبها كأنها تحاول أن تهرب منه، لكنها كانت عالقة، محاصرة، وكأن الجدران نفسها تآمرت مع ظافر لسجنها.

اقترب أكثر حتى كادت أنفاسه تتسلل إلى أذنيها قبل أن يهمس بكلماتٍ حملت سمًا مغلفًا بالعسل:

“أخبريني كم أعطاكِ كارم… ومهما أغدق عليكِ من مال سأضاعفه!”**

رفرفة جفونها كانت وسيلة لكبح عبراتها إذ لم يكن صوته مجرد كلمات بل كان حبلاً يلتف حول عنقها ببطء، يجرّها إلى هاوية لا قرار لها.

ولكنه لم يكتفِ بالكلمات بل كانت أنامله تلامس بشرتها كنسمةٍ خجلى بين ضلوع العاصفة، مترددة، لكنها تحمل جرأة الجُناة الذين لا يخشون العقاب.

لمساته دقيقة وفي مقتل وكأنه يرسمها بيده، أو كمن يرغب في أن يختمها بنسيج روحه، أجل فهو يريد أن يسجنها بين ضلوعه إلى الأبد، أن يطبعها بسكه كي تكون له إلى ما لا نهاية، له هو فقط، في هذه اللحظة جلّ ما كان يريده هو أن يصبغها بألوانه حتى تصير جزءًا منه… مهما كان الثمن.

“هل تتذكرين كم تدين لي عائلتكِ؟” كانت كلماته قاطعة كحد السيف، لكنها رغم ذلك حملت بين طياتها رجاءً خفيًا، صوتًا مكسورًا لرجلٍ يحاول أن يستعيد شيئًا كان يومًا ملكه.

ثم تابع بصوتٍ أكثر انخفاضًا كمن يساوم على مصيره:

“سأنسى كل ذلك… فقط قولي لي كم تريدين، وابقِ. سأمنحكِ كل شيء!”

لكن… هل كل شيء يكفي؟ هل يمكن للذهب أن يشتري ما ضاع؟ وهل تستطيع الأرقام أن تكتب قصة حبٍّ لم تكتمل سطورها؟

لم تترك له فرصةً ليكمل، فهي لم تستطع أن تتحمل أكثر من ذلك، وبلا تفكير رفعت يدها وصفعته بقوة وكأنها تلقي عليه حكمًا نهائيًا لا نقض فيه.

صوت الصفعة دوى في الغرفة بينما لهاثها كان يرتجف بين شفتيها:

“يا لك من حقير!”

شعر بحرقةٍ في خده لكن الألم لم يكن في الجلد، كان أعمق… كان في كبريائه الجريح.

رفع يده وأمسك معصمها بقوة يشدّها نحوه وعيناه تغوصان في ملامحها المتوترة، ثم همس ببرودٍ لا يقل عن صقيع الشتاء:

“أخبريني… كم؟”

كانت تعرف، أدركت الآن أنها أحبت الرجل الخطأ لكنها لم تدرك أنها في الحقيقة… لم تحبه يومًا.

لقد عرفت ظافر.

ظنّت يومًا أن هوسه بالنظافة وعزلته عن العالم هو ما يجعله مختلفًا عن الرجال الآخرين لكن ها هو الآن… ليس مختلفًا عنهم في شيء… نفس الشراهة، نفس الاستحواذ، نفس الرغبة في الامتلاك.

“سيد نصران، كن محترمًا من فضلك.”

رفع حاجبه قليلًا، ومن ثم ابتلع حتى اهتزت تفاحة آدم خاصته وهو مد يده ببطء، يرفع ذقنها بأنامله الخشنة.

أخذ ينظر إليها طويلًا كأنه يتحدى ذاكرتها بل كمن يستجدي أثراً قديماً لمشاعرٍ ربما دفنتها السنوات، ثم قال بصوتٍ أجشّ، هادئ لكنه آمر:

“ناديني بـ’ظافر’.”

شهقت سيرين تكتم لهفتها وانصياع قلبها اللعين لمشاعر ظنت أنها دُفِنت بينما اتسعت عيناها دهشة لما تراه في عينيه من استجداء يائس.

ظلّ يحدق فيها وهو يحاول أن يفتش في نظراتها عن الحقيقة.

هل فقدت ذاكرتها حقًا؟ هل لم تعد تشعر به؟ هل يمكن أن تكون قد محته هكذا ببساطة؟

انتظر… وانتظر… حتى نطقت أخيرًا.

“ظافر.”

خرجت الكلمة من بين شفتيها بلا حرارة، بلا روح، مجرد لفظٍ خاوٍ من أي مشاعر، كانت مختلفة تمامًا عن ذي قبل.

في عقله ترددت الذكرى كصفحة ممزقة من كتاب ماضٍ لم يكتمل.

“ظافر… ظافر…”

تذكر كيف كانت تعانقه، كيف كانت تهمس باسمه، كيف كانت تغرقه بنظراتها المفعمة بالحياة.

أغمض عينيه بقهر، يشدّ على شفتيه بعناد ورفض أن يصدق.

لا.

هي لم تنسَ. لا يمكن أن تنسى.

انحنى نحوها فجأة، واقترب يلثم شفـ ـتيها بعـ ـنف، كأنما يحاول أن يعيد لها ذاكرتها، أو ربما… أن يعيدها إليه بالقـ ـوة.

حاولت المقاومة لكنه كان أقوى، ويداها أسيرتان بين قبضته.

وفجأة قطعت أصواتٌ من الخارج الصمت المتوتر داخل المكتب.

“سيدة دينا، السيد نصران في اجتماع، لا يمكنكِ الدخول.”

لكنها هزت كتفيها بعدم اكتراث، واستكملت طريقها تتمتم بتعالٍ:

“لدي شيء مهم أريد أن أخبره به، تنحّى جانبًا!”

تجاهلت دينا محاولات السكرتيرة لمنعها ودخلت.

في اللحظة ذاتها تمكنت سيرين من دفع ظافر بعيدًا عنها، وتراجعت لاهثة وعيناها مصدومتان مما حدث للتو.

“سيرين!”

تجمدت دينا عند عتبة الباب وعيناها متسعتان في ذهول لم تصدق ما تراه أمامها.

أما ظافر، فاستدار نحوها بغضبٍ جارف وصاح بنبرةٍ حادة:

“اخرجي!”

لم تكن سيرين تتوقع أن تلتقي دينا بهذه الطريقة لكنها لم تتراجع إذاً فالأمر ليس موجهاً لدينا بل هي المقصودة، لذا همّت بالتحرك نحو الباب لكن يدًا قوية أمسكت بذراعها فجأة.

“لقد كنت أقصد أن تغادر هي، وليس أنت!”

ثبتت نظراته على شفتيها المتورمتين وكأنها علامة ملكية تركها عليها كأنها بصمةٌ تؤكد أنها… لا تزال له.

ثم همس بحدة:

“سيدة تهامي، لا يزال لدينا عمل يجب مناقشته.”

وقفت دينا في مكانها للحظات تحاول استيعاب المشهد، أن تتشرب الحقيقة التي رآتها بأم عينيها، لكن شيئًا في داخلها تحطم.

قالت بصوتٍ بارد كأنها تغمد خنجرًا في صدره:

“ظافر، دعني أعرف عندما تنتهي منها.”

ثم استدارت وغادرت بينما كان وجهها يتلون بالسواد وغضبٌ هائل يتأجج في صدرها.

أما سيرين فوقفت مكانها تقبض على ذراعيها كأنها تحتمي من عاصفةٍ على وشك الاجتياح.

لم تكن ميتة.

فكيف… كيف يمكنها أن تظل على قيد الحياة؟

هذا ما دار برأس الملعونة دينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top