الفصل 49
كان زكريا يشعر بوخزة في قلبه كلما رأى سيرين تتحمل عبء الاعتناء به وبنوح دون أن تشتكي أو تتذمر لذا أراد أن يخفف عنها، أن يراها تعيش بلا أعباء، بلا قلق مستمر يلتف حولها كشبح يطاردها.
أما كارم فقد كان من وجهة نظر زكريا رجلًا حسن الخلق لكنه أشبه بوردة نمت وسط الأشواك فهو محاطًا دوماً بالخطر من كل اتجاه لذا لم يكن زكريا مطمئنًا إذ كان يتمنى لو أن سيرين وجدت رجلًا كالسور الحصين يحميها من رياح الحياة العاتية ويمنحها الأمان الذي يستحقه قلبها.
لم تكن كوثر تتوقع أن تراود زكريا مثل هذه الأفكار العميقة لكنه كان دائم التفكير فيما هو أبعد من اللحظة، فيمن يمكنه أن يحمي من يحب.
قالت كوثر بابتسامة خفيفة وكأنها تبرر موقفها:
“والدي يريدني أن أتزوج لمصلحة العمل، لكن الرجال الأثرياء الذين يقدمهم لي عادة ما يكونون ذوي مظهر حسن على الأقل!”
أما سيرين فكانت تشعر وكأنها محاصرة بينهما، بين منطق زكريا وروح كوثر الحرة.
نظرت سيرين إلى زكريا بتردد وقالت:
ــ “حسنًا، لكن…” تلاقت عيناها بعينيه للحظة ثم أضافت بصوت خافت كمن تضع حدًا للنقاش:
“سأذهب في هذا الموعد بدلاً من كوكي ولكن ليس لأجل البحث لك عن أب!”
ابتسم زكريا ابتسامة صغيرة فهو لم يكن يمانع بل تفهم دوافعها تمامًا، وتمتم يقول ببشاشة:
“أتفهم ذلك.”
في داخله كان يسترجع مشاهد من الدراما الرومانسية التي اعتاد مشاهدتها، فقد كان الحب يأتي دومًا في أكثر اللحظات غرابة يتسلل عبر المصادفات، يتشكل من لقاء غير متوقع أو حديث عابر ربما هكذا كانت الأقدار تهيئ طريقها إلى سيرين،فمن يدري؟!
يعلم زكريا أن هو ونوح صغيران جدًا ليكونا درعًا يحمي سيرين من العالم لكنه كان يفكر في حل آخر… ربما لو تمكن من إيجاد رجل جدير بها، قادر على رعايتها حين ينشغل هو ونوح بمستقبلهم سيكون ذلك هو الحل الأمثل.
لكن سيرين لم تكن على دراية بكل هذه الأفكار التي تدور في رأس زكريا فقد كانت غارقة في واقعها وفي مسؤولياتها ففي حكايات مضت ولم تكتمل.
بعد أن وضعت سيرين زكريا في سريره جلست مع كوثر تتبادلان الحديث على ضوء المصباح الخافت كما لو أن الليل وحده قادر على احتواء أسرارهما.
قالت سيرين وهي تتطلع إلى كوثر بنظرة فضولية:
“هل ستبحثين عن نادر غدًا؟”
كوثر لم تنكر كان هناك وهج خافت في عينيها وهي ترد:
“نعم، سمعت أنه سيعود غدًا.”
ثم التفتت نحو سيرين وكانت نظراتها هذه المرة مزيجًا من الامتنان واللهفة:
“سيرين شكرًا لكِ على مساعدتي في تحديد موعد غرامي لو فاتني لقاؤه هذه المرة سأندم على ذلك لبقية حياتي.”
ابتسمت سيرين ومدت يدها تعانقها بحنان:
ــ “لا داعي لشكري هذه فرصتكِ لاستعادة ما فقدته.”
كوثر شعرت بمرارة تختنق في حلقها فقالت بصوت واهن:
“كيف تسير الأمور بينكِ وبين ظافر؟”
أجابت سيرين ببرود كمن يحاول طمس مشاعره:
“ما زال هو نفسه.”
كوثر لم تتمالك نفسها وعانقتها بقوة لتواسيها ثم همست لها:
“يقولون إن الحب دين لا نستطيع سداده أبدًا… وهذا هو حالي مع نادر.”
ربتت سيرين على كتفها برفق في محاولة منها لبث الطمأنينة في قلبها:
“أنتِ ونادر تحبان بعضكما البعض، بالتأكيد ستعودان لبعضكما.”
لكن حين انتهى الحوار وحين انسحبت سيرين إلى غرفتها لتستريح أدركت أنها لم تكن قادرة على النوم.
كانت الحقيقة تتسلل إليها كضوء القمر عبر نافذتها حقيقة أنها غارت من كوثر.
ليس لأنها تحب نادر بل لأنها على الأقل عرفت الحب، شعرت به يتغلغل في روحها قاتلت من أجله.
أما هي؟ حين نظرت إلى حياتها الممتدة لعشرين عامًا لم تجد فيها حبًا حقيقيًا، لم تجد ذلك الشعور الذي يحرق القلب ويحيي الروح في آنٍ واحد.
أدركت أنها كانت دومًا عابرة في قصص الآخرين لكنها لم تكن بطلة في قصة حبها الخاصة.
في تلك الليلة وبينما كانت عقارب الساعة تزحف ببطء كأنها تستثقل مرور الوقت تذكرت سيرين ما قاله ظافر عن اصطحابها إلى مكان ما غدًا.
تسللت يدا سيرين إلى هاتفها بصمت وكأنها تخشى أن تفضحها أنفاسها ثم خطّت رسالة نصية بأطراف أصابعها الرقيقة:
“سيد ظافر، لدي التزامات في الصباح، لذا لا يمكنني لقاؤك إلا بعد الظهيرة.”
وما إن أرسلت الرسالة حتى وضعت الهاتف على الوضع الصامت كأنها تودّ أن تقطع كل سبيل للعودة ثم ألقت به جانبًا مستسلمة لدوامة أفكارها.
في هذه الأثناء لم تكن سيرين تعلم أن ظافر في الجهة الأخرى لم يكن غارقًا في النوم كما توقعت، إذ كان يجلس في غرفة معيشته تحت ضوء خافت يبعث ظلالًا متراقصة على الجدران، محدقًا في شاشة هاتفه بذهول، عيناه تقرآن كلماتها مرارًا وكأنهما تفتشان عن شيء آخر بين الحروف، شيء غير ظاهر لكنه يثقل الهواء من حوله.
لم يرد بل اكتفى بإلقاء الهاتف جانبًا وهو يشعر بانقباض غامض في صدره، لم يكن انزعاجًا فحسب،
بل كان شيئًا أعمق… وأشد وطأة.
في تلك الأثناء كانت العاصفة قد بدأت تهبّ في جهة أخرى من العائلة إذ حملت الرياح همسًا لم يكن أحد يتوقعه—سيرين… لا تزال على قيد الحياة!
شادية التي لم تكن يومًا من ذوات القلوب الرقيقة ارتعشت أناملها للحظة لكن نظراتها بقيت جامدة وهي تردد بذهول:
— “لكن… ظافر أعاد رمادها بنفسه، كيف يكون هذا ممكنًا؟ كيف لا تكون ميتة؟”
رفع عدنان حاجبيه بتعجب ثم قال بنبرة جمّدت الهواء بينهما:
“أهو أمر يثير امتعاضك إلى هذا الحد؟ أحقًا كنتِ تفضلين أن تكون زوجة ابنكِ في تعداد الأموات؟
التفتت إليه شادية ببرود وقالت بصوت أشبه بالريح التي تسبق العاصفة:
“لم تعد زوجته بعد الآن.”
تنهد عدنان ناظرًا إليها بعينين تحملان من الحكمة ما لم تعد ترغب في رؤيته:
“لكن إن كنتِ أنتِ وظافر لا تحبانها، فلماذا سمحتِ لها بالزواج من ابننا منذ البداية؟”
كأن كلماته اخترقت جدارًا سميكًا في صدرها وللحظة فقدت شادية توازنها وتلعثمت لكنها سرعان ما استعادت جمودها مشيحة بوجهها عنه.
نهض عدنان من مجلسه وألقى بنظرة حاسمة قبل أن يقول:
“سيرين امرأة طيبة، وحتى وإن انتهى ما كان بينها وبين ظافر فلا حقّ لنا أن نزيد من معاناتها.”
لكن شادية لم تكن من النساء اللواتي يتراجعن عما يرغبن به، إذ أومضت عيناها بتحدٍ وهي تجيب بنبرة متعالية:
“طالما أنها لا تقترب من ظافر، فلا شأن لي بها!”
لكن الحقيقة التي لم تقلها بصوت مرتفع هي أن القلق كان ينهشها من الداخل، إذ ظافر لم يُرزق بطفل بعد وهي تعلم جيدًا أن أفراد عائلة نصران الآخرين قد أنجبوا أطفالاً بالفعل، الأمر لم يكن مجرد مسألة شخصية بالنسبة لشادية بل كان تهديدًا للمجد الذي بناه ظافر بيديه وقد يرثه من هم ليسوا من صلبه.
في الأيام الأولى لم يكن عدنان ذا شأن يُذكر في العائلة، كان مستهترًا، محبًا للهو، بلا طموح يُذكر في إدارة الأعمال ولولا ظافر لما اعتلت أسرتهم هذه المكانة الرفيعة، لكن إن ظل ظافر بلا وريث فلن يكون هناك مفر من أن ينتزع الجيل التالي منصبه وفي كل مرة تخطر هذه الفكرة بعقل شادية كان الأرق يطحن عظامها كمن يقف على حافة هاوية لا قاع لها.
فعلى مدى السنوات الأربع الماضية لم تترك وسيلة إلا وحاولت بها أن تجد لظافر زوجة جديدة.
حتى دينا تلك المرأة التي وثقت بها شادية لم تنجح في الأمر إذ حاولت دينا عدة مرات وقدّمت نفسها له لكنها لم تكن أكثر من ظل في حياته لا يلتفت إليه ولا يأبه به.
لكن شادية لم تكن لتستسلم بسهولة، فقد خرجت من المنزل وبعد أن استنشقت الهواء بعمق وكأنها تلتهمه في محاولة للسيطرة على انفعالاتها ثم عبثت يمينها بشاشة هاتفها واتصلت بدينا دون علم عدنان وبثتها الأمر التالي:
“لا يهمني كيف ستفعلينها… لكن طالما أنكِ ستنجبين طفلاً من ظافر فأنا أضمن لكِ أنكِ ستصبحين سيدة نصران.”
كانت النار مشتعلة بعيني شادية إذ لم يكن الأمر مجرد معركة شخصية بل كان حربًا على الزمن نفسه بل وعلى قدرٍ قد يهدد كل شيء بنته بيديها.