الفصل 53
في الطابق العلوي من مبنى آل نصران حيث يتربع عرش السلطة في المقر الرئيسي للشركة كان ظافر يجلس خلف مكتبه الفاخر تتراقص بعينيه شرارات القلق وهو يتلقى تقريرًا من حارسه الشخصي.
“السيدة سيرين ذهبت إلى ذلك المطعم هذا الصباح سيدي.”*
انعقد حاجبا ظافر في دهشة وبدأت أفكاره تتشابك كخيوط دخان تتلاشى في الفراغ، يتمتم بصوت مخټنق:
“سيرين؟ في ذلك المكان؟”
ظافر كان يعلم أن ذلك المطعم لم يكن سوى وكرٍ يعج بالأبناء المدللين حيث تتساقط الأخلاق كما تتساقط أوراق الخريف تحت وطأة الريح، ولكن الشيء الصاډم تلك الخاطرة التي أرقت ثباته وهي: كيف لفتاة مثلها أن تطأ عتبة هذا المستنقع؟ فجاءه الجواب كدلو ماء بارد انساب فوق رأسه، عندما تردد الحارس الشخصي للحظة، ثم قال بصوت متحفظ:
“يبدو أنها كانت في موعد غرامي لاختيار عريس.”
انقبضت ملامح ظافر وضاقت عيناه كما لو كان يحاول اختراق غموض الخبر بعينيه الداكنتين.
السكون الذي أعقب الجملة كان أشبه بحفيف شفرة حادة تتهيأ للقطع، وشرد قليلاً يقلب ذكرى قريبة طفقت بمخيلته:
إذن… عندما أخبرته بأنها لديها شيء لتفعله كانت تقصد موعدًا غراميًا أعمى! سيرين تفاجئه مرة أخرى…
تلبدت ملامحه في لحظة وتحولت عيناه إلى شظايا جليد حادة، فاستشعر الحارس الشخصي العاصفة القادمة لذا انحنى قليلًا وغادر بخطوات محسوبة كمن يفر قبل أن ټنفجر القنبلة بين يديه.
**— الساعة الثانية ظهرًا —**
جاء طرق خاڤت على باب مكتبه، وصوت أنثوي لا يخطأه يقول:
“السيد ظافر؟”
بمجرد أن عبرت سيرين العتبة أحست بشيء غير مألوف، لم يكن هو نفسه كان ظله أكثر برودة ونظرته أكثر عمقًا بدا وكأنه يستطيع أن يسبر أغوار روحها دون أن تنبس بكلمة.
رفع ظافر بصره إليها يرمقها ببرود قاټل ثم قال بنبرة هادئة تخفي تحتها تيارات ڠضب عميقة:
“هل انتهيتِ من عملك؟”
تجمدت في مكانها فهي تعلم جيداً أن هناك معنى آخر يختبئ بين كلماته لكنها لم تستوعبه للآن فأجابته بثبات زائف:
“نعم، ألم تقل إنك ستأخذني إلى مكان ما؟”
نهض من مكانه واقترب منها بخطوات بطيئة محسوبة كصياد يقترب من فريسته.
علت وتيرة تنفسها عندما تسللت رائحة عطره إلى أنفها فأحست برجفة تتسلل إلى أطرافها بالكاد تمكنت من السيطرة عليها.
“ماذا فعلتِ هذا الصباح؟” سأل بصوت منخفض لكن نبرته كانت أشبه بوعدٍ غير معلن بعاصفة وشيكة.
في تلك اللحظة أدركت سيرين أنه يعرف بالفعل فهو لا يسأل ليعرف بل ليواجهها بالحقيقة.
تلاقت أعينهما وظلّت ملامحها هادئة وهي تجيب بثبات:
“ذهبتُ في موعد غرامي أعمى.”
للحظة ساد صمت ثقيل… ثم ابتسم ظافر لكن ابتسامته كانت مزيجًا بين الڠضب والذهول.
لم يصدق جرأتها… لم يستوعب أنها لفظت تلك الكلمات بهذه البساطة الممېتة كأنها لم تغرس خنجرًا مسنونًا في كبريائه، كأنها لم تبعثر هويته على طاولة المواجهة دون أدنى اكتراث.
“ماذا؟”* جاء صوته منخفضًا لكن في ثناياه شفرات حادة تتهيأ لتمزيق ثوب الصمت، ثم أضاف بسمٍّ تقاطر من بين شفتيه:
“هل بلغتِ من الوحدة مبلغًا يجعلكِ تبحثين عن أي يد تطرق بابك؟ ألا يكفيكِ رجلان في حياتك؟”
اتسعت عينا سيرين وكأن صاعقة انبثقت من العدم واخترقتها. *رجلان؟ ماذا؟*
شعرت بوخزة في صدرها وكأن شيء بارد قد انسكب في أوردتها، وظلت تحدّق به للحظات تحاول فك طلاسم كلماته ثم حين تسللت حقيقة ما تعنيه كلماته إلى ذهنها ارتسمت على شفتيها ابتسامة تهكمية حملت بين طياتها أكثر مما باحت به شفتيها، فتقدّمت نحوه خطوة جعلت المسافة بينهما ضيقة إلى حد خانق وقالت بصوت ساخر كل حرف فيه كان كمن ينثر الملح على چرح مفتوح:
“يبدو أنك أسأت الفهم سيد ظافر… أنا عزباء… أفلا يحق لي أن أبحث عن شريك؟”
شيء ما في نبرتها أشعل فتيلًا داخله، ولكنه بقي واقفًا ينظر إليها لكن في عينيه زخم كلمات لم ينطق بها بعد.
جز على أنيابه بغيظ، يقول من بين شفاهه المزمومة:
“أنتِ عزباء؟”، خرجت كلماته كزئير مكبوت لم تكن مجرد استنكار بل كانت إعلان حرب.
لم يمنحها ظافر فرصة للرد بل انقض يقبض على ذراعها بقوة يشدّها نحوه پعنف وصوته ينذر بعاصفة لا مفر منها:
“سأجعلكِ تتذكرين جيدًا إن كنتِ عزباء أم لا!”
وقبل أن تستوعب وقع كلماته كان قد جرّها خارجًا يسوقها خلفه كريح عاتية صوب السيارة حيث قڈف بها إلى الداخل وأغلق الباب بقوة كأنما يغلق عليها قفصًا لن تخرج منه بسهولة.
انطلقت السيارة بسرعة على الطريق الرئيسي والإطارات تمزّق الصمت أسفلهما بقسۏة.
كانت سيرين تحدّق عبر النافذة وقلبها ينبض پجنون، وهناك شعور غامض بالقلق قد تسلل إلى أطرافها، وهي لا تعي
إلى أين سيأخذها؟ لم تكن تدري، لكن… هذا الطريق ليس غريبًا عنها، شيء ما في ملامحه حفر في ذاكرتها وإذا استمرّا في السير على هذا النحو فسيصلان إلى وجهة مألوفة… إنه مبنى مكاتب مجموعة تهامي السابق.
قبضت سيرين على يديها بقوة غارسة أطراف أصابعها في راحة يدها في محاولة منها لتهدئة أعصابها لكن عقلها كان يضج بالتساؤلات.
وبالطبع ذلك الذي كان يرصد كل ردة فعل لها ويحللها بنظرة خبير قد التقط ارتباكها، وابتسم… لكنها لم تكن ابتسامة عابرة بل شقّ ساخر بزاوية شفتيه كمن يستمتع بانكسارها الصامت.
امتزجت نظراته بشعلة غامضة، ضوء عابر كوميض برق خاطف في ليلة عاصفة قبل أن ينطق بصوت محمل بأصداء الماضي، متغلغل كخيط من الدخان في فضاء الليل:
“ألم تقولي إنكِ مصاپة بفقدان الذاكرة؟ وإنكِ لا تتذكرين الكثير من الأشخاص… أو الأماكن؟”
ثم أدار رأسه قليلاً وعيناه ترسمان مسارًا نحو الأفق حيث كانت الأطلال تنبض بذكرياتها كچرح لم يندمل بعد قبل أن يضيف بصوت خاڤت كمن يبعث شبحًا من رقدته:
“إذن، هل ما زلتِ تتذكرين هذا المكان؟”
سارت عيناها خلف نظراته متبعةً ذلك الخيط الخفي من الذكرى حتى اصطدمت بالمشهد…
هناك على بُعد خطوات حيث كان الماضي يومًا ما ينبض بالحياة لكن الآن لم يعد سوى خړاب، أشلاء ذاكرة ممزقة.
المكان الذي كان يومًا معقلًا لمجموعة تهامي شامخًا كصرح من الأحلام المتجسدة أصبح الآن كومة من الركام، أنقاضًا شاهدة على اڼهيار مجدٍ كان يملأ الأفق.
انكمشت حدقتاها كمن يحاول الرؤية وسط غبار الذكرى المتطاير وانقبضت راحتيها حتى توهجت مفاصل أصابعها بلون شاحب مستنزفةً دفئهما.
كان الصمت في حلقها أثقل من أن يُنطق به، كتلة متحجرة من الڠضب، من الحنين، أو ربما من العجز.
خلال سنواتها في الخارج أبقى كارم وفاطمة الحقيقة مطموسة عنها كأنها ظل في صورة ممزقة لا تدري شيئًا عن التغيرات التي اجتاحت المدينة.
لم تعلم أن ظافر قد استحوذ على مجموعة تهامي إلا عند عودتها ولكن لم يخطر ببالها ولا حتى في أسوأ كوابيسها أنه سيمحوها من الوجود كما يُمحى الحبر عن الورق.
قطع ظافر الصمت بإيقاف السيارة وهو ينظر إليها مطولًا يراقب ذلك الاضطراب الخفي الذي تخلل ملامحها كزوبعة لا تُرى، لكن تُحَس في هذه اللحظة ازدادت قناعته بأنها تكذب، أجل إنها تتظاهر بفقدان الذاكرة.
عندها انفرجت شفتيه بابتسامة بلا روح كمن يلهو بچثة شعورٍ قديم وكأن متعة لا مبرر لها تتسلل إلى عروقه عند رؤيتها هكذا ضائعة بين أنقاض الماضي.
“يبدو أنكِ لا تتذكرين على الإطلاق… دعيني أساعدكِ إذن.”
قالها بتلذذ مقزز وهو يميل برأسه قليلًا وراح صوته ينساب كسم يسري ببطء في الشرايين يزرع الألم دون عجلة:
“كان هذا المكان يضم مبنى مكاتب مجموعة تهامي، صرحًا ارتفع بعرق جدكِ وكدّ والدكِ، كل حجر فيه كان يحكي قصة، كل نافذة كانت تطل على مجدٍ امتد لعقود…”
توقف لحظة تاركًا كلماته تتغلغل في صدرها كطعڼة غير مرئية ثم أكمل بهدوء قاټل بنبرة مغموسة بغطرسة مدمرة:
“لكني… سوّيته بالأرض.”