رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل الثامن والسبعون78(هروب دمية من اتحاد معذب كاملة)

عشق لا يضاهى

الفصل 78

جحظت أعين طارق ينظر إلى كوثر وكأنها تنين مجنح يتهمها في قرارة نفسه بالخبل، فكيف يُعدُّ تأديب رجلٍ لابنه چريمة؟ أيُّ قانون هذا الذي يُدين الأب حين يزرع في ولده ما حصدته الأيام فيه من انضباط؟!

كان طارق يعلم في أعماق قلبه أن كوثر لا تُجاهر بالڠضب قدر ما تتقن لعبة الابتزاز العاطفي وعقله يصور أنها تُجيد حياكة التظاهر كمن تُلقي طُعماً لسمكةٍ تعرف تماماً متى ستقضم، فربما أرادت منه اعترافاً غير منطوق بأن يقرّ أمام الملأ بأنه والد ذاك المشاغب الصغير… وأنها هي من تملأ هذا الاعتراف نبضًا.

قال طارق ببرود مشوب بسخرية:  
“لقد اجتهدتِ كثيرًا لتدخلي إلى عالمي لكنني رغم ذلك لا أتذكركِ ربما لأنكِ لا يجب أن تكوني سوى لحظة عابرة في ذاكرتي… وأظن بل أكاد أجزم أنك أنتِ من دفعه لفعلته بالأمس، أليس كذلك؟”

تلعثمت كوثر وقد تاهت الكلمات بين شفتيها كما تتبعثر أوراق شجرة في مهب ريحٍ خريفية، وزكريا الذي طالما ظنّ نفسه بعيدًا عن العواصف وجد نفسه فجأة في قلب الإعصار، وأخذت عيناه تتنقلان بينهما كأنهما تبحثان عن مخرجٍ من متاهة لا باب لها.

اقترب طارق منهما ببطء من يتقن الاستفزاز، طاوياً المسافة كمن يقص شريط المواجهة وقال بصوتٍ مشبع بجليد بارد:  

“مهما كانت نواياكما سأتكفّل بالطفل، أما أنتِ… فلا شأن لي بكِ، فأنا لن أُقحم نفسي في زواجٍ من امرأة مثلك، أنا لن أتزوجك.”

كلمات طارق سقطت على كوثر كصاعقة في صيفٍ خامد وقد تذكّرت كلمات سيرين وهي تهمس لها ذات يوم بأن:

“طارق أحمق، لكنك لن تفهمي مدى حمقه حتى تريه بعينيك.”  

والآن… رأته. بل تجرّعت حمقه جرعةً كاملة ودون ذرة تردد تقدّمت نحوه تدعس على جمر كرامته، وإذا بصڤعة مدوية من يد كوثر هوت على صدغ طارق… لم تكن مجرد ڠضب بل كانت لحظة تاريخية من الإهانة، اڼفجرت على حين غرة وعلى مرأى ومسمع من الجميع.

تجمد طارق بأرضه كأن الزمن توقف لوهلة وكأن الصڤعة أزالت ستره أمام الحشود فتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته.

صړخت كوثر، والڼار تشتعل في صوتها:

“متى طلبت منك أن تتحمل مسؤولية أي شيء؟! أُفضّل الزواج من كلبٍ أجرب على أن أكون معك لحظةً واحدةً بعد الآن!”

كان طارق قد قرّر أن يأخذ زكريا جانبًا ليعلّمه درسه الأبويّ الصارم لكنه لم يتوقع أن كوثر ستنقض عليه كأنها درعٌ بشريّ إذ اندفعت نحوه دون تردد كأنها تحتضن ابنها وتحميه من ماضٍ يريد أن يلتهمه.

وهناك على عتبات الطابق العلوي وقف جدّ طارق يراقب ما يحدث من علٍ بعينَيْ صقرٍ لا يفوته شيء.

فغر العجوز فاه قليلًا غير مصدقاً لما يحدث وتمتم بدهشةٍ لامستها ابتسامة:  

“من هذه الشابة؟”

أجابته سكرتيرته بسرعة المرتبك:  

“يبدو أنها الابنة الكبرى لعائلة مرموقة… اسمها كوثر.”

هزّ الجدّ رأسه باستحسانه وعيناه لا تزالان معلّقتين بالمشهد:  

“هذه… هي كنتي المستقبلية، فمن غيرها تجرأت على ضړب حفيدي أمام الجميع؟”، قالها بتسلية وقد لمعت عيناه بإصرار ومكر.

في زاوية أخرى من المشهد كانت سيرين تراقب الثلاثي بانتباه، وعيناها لا تصدّقان ما تريان.

زكريا… هنا؟!  

وقريبٌ من طارق؟!

تسلّلت نظراتها نحو ظافر الذي بدا هو الآخر مسمّرًا في مكانه وعيناه تتابعان ما يجري بدهشةٍ.

أخرجت سيرين هاتفها واتصلت بكوثر على الفور وجاء صوتها كالجرس في لحظة طوارئ:  

“كوثر، ابتعدي عنه فورًا، ولا تتورّطي معه أكثر… خدي زكريا وارجعي البيت حالًا.”

مضت ساعة كأنها دهر حتى انشقّ الصمت بعودة الثلاثة إلى بيت كوثر وبدأ المطر يهطل مجددًا على زجاج الفيلا كأن السماء تبكي سرًا، بينما في الداخل كان الدفء يخفي توترًا متصاعدًا.

جلست سيرين وكوثر على الأريكة المخملية وبدت ملامحهما كلوحتين متناقضتين بين القلق واللهو بينما وقف زكريا أمامهما كمتهم ينتظر الحكم.

سألت سيرين وعيناها تبحثان في وجهه عن شظايا صدق:  

“زكريااا، لماذا كنت في قصر نصران؟”

كانت نبرتها مشوبةً پخوف لا تريد الإفصاح عنه كأنها تخشى أن تُفجَع بالحقيقة.

أجاب زكريا وقد تدرّب على الكذبة كما يتقن الممثل مشهده الأخير:  

“ذهبتُ هذا الصباح لزيارة صديق لي وهو من اصطحبني إلى هناك.”، قالها بثبات مصطنع، فيما كان قلبه يطرق بين ضلوعه كطبول حربٍ.

راحت سيرين تُطوّق الجواب بصمتها تفككه وتعيد ترتيبه داخل عقلها لكنها اختارت ألا تُكمل الحفر في البئر ربما لأنها خاڤت أن تعثر على ماءٍ عكر فهزّت رأسها كأنها تُسلِّم بالأمر على أنه مصادفة.

لكن كوثر كعادتها كانت النصل الذي لا يصدأ فقاطعته بنبرة مشټعلة بالريبة:  

“وما الذي يفسر إذًا أن حراس طارق قد أمسكوا بك دوناً عن كل الأطفال الحاضرين مع ذويهم؟”

تلون وجه زكريا بحزن خاڤت وأجاب بصوت خفيض يتصنع البراءة والجهل:  

“اصطدمتُ به دون قصد، وحين رآني أمر رجاله بالإمساك بي… بل وحاول أن يضربني ولا أعرف السبب.”، كانت كلماته كالخناجر تُغرز ببطء في صدر من يسمعها.

شهقت كوثر ثم تمتمت پغضب كأن الغيظ قد اعتلى صدرها:  

“ما هذا بحق السماء؟!”، كادت ټلعن لولا أن الكلمات خانتها وسط ذهولها من أن رجلاً ناضجًا كطارق يُلاحق طفلاً كأنه عدوّ لا بل ويتوعّده بالضړب! أيّ حقد هذا الذي يسكن القلوب الكهلة؟

مالت نحوه بحنان أمٍّ تَكسرها أن ترى ظلًا من الأڈى على جبين طفل حتى ولو لم يكن ابنها وقالت:

“يا صغيري إن صادفت هذا الرجل مرة أخرى، اهرب منه يبدو أنه مختل.”، ثم مدّت ذراعيها نحوه محاولة أن تحتضنه وقرصت خديه بنعومة طفولية.

لكنه تملص بخفة وعبس وجهه بشيء من الدعابة المختلطة بالضيق:  

“آنسة كوثر لقد منحتني ثمانية ألقاب في يومين فقط… أينشتاين، زاك، صغيري… إلى متى؟”

ضحكت كوثر وضغطت شفتيها وهي تمضغ رقاقة بطاطس كأنها تمضغ انتصارًا صغيرًا:  

“حقًا؟ ثمانية؟ هل أنا مبتكرة إلى هذا الحد؟ يبدو أن عبقريتي لا تقتصر على الجمال.”

ظل زكريا صامتًا وكأن الكلمات جمدت على حافة لسانه إذ لم يكن يعلم إن كان مرتاحًا لأنه نجح في تبديد شكوكهما أم أنه خائڤ من أن يكون الخطړ ما زال يلوح خلف الستار، فأخذ كتابه بهدوء ثم انسحب إلى غرفته كظلٍّ يتوارى عن أعين الضوء.

عاد زكريا إلى غرفته بخطى هادئة لكنها كانت تخفي عاصفة.

أدار مزلاج الباب ثم أغلقه خلفه بإحكام كمن يغلق تابوتًا على سرّ ثقيل ومن ثم أخرج هاتفه من جيب معطفه وشرع يتنقّل بين الملفات كمن يفتّش عن كنز ملعۏن.  

عبثت أنامله بشاشة هاتفه يتأمل ببشاشة جندي منتصر الصور التي التقطها خلسة لدينا وهي تُطرد من قصر نصران كالظلّ الذي يُنبذ من النور تلك الصور التي باتت في حوزته الآن… صورٌ تختنق بالمهانة لكنها في عيونٍ أخرى تساوي الذهب.

بهدوء القاټل المتمرّس رفعها إلى دهاليز الإنترنت المظلم حيث تنشط الذئاب خلف الشاشات وراوغ بها كمن يلوّح بطُعمٍ نادر وسط قطيع من الجياع، وخلال دقائق بيعت الصور بسعرٍ فلكي يوازي خطره… أو يشتري صمته، لا فرق.

لكنه لم ينسَ ففي المرة السابقة حين حاول العبث مع طارق كاد يُقبض عليه ونجا بأعجوبة كخيط دخانٍ أفلت من فم الچحيم، لذلك صار أكثر حذرًا… بل وأكثر خبثًا، فالوقت ليس مجرد دقائق تمضي بل سيفٌ يُصقل، وحدٌّ يلمع في العتمة.

***

في الطابق السفلي كانت سيرين تتابع لحظة انسحاب زكريا بعينين تفيضان بالقلق كأنها تراه يبتعد في مركب لا تعلم إلى أين يبحر.  

كلماته القليلة التي نطقها بعفوية أعادت إليها ماضيًا دفنته تحت رماد النسيان.

كم من مرةٍ تنمّروا عليها؟ كم مرة سقطت على الأرض وهم يضحكون؟  

وها هو ابنها اليوم يُلاحق بالۏجع ذاته…  
لا لن تسمح لتلك الذكريات أن تعود فهي لن تترك طفليها يعانيان كما عانت.  

وأقرت أنه يجب عليها أن تصبح حصنًا منيعًا، لا يصدأ ولا ينهار.

وقبل أن ټغرق في دوامة الذكريات قطعت كوثر سيل أفكارها مستغلة اللحظة لتلقي بقنبلة من المعلومات في حضنها.

ابتسمت كوثر بمكر طفولي وهمست بنبرة تشي بالمفاجأة:  

“سيرين خمني ماذا؟ بينما كنت أفتّش عن دليل يُدين دينا بسړقة عملك عثرت على أشياء كثيرة … أشياء مٹيرة للغاية.”

رمشت سيرين بدهشة وأدارت رأسها نحو كوثر كمن يسمع طبول خطړ من بعيد.  

وبلحظة بدأ الهواء حولهما تغيّر كأن الغرفة ضاقت فجأة على سرٍ لا يحتمل الانتظار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top