الفصل 180
بين ذراعيه وقفت سيرين كما لو كانت تمثالًا صاغته العاصفة، صلبًا من الخارج ممزقًا من الداخل… جسدها قريبٌ لكن روحها تتردد على عتبات القرار ومع كل ثانية كانت تنهار أسوارٌ بُنيت بينهما حجراً فوق حجر.
همست وبالكاد سمعها:
“لا أعلم… أأكرهك حقًا، أم…”
تعثرت الكلمات على لسانها كما تسقط الأوراق اليابسة من غصنها الأخير لكنها رغم تعثرها لم تكن سوى الحقيقة عاريةً من الزيف.
أما هو حين التقطت مسامعه عبارتها المبتورة شدّها إلى صدره كمن يخشى أن يفلت منه ظلّ حلمٍ أيقظه الندم متأخرًا ومن ثم رفع كفه الدافئ رغم ارتجاف قلبه وربّت على وجنتها بخفة كأنما يختبر أنها لا تزال له كما كانت ذات يوم.
شعرت سيرين أن اللحظة تنضج تحت عينيه فرفعت بصرها إليه وببطء اعتلت قدميه بأطراف خاصتها كمن يصعد نحو ذروة غير مرئية وطَبعت قُبلة على عنقه تتلوها أخرى على وجنته ثم أخيرًا ارتجفت شفتيها عند حدود فمه وفي تلك اللحظة هوى أحدهم من عليائه فقد شعر ظافر بأن قلبه يسقط، لا بين ضلوعه، بل بين شفتيها.
حاول أن يُقاوم… أن يتماسك بما تبقى من إدراكه فهو يعلم أنها تسعى لهدف لكنه فشل… بل سقط في هاويةٍ اختارها بملئ إرادته ووضع يده خلف عنقها ثم اجتاحها بقبلةٍ لم تكن ككل ما سبق… قبلة تحمل نداءً… أو ربما وداعًا فإذا كان مبتغاها ليلة فهو على استعداد أن يدفع ما تبقى من عمره مقابلها فقط ليشعر بها قريبة إلى قلبه.
تبدلت نظراته من الحظر إلى الهيام واحترق الهواء بينهما كأن الدماء بوريده بدأت في الغليان.
وحين قطعت سيرين السكون بصوتها المرتجف، قالت بنبرة خجولة فيها حذر أنثى لا تبوح بكل ما تُخفي:
“أشعر ببعض الخوف… هل يمكن أن نحتسي كأسًا من المشروب أولاً؟”
رمقها ظافر بنظرة عميقة كأنّه يغوص داخل عينيها يفتّش فيهما عن سبب الخوف أو عن حيلةٍ ما تدبرها له لكن حينما رأى دموعها المتجمّعة على ضفاف رمشيها قال بصوت متحشرج خشن:
“بالتأكيد.”
وما إن أدار ظهره ليحضر الكأسين حتى التقطت سيرين زجاجة النبيذ الأحمر القاتم من خزانة القبو وانتقت أقدم ما في هذا القصر من قناني وأشدّها تأثيراً.
واستغلت انشغاله والتقمت حبتين إحداهما تلك الحبة التي دسّتها كوثر في راحة يدها والأخرى…. وحالما رفعت كأسها إلى شفتيها تتظاهر بالارتشاف أسقطتهما بصمت في الكأس وأخذت تحركه بين راحتيها بلا مبالاة ظاهرية وذلك بالرغم من أنها كانت ترتجف وهي تفعل لكن التصميم كان أقوى من الرأفة… لم يعد ثمة مجال للخطأ… فهي تعرف أن الليلة لا تقبل الفرص بل الحسم… لو ظلّ واعيًا بالكامل لما سمح بشيء… أما وهي تخوض حربًا ناعمة بلا دماء… فعليها أن تنتصر.
سكبت سيرين مزيد من النبيذ في كأسها الذي لم تتذوقه بهدوءٍ يشبه طقوسًا سرّية كما لو أنها تستدعي شيئًا من الغيب… وبعدما سكبت السائل القاني في الكأس ببطء كأنه دمٌ ثقيل يسيل من جرحٍ قديم لم يُغلق يومًا ناولته الكأس بيدٍ بدت ثابتة رغم أن قلبها كان يرتجف كريشة في مهبّ الريح… ولتُبعد عن عينيه أي ريبة رفعت كأسها أيضًا وأعلنت بلطف:
“نخب هذه الليلة.”
تمتم ظافر دون أن ينظر في عينيها:
“هتافات.”
وابتلعت اللحظة بينهما كل ما تبقى من حذر… لم يدفعها بعيدًا كما كان يفعل في كل مرّة تتقرب إليه فيها بل رفع الكأس إلى شفتيه وشربها حتى آخر قطرة حينها ارتجف شيء في أعماق سيرين لا تدري إن كان خوفًا أو أملاً.
تحمحمت سيرين تخفي اضطرابها ومن ثم ارتشفت هي الأخرى من كأسها لكن اللهيب الذي اندلع في حلقها لم يكن بفعل الكحول وحده بل بما تحمله الليلة من احتمالات فسعلت بهدوء.
قال ظافر بصوتٍ منخفض وهو يرمقها بنظرة لم تفقد صرامتها رغم لمعان النبيذ:
“كان عليكِ أن تختاري لكِ مشروباً أقل تركيز… هذا لا يناسب جسدكِ.”
كانت ملاحظته كأنها طعنة مغمّسة بالاهتمام لا القسوة… إنه يعرف أنها اختارت النبيذ الأقوى، يعرف أنها تخاطر… لكن ترى هل يعرف مقامرتها الآن لأجل من؟
ردّت هامسة:
“لا بأس… سأكون على ما يرام.”
لم تُضف شيئًا آخر في كأسه فهي لم تكن بحاجة إلى المزيد… الحبتان اللتان دسّتهما كفيلتان لتهشيم وعيه بهدوء دون أن يشعر.
أما هو فكان مذهلًا في قدرته على الاحتفاظ باتزانه فبالرغم من اشتعال الكحول في عروقه إلى جانب مفعول الحبتين لم يرتبك، لم يترنّح بل اكتفى بأن فكّ ربطة عنقه ببطء كما لو كان يخلع قيدًا لا حاجة له الآن.
ثم وبلا كلمة أخرى تقدّم نحوها… ورفعها بين ذراعيه كما تُرفع الصلاة من فم عاشقٍ يائس ومضى بها إلى غرفة النوم.
كأنها لم تكن تُحمَل بل تُساق إلى قدرٍ كُتب مسبقًا بنبيذ، ورجفة، وسرّ.
في طريقهما إلى الغرفة لم ينبس بحرف جلّ ما كان يفعله هو حفر ملامحها الخجولة بذهنه… كم رأى من حِسان ولكن بسحرها لم يرَ… تنقلت نظراته المشتقة ما بين رموشها الكثيفة التي تزين عينيها الكحيلتين… وجنتيها المخضبتين بالحمرة وزادتها عليه شفاهها اللامعتان إثر المشروب.
أنزلها ببطئ مهلك ينعم بكل ما تتطاله راحتيه، يأخذ ما تهفو إليه روحه بتروٍ لكن عنوة… معادلة صعبة وهو ماهر في حل الألغاز.
انتفضت مبتعدة… كانت خطواتها خفيفة، لكنها مثقلةٌ بذكرى سنوات مؤلمة فالماضي لا يزال يئنّ في قلبها.
ثم كمن يوشك أن يغرق ويتمسك بطرف حياة أمسكت بقميصه برفق مرتجف وقالت بصوتٍ خفيض فاض منه الخجل:
“أنا آسفة.”
توقف ظافر لوهلة وكأن تلك الكلمة باغتت جرحًا لم يندمل بعد… تلاشى الشرر بين نظراتهما وارتسمت في عينيه دهشة لا تخلو من خوف فقد ظنّ لوهلة أنها تراجعت… أنها ربما قررت ألا تمضي في الأمر… لكنه فوجئ بصوتها ينساب من بين شفتيها المرتعشتين كهمسة اغتراب:
“أنا آسفة… لأني رحلتُ بعد أن تركت لك خبر موتي… كان يجب أن أقول شيئًا… أي شيء.”
ثم رفعت بصرها إلى عينيه، ونظرت فيهما نظرة لم ترمِ بها العتاب بل الغفران… نظرة لم تَقُل فيها إنها تحبه لكنها جعلته يشعر أنه كان محبوبًا… ورغم أنها كانت تزن كل كلمةٍ على حافة الخداع إلا أن دفء صدقها لحظتها لم يكن قابلاً للشك… كانت مستعدة لقول كل ما يجب، فقط لتنجو… لتُنقِذ نوح.
ابتلع ظافر ريقه دون أن يجد كلمات تليق بما سمع وقبل أن ينطق امتدت يدها ببطء إلى خصره ولمست جلده من أسفل قميصه بشفافية نداءٍ مكبوت.
همست باسمه على نحو لم يسمعه منذ زمنٍ بعيد…
“زاف.”
ارتجّ داخله… لم يكن نداؤها مجرد اسم بل كان مفتاحًا سريًا إلى أبوابٍ ظنّها قد أوصدها منذ زمن.
“أجل…”
أجابها بصوتٍ أجش أشبه بأنينٍ يُخفي ألف جرح ثم حملها إلى السرير ووضعها برفقٍ مرّ عليه نصل الشوق وارتمى بجسده فوقها كأنما يُحاول أن يلتصق بها ليمنعها من الغياب مرةً أخرى.
عيناها التقتا بعينيه… كان قربهما حميمًا لدرجة أن أنفاسهما تشابكت وتلاشت الفواصل بين الجسد والروح… لكن بين كل هذا القرب تسلّلت الرهبة إلى قلبها… ليس من لمسة، بل من فكرة… مما بعد هذه الليلة.
كانت خائفة أن يستيقظ ظافر، ويشعر أن النبيذ كان ثقيلًا أكثر مما يجب… خافت أن يدرك أنها دسّت له شيئًا في الكأس… أو ربما خافت أن يكرهها من جديد.
لكنها اسكتت عقلها عن الخوف بينما تفعّلت حواس الشك داخلها إذ أعتقدت وهو يهمّ بها أنه رجلًا يشتهي امرأة لا ماضيًا يجلد حاضره… كانت تلك اللحظة تنتمي إلى الجسد فقط، لا العقل…
حمقاء سيرين!! أنتِ حمقاء!! لا أريدك لهدف كما تسعين… فقط أريد سيرين خاصتي.
تلك الكلمات المتقاطعة جالت بعقله وأراد أن يصرخ بها… لكنه خائف من أن يُقصى عن نعيمه.
وهي مع كل الذنب، ومع كل نُبل دوافعها قررت ألا تهرب هذه المرة.
أغمضت عينيها…
وتركت نفسها تنجرف في موجٍ واحد أخير… قد لا يتكرر… أو ربما…
حسناً من يدري؟ لعلها صلاة ترفع دون انقطاع.