رواية عشق لا يضاهى للكاتبة أسماء حميدة كاملة حتى الفصل الأخير (الفصل 102)هروب دمية من اتحاد معذب كاملة

عشق لا يضاهى

الفصل 102

لم يكن ما يعصف بروح ظافر مجرد خديعة نسجتها عائلة “تهامي” بخيوط المكر لتزويجه من سيرين… بل كان الألم الأعمق، الطعنة الأبشع، أنها —بكل بساطة— زوّرت موتها وسافرت بعيدًا عابرة حدود القارات لتحيا في كنف رجلٍ آخر!

نظرت إليه سيرين وفي عينيها لهب من ندمٍ موشك على الانطفاء وهمست بصوتٍ متقطع كأنّه يحبو على جمر الذكريات:

“أنت تعلم أن ما فعلته عائلتي آنذاك… لم يكن لي يد فيه…”

لكن ظافر لم يمنحها شرف التبرير فقط أطلق كلماتٍ كالرصاصات:

“أتقصدين ما فُعل بي؟”
توقف للحظةٍ، ثم أردف وصوته يقطر مرارةً واحتراقًا:

“لكنّكِ استفدتِ من كل ذلك، أليس كذلك؟ صعدتِ فوق أنقاضي وبنيتِ حياتك على أنقاض قلبي!”

كان صوته مشبعًا بالغضب، لا ذاك الغضب الطائش بل النوع الذي ينحت صدر الرجل نحتًا ويترك فيه تجاويف لا تُملأ.

لم يكن غاضبًا فقط لأنها تزوّجته خداعًا بل لأنها اختفت فجأة كما يفر طائرٌ من قفصه وتركت خلفها قفصًا مفتوحًا وطفلًا ميتًا وماضيًا منهارًا.

وهي، سيرين، لم تجرؤ على ذكر الأمر… لم تتفوه بكلمة عن موت الطفل ولا عن علاقتها المشينة بكارم ولا حتى عن تمثيليتها السوداء… “وفاتها” وكأنها تنتظر منه أن ينسى أو يغفر بلا حساب ويعيد إليها نوح.

عمّ الصمت المشهد، صمت كثيف كالدخان قبل أن ينهض ظافر متثاقلًا ويغادر إلى الشرفة.

مدّ يده المرتجفة إلى علبة السجائر وأخرج واحدة كأنها سكين لجرحٍ جديد… أشعلها وسحب أول نفس كأنما يحاول أن يُطفئ بها نيران صدره.

الهواء البارد صفع وجهه فجعل عينيه تحمران لكنه لم يهتم، وعلى حين غرة باغته السعال لكنه ظلّ يبتلع الدخان.

كان يهرب… من نفسه ومنها ومن كل ما حدث وما لم يُقال.

هو نفسه لم يفهم… لماذا يُبقيها في حياته؟ لماذا لم يُنهِ كل هذا العبث؟
هل هو الحب؟ تمتم كمن يحاول إقناع نفسه بكذب يعلم حقيقته:

لا لقد مات الحب منذ زوّرت موتها.

ربما هو الاستياء… ذلك الشعور القذر الذي يتعفّن في القلب حين تدرك أن أحدهم كذب عليك طويلًا وتركك تبحث عنه، تلهث، تحترق، بينما هو في حضن شخصٍ آخر.

أربع سنوات من العذاب، من خيالاتها في كل وجه، من سؤالٍ بلا إجابة.

كان يحتقن حين يتذكّر كيف اختارت ببساطة أن تتركه.

كيف خرجت من حياته دون أن تلتفت، دون دمعة، دون كلمة وداع.

ظل يتذكّر المشهد… يوم طلبت الطلاق بصوتٍ هادئ بملامح جامدة وكأنّها تطوي ورقة لا تعني لها شيئًا، في حينه لم يصدّق… ظنّها تهدّده… لم يدرِ أنها كانت تُنفذ مخططًا مدروسًا، أنها كانت تمضي خطوةً تلو الأخرى نحو الهرب، نحو النسيان.

أطفأ السيجارة وعاد إلى الداخل… ملامحه باردة، وملابسه مشبعة برائحة السجائر والصقيع.

قال بصوتٍ خفيض لكنه حاسم:

“دعينا نذهب إلى المنزل.”

تجمد الزمن للحظة.

“بيت؟”

تساءلت سيرين في نفسها، ونظراتها تحمل الحيرة والخذلان.

أي بيت؟

أهو ذاك الذي يسكنه الجدران؟ أم ذاك الذي ينهار في صدورنا حين نخسر أنفسنا فيه؟

ما إن أغلق ظافر باب السيارة حتى تتابعت نوبات السعال تحرق رئتيه كأنها شهقة حياة تُقاوم الموت في صدرٍ منهك.

كان يقود بعينين نصف مطفأتين بينما المطر ينهمر كدموع سماوية على الزجاج يرسم خطوطًا متعرجة وكأنها سطور رسالة بهت حبرها.

أما سيرين ظلت تحدق بصمتٍ واجم في انسياب المطر على النافذة كأنها تهرب إليه من زحام صوت داخلي يصيح.

لم تلتفت، لم تنبس وبدا العالم كله سُحب من بين يديها ولم تشعر بفقده، ربما كان البرود الحقيقي لا يشبه الغضب بل يشبه تمامًا تلك اللحظة التي لا يعود فيها القلب يهتز لشيء… لحظة يصير فيها الحب مجرد صفحة طويت بلا أثر أو ربما كلاهما يخدع نفسه.

ألقى ظافر نظرةً سريعة إلى المرآة الخلفية…

هناك، في المقعد الجانبي بدت سيرين كتمثال من صقيع، لا غضب ولا حزن، فقط سكون قاتل. ولجمودها شعر بوخزٍ نافذٍ يخترق صدره… ألم لم يكن عضويًا بل وجع من نوع خاص؛ كأن روحًا ما انفصلت عنه وهو يراها على هذا النحو.

وبعد ليلة تشبه العراء في سماء الخذلان عادت سيرين لتنام في غرفتها القديمة بقصره… غرفة تشهد على ذكريات كانت يومًا تنبض.

مع أول خيوط الفجر نزلت سيرين بخطوات هادئة كأنها تختبر الأرض من جديد عيناها تبحثان عن شيء لم تعد تعرف اسمه.

وفي غرفة الطعام كانت وجبة الإفطار معدة بعناية.

شيء لم تعتده قط… طعام جاهز، وربما أعده ظافر بنفسه، ترددت، فقرأ ظافر تساؤلها قبل أن تنطق:

“ماهر مَن اشتراها… إذا احتجتِ أي شيء… قولي له.”

قالها وهو يقترب بخفة، يسحب الكرسي ويجلس كأن الأمس لم يكن.

أما هي فجلست على الطرف الأبعد، ذلك الركن الذي لا تصله حرارة القرب، فوقعت عيناها على سلة المهملات… تلك الصورة الباهتة بالأبيض والأسود الخاصة بها مدفونة كأنها جريمة.

“صبراً سيكون كل شيء على ما يرام…” همست بها لنفسها بنبرة تحمل الإصرار
فقد قضت طوال الليل تفكر… طالما نوح بأمان يمكنها أن تبقى… المهم أن تحصل على ما أتت لأجله… سائل ظافر المنوي، وما إن تنجح سترحل في صمت يشبه الذي دخَلَتْ به حياته.

رأى ظافر في وجهها فتورًا أقل، فشعر بتحسن خادع كأن شيئًا فيه أراد تصديق أن الجليد الذي بينهما بدأ يذوب.

وبينما كانت تأكل بعضًا من بسكويت الشوفان على مضض، سألت بنبرة تنبش جرحًا:

– “وماذا عن صديقتي؟”

أجاب دون اكتراث، كمن يطوي صفحة في كتاب لا يعنيه مصيره:

“أطلقت سراحها.” ثم أضاف بنبرة جافة:

“دينا فنانة متعاقدة مع كارنيفال سنترال ميديا والتي – كما تعلمين – تابعة لمجموعة نصران، فاخبري صديقتك أن تكفّ عن نشر الهراء.”

قبضت سيرين على ملعقتها كمن يوشك أن يُلقيها كرمح في وجهه بعد أن أكد لها ظنونها إذ كان ظافر قد فعل كل ذلك فقط… لحماية دينا.

قالت وقد احتدّ صوتها قليلًا:

– “صديقتي لم تنشر ذلك من فراغ… دينا سرقت لحنًا لملحن أجنبي، وصديقتي هي محامية ذلك الملحن.”

قهقه ظافر ساخرًا كأن العدالة بالنسبة له لعبة مسلية:

“إذا كانت محامية كما تقولين، فينبغي عليها أن تعرف ما يُقال وما يُخفى.”

ابتسامته كانت كخنجر مغموس في السخرية غُرز في قلب سيرين ببطء.

ولمّا لم يُدرك عمق ما فعله، تابع بصوت أكثر برودًا:

“ثم إن مهاراتها مهما بلغت لم ولن تُقارن بقسمنا القانوني، فلو كانت عزيزة عليكِ إلى الحد الذي جعلكِ تقبلين بالبقاء هنا بعيداً عن كارمكِ، حذريها فهي إن فكرت في المواجهة، ستخسر… وبسهولة.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top