رواية عشق لا يضاهى بقلم الكاتبة أسماء حميدة الفصل 109 ظافر وسيرين

عشق لا يضاهى

الفصل 109

جلست سيرين إلى مائدة العشاء في بيت كوثر كما تجلس روحٌ متعبة إلى ظلِّ شجرةٍ هاربة من وهج الظهيرة.

تبادلت معها أطراف الحديث، لا لتستزيد من الكلام، بل لتُسكن اضطرابًا لا يكفّ عن الضجيج في داخلها.

ضحكتا قليلًا، صمتتا طويلًا… ثم تسلل المساء إليهما كقطٍ وديعٍ يختبئ في عتمة الدقائق.

وحينما همّت بالمغادرة لاح لها القمر شاحبًا من خلف زجاج السيارة كأنما يراقب خطواتها بشفقة.

صعدت إلى السيارة التي أعادتها إلى قصر ظافر بصمتٍ أثقل من الضباب.

هناك وقبل أن تغادر لم تُرِد أن تُثقل على زكريا بمخاوفها ولا أن تجعل من قصر ظافر الذي يأويها الآن مَثار تساؤلات ولهذا توسّلت إلى كوثر بنظراتٍ لا تحتاج إلى كلمات:

“لا تخبريه بشيء… لا عن مكاني، ولا عن نوح.”**

أومأت كوثر موافقةً وإن كان قلبها قد التوى من هذا الرجاء.

لكن الأطفال… لا يُخدعُون بسهولة خاصة حين يكونون أذكى من أعمارهم… فزكريا بعينيه اللتين تريان ما خلف الأستار كان قد التقط منذ الصباح شيئًا غريبًا في نظرات سيرين، في نبرة صوتها، في الطريقة التي أمسكت بها فنجان القهوة ولم تشربه… أحسّ بأن شيئًا ما انكسر داخلها وإن كانت تتظاهر بالتماسك.

ولأنه فتى يُجيد قراءة الصمت لم يُثقل عليها بسؤالٍ مباشر؛ بل ترك الأمر يتخمّر في عقله، يُخطّط ببراعة طفلٍ طفرة لاختراق جدار الحقيقة من حيث لا تتوقع، فتمتم:

“سأعرف كل شيء من عمتي كوثر…”
هكذا همس لنفسه وهو يستلقي على فراشه، لكنه لم يغلق عينيه، بل ظلّ يُحدّق في السقف، يتأمل الشقوق المرتسمة وكأنها خرائط تقوده إلى قلب سيرين الغامض.

في تلك الليلة التي تمدّدت فيها الشمس كسجادة حمراء على عتبات الغروب عاد ظافر إلى قصره مع الخامسة مساءً.

خطاه ثقيلة رغم نعومة السجاد كأنما ترك خلفه في الشركة ضجيجًا لم يفارقه… ألقى بجسده المنهك على أريكة غرفة المعيشة وبقي هناك كتمثالٍ تملأه الأسئلة.

عيناه التفتتا نحو طاولة القهوة… وهناك في المنتصف تمامًا استقر صندوق هدايا أنيق كأنه قطعة من الزمن تنتظر من يفتحها ليبدأ الحنين.

دقّ جرس الساعة، إنها العاشرة مساءً.
عقارب ساعة “أوشتران” المصممة ببذخ نبضت على الحائط بنغمة باردة.

**عاشرة؟**

ولا أثر لسيرين.

لم يسبق لظافر أن انتظر أحدًا بهذا الشكل من قبل… لم يعتد أن يُعلّق قلبه بسهم توقيت لا يملكه.

ضاق صدره، فشدّ ربطة عنقه بانفعال وكأنها تخنقه، وقطّب حاجبيه اللذين لم يعتادا على العبوس.

تناول علبة الهدايا بيده الطويلة الممشوقة، تلك اليد التي عرفت كيف تصافح النجاح وتُسقط الخصوم لكنها الآن ترتجف لوهج امرأة.

فتح العلبة مرة أخرى يتفحّصها كما لو أنه يراها للمرة الأولى… فقط أراد أن يتأكد… هل سترضيها؟

هل ستلمع عيناها حين تفتحها؟ أم ستغلق الغطاء وتغادر دون أثر؟

مرّت الدقائق كما تمرّ السكاكين على جلد الصبر.

وحين بلغت نصف الساعة بعد العاشرة انتفض واقفًا.

كان الغضب قد صعد إلى عنقه مثل دخانٍ حارّ فحمل العلبة في يده وكاد يخرج بنفسه ليأتي بها لكنها دخلت… فجأة.

دارت المفاتيح في القفل، ثم انفتح الباب بصوتٍ بدا وكأنه خُرْقٌ للصمت.

وظهرت.

سيرين.

كأن الليل كله اختصر نفسه في شخصية واحدة:

فستان طويل بلون زاهي ينساب على جسدها كما ينساب النور على صفحة الماء وحذاء بكعبٍ عالٍ يطرق الأرض بنبضٍ أنيق.

التقت أعينهما.

لحظة واحدة لكن داخلها كان زلزالًا.

هو لم يتحرك بل تاهت نظراته بتلك الساحرة التي أذهبت عقله على الأخر، وهي لم تنبس… مر وقت لا يعلما عدد دقاته حتى تنفّست سيرين وقالت وكأنها تعيد الأرض إلى دورانها:

“ما زلت مستيقظًا؟”

كأنها لم تعرف أنها أيقظته في كل دقيقة غابت فيها.

كان مستيقظًا؟

لا. كان جائعًا… ليس للطعام، بل لتفسير، لاعتذار، لعتبٍ يُعيد ميزان الهيبة إلى مكانه.

صوته خرج كصفعة ناعمة:

“أين كنتِ؟ لمَ تأخرتِ؟”

سؤال لكنه في الحقيقة كان إعلان حربٍ.

ابتسمت سيرين بخفةٍ خالية من التوتر كمن اعتاد التعايش مع الدخان دون أن يختنق:

“آه، ذهبتُ لتناول العشاء في منزل صديقة.”

ثم خلعت حذاءها برشاقة، وارتدت نعالاً منزليًا ومضت بهدوء إلى السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي تمرّ بجانبه دون أن تترك في الهواء سوى عطرٍ معقّد لا يُنسى.

لكن في أعماقها…

كان هناك سؤال يتلوّى:

“ظافر؟ لماذا يسألني؟ ألم يكن دومًا يعلم أين أكون؟ ألم يكن يزرع عيونه في كل منعطف؟”

لماذا الآن فقط يشعر بغيابها؟
هل بدأت تُخفي عنه شيئًا… أم أنه بدأ يخاف من فقدانها؟

لم يعد في صدره متّسعٌ لمزيدٍ من الصبر… كأن كل لحظة من صمتها كانت مسمارًا جديدًا يُدقّ في جدار أعصابه.

اعترض ظافر طريقها بجسده الطويل العريض يقف كجدارٍ لا يُمكِن تجاوزه ونظر إليها بنظراتٍ حادة كأنها أسهمٌ وبرغم قوتها إلا أن مقلتيه كانت تتوسلها الاهتمام:

“ألن تسأليني… أين كنتُ؟ ماذا فعلتُ اليوم؟”

خرج صوته مشدودًا كوترٍ قُرِع بعنف… صوت يخرج من قلبٍ طاغٍ لا يطلب بل يؤمر فيطاع، والآن بات حائر بين كبرياء يهدر وقلب يرجوه الخضوع.

رفعت سيرين نظرها إليه وعيناها الهادئتان ما زالتا ساكنتين، لكن في عمقهما بحرٌ لا يهدأ، تقول بخفوتٍ أقرب إلى البرود:

“ألستَ تعمل؟ ماذا عساك تفعل غير ذلك؟”

لم تكن تتحداه لكنها قالت الحقيقة كما يلفظ الماء بخاره بلا تكلّف… فطوال سنواتها معه لم يكن ظافر يعرف معنى الراحة… عطلات نهاية الأسبوع كانت تُقضى في الاجتماعات والأعياد كانت فصولًا إضافية من الإرهاق.

لكن نظرة عينيها… تلك النظرة الصافية التي تشبه صفحة ماء قبل أن تُلقى فيها الحجارة أذابت شيئًا في صدره.

كان على وشك الانفجار، على وشك أن يُلقي بالكلمات ككرات لهب… لكنه توقف… الهدوء في وجهها أربكه.

اقترب منها خطوة… ثم خطوة أخرى.
وبيده مدّ لها صندوقًا صغيرًا مغلفًا بعناية كأن فيه اعتذارًا غير منطوق.

“إنها هدية من أحد عملاء الشركة.”
قالها بنبرة حاول أن يجعلها حيادية لكنها خرجت باهتة… خجولة.

حدّقت سيرين في الهدية، وعيناها مثبتتان على العلبة كأنها تُفكك معناها لا مظهرها.

لم تمد يدها. لم تتحرك… ولسببٍ لا يعلمه شعر ظافر بأن تلك العلبة مهما كانت ثمينة أصبحت ثقيلة كأنها تحمل وزر ماضٍ لم يُنسَ.

ذاكرتها أعادت عرض المشهد القديم كما لو كان يحدث الآن… ذلك اليوم… حين دفعها طارق إلى المسبح… لم يكن غرقًا عاديًا… كانت صرخة ماءٍ تبتلع الصوت وطبلة أذنها التي تورمت كادت أن تُعلن موت السمع… وفي المساء جاء ظافر بهدية… قلادة.

وقال: “ما كان ليحدث شيء… لو أنكِ لم تذهبي إلى أماكن كهذه.”

كأنه كان يلومها على ما أصابها بينما كانت تنتظر عناقًا لا تعنيفًا.

تلك كانت أول مرة يمنحها فيها شيئًا ثمينًا.
فرحت… نعم، فرحت كطفلة أُعطيت قطعة سكر لكن تلك القطعة ذابت سريعًا في فم الخذلان.

ومنذ ذلك اليوم كل هدية أصبحت قيدًا جديدًا حول عنقها.

كل باقة ورد كانت تحمل رائحة تبرير، لا محبة.

كل مرة تُجرح… يُقدّم شيئًا لامعًا ويصمت.

ثم جاء اليوم الذي سمع فيه حديث أصدقائه:

“النساء مثلها يرضين بهدية باهظة، فهي حتماً لا تختلف عن والدتها، كلاهما يعرف كيف ينبش الذهب تحت الرماد.”

كان وقع الكلمات عليها كصفعة تُوجّه للروح… ومن يومها ردّت على كل هدية بالدموع لا بالامتنان.

وحين غضب… قبض على يدها، وقال بحدة:

“ما هذا الضجيج؟ إن لم تريدي الهدايا فلن تحصلي على المزيد!”

وبالفعل، منذ تلك اللحظة لم يمنحها شيئًا… لا هدية ولا حتى كلمة مواساة… ومع ذلك كلما طال جلوسها معه مؤخرًا كلما اجتاحتها تلك الذكريات القديمة كفيضانٍ لا يُردّ.

ذاكرة لا تنام، مهما حاولت أن تُسكتها.

أفاقت من شرودها… ونظرت إلى الصندوق المغلق ثم رفعت عينيها إلى ظافر وقالت ببساطة:

“لا أريده.”

كانت كلماتها ناعمة لكن وقعها عليه كان كالسيف.

صوتها لم يرتفع، لكنه اخترق كبرياءه كما تخترق الحقيقة قناع الكذب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top