رواية حتى بعد الموت الفصل 9

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل التاسع

ساد الصمت الثقيل أجواء السيارة، حتى بدا كأن الزمن توقف. وحده صوت مرام المرتفع شقّ هذا الجمود، مفعمًا بالقلق، فتناهى إلى أذني نوران وهي تنادي: “رُكان!”

ارتجف قلبها من وقع الاسم، وعاد بها الزمن إلى لحظة لم تمحُها الذاكرة. يوم استلامها تقرير الحمل، حين صادفت أحمد يعانقها بحرارة، وبحماسة الأطفال بشّرته:
“أحمد، سنُرزق بطفل! ستصبح أبًا!”

كان الفرح يشع من عينيها وهي تتابع:
“فكرت في اسم مولودنا، سيكون كوليت إن كانت فتاة، ورُكان إن كان ولدًا. ما رأيك؟”

تمنّت لو أن أذنيها خدعتها عندما سمعت اسم “رُكان” من مرام، لكن أحمد، دون أن يطرف له جفن، نظر إليها بثبات وقال:
“اسمه رُكان.”

يا لها من صفعة! امتدت يد نوران، وصفعته، لكن جسده بقي صامتًا، لا يتحرك، كأنه سلّم نفسه للعقاب.

“كيف تجرؤ على تسمية طفلها باسم طفلنا؟”

كان ذكر طفلها كمن أيقظ وجعًا دفينًا. دموعها سالت على وجنتيها دون رحمة، وانقضّت عليه بهياج يشبه الجنون.

“أيها الشيطان! لماذا لم تكن أنت من مات؟!”
وانهمرت عليه ضربات الغضب واليأس، وهي تصرخ:
“لا يستحق هذا الاسم!”

أمسك أحمد بذراعيها ليردعها، ثم وجه كلامه إلى كامل، الذي كان يقود السيارة:
“اتجه إلى خليج النوارس.”

اشتعلت غضبًا، وصاحت:
“نحن على بُعد دقائق من مبنى البلدية! انهي أمر الطلاق أولًا قبل أن تجرّني إلى أي مكان آخر!”

أجاب بحدة وهو ينظر عبر الزجاج:
“حرارته لا تهدأ. يجب أن أعود الآن.”

شهقت نوران وهي تصرخ:
“والدي يرقد غائبًا عن الوعي في المستشفى، ولا يُسمح لي برؤيته بسبب فاتورة! هل تظن أن حياة طفلك أهم من حياة والدي؟”

اشتد وجه أحمد، وظهر فيه شيء من الحنق:
“كيف تجرؤين على مقارنة والدك برُكان؟!”

رفعت يدها لتصفعه مجددًا، لكنه أمسك معصمها بقوة، وهو يصرخ:
“هل انتهيتِ؟!”

انعطفت السيارة مبتعدة عن مبنى البلدية. تابعت نوران المشهد من النافذة، وهي تزداد وعيًا بأنها تفقد زمام الأمور. ضمّها أحمد فجأة إلى صدره، في حركة أشبه بالقيد منها بالعناق.

كم كان حضنه يومًا ملاذًا، أما الآن فلم يكن سوى سجنٍ لا فكاك منه. ذراعاه القويتان كانت تعني لها الأمان، أما الآن فهما رمز للعجز.

صرخت بحرقة:
“هل تحب مرام إلى هذا الحد؟!”

لكن أحمد، وهو يحملها، شعر بجسدها الضامر، كأن العظام صارت أقرب إلى سطح الجلد. كم أصبحت نحيلة، كأنها ظلُّ نفسها التي أحبها يومًا.

لحظة خاطفة، مرت في ذهنه صورة شقيقته الراحلة، فاشتدت قبضته على خصر نوران قليلًا، بينما غابت ملامح الرحمة من عينيه، لتحلّ محلها عتمة لا قرار لها.

“صدقيني، إذا واصلتِ هذا الجنون، سأطلب من أحدهم فصل جهاز التنفس عن والدك!”

سقطت كلمات أحمد كالسيف على قلبها. سكتت نوران، وتشبثت بقميصه بضعف، وبلّلت دموعها قماشه، متذكرة كلماته ذات يوم:
“لن أبكيكِ أبدًا.”
لكنه اليوم، هو من فجّر كل دموعها.

عاد الصمت يخيم على الأجواء، لكن هذه المرة كان ممتلئًا بالانكسار. ابتعدت نوران عنه، وقوّمت ظهرها، ثم قالت ببرود:

“هذا قرارك إن كنت تريد الذهاب لطفلك، لكن لا تفسد خطتنا. لا تقلق، لن أمنعك. سأطلقك مهما حدث، فأنا لا أحتفظ بنفايات الآخرين.”

تجهم وجه أحمد عند سماعه كلمة “نفايات”، لكن نوران لم تلتفت إليه، وأكملت:

“أعترف أنني كنت ساذجة حين علّقت أملي عليك. رأيت الآن الحقيقة كاملة، ولم يعد هناك ما يستحق الانتظار. أعطني المال، وسنتابع الإجراءات لاحقًا. أعدك أنني سأكون حاضرة على الهاتف. لن أخلف وعدي.”

فقال أخيرًا، وعيناه لا تزالان تبحثان في ظلام مشاعره:
“وماذا لو لم أرغب في ذلك؟”

حدّقت نوران في عينيه الداكنتين، عميقتين ومقلقتين، كأن فيهما بحرًا من الغموض. كانت دموعها، التي لم تجف بعد، قد جلت رؤيتها، فجعلت عينيها أصفى من أي وقت مضى.

بهدوءٍ شديد، التقت نظراتها بنظراته وقالت بصوتٍ بارد كالصقيع:
“سأقفز من السيارة إذًا. الموت أهون عليّ من أن أعجز عن إنقاذ والدي.”

حينها فقط، أخرج أحمد شيكًا وكتب عليه دون تردد:
“سأحوّل إليكِ الخمسة ملايين الأخرى بعد الطلاق.”

قهقهت نوران ضاحكة، سخرية تقطر من صوتها:
“هل تخشى فعلاً ألا أطلّقك؟ لا تقلق. الموت أكثر رحمة من البقاء إلى جانب رجل مثلك. أوقف السيارة.”

انتزعت الشيك من يده، أغلقت باب السيارة بعنف، ورحلت دون أن تلتفت.
وفي تلك اللحظة، شعرت أخيرًا بأنها استعادت زمام أمرها.

تمكنت من دفع تكاليف علاج والدها، بعد أن هرعت لصرف الشيك وتوجهت فورًا إلى المستشفى. أنقذت والدهــا… أنقذت الرجل الوحيد الذي لم يتخلّ عنها يومًا.

لاحقًا، استقلت سيارة أجرة إلى العنوان الذي أعطاها هشام. كانت مقبرة فخمة وخاصة، لا يُدفن فيها إلا من كان من الأثرياء أو ممن فاقت ثرواتهم الحدود. هنا، في هذا المكان، دُفنت جدّة أحمد، يوجينيا القيسي.

اشترت باقة زهور الجريس الزرقاء، الزهور التي كانت تحبها يوجينيا. وما لبثت أن وجدت قبراً بدا حديثاً، تحيط به دائرة من أشجار البرقوق، كانت براعمها على وشك التفتح. اقتربت من الشاهد الحجري، فقرأته بتمعّن:
“ليا القيسي.”

توقف الزمن في قلب نوران. ليا… هذا اسم لم تسمعه من قبل.

كانت تعلم أن لأحمد أختًا، لكن الحديث عنها كان من المحرمات في عائلته. لم يجرؤ أحد على ذكرها، وكأنها طيف لا يُستحضر. والآن، ها هو اسمها منقوش على شاهد قبرٍ هادئ.

انحنت نوران لتنظر إلى الصورة. كانت الطفلة في الخامسة أو السادسة من عمرها، ممتلئة الوجه، بعينين تذكّرانها بعيني أحمد… نفس البريق، نفس الانكسار.

لم تكن تعلم ما ستفعله بهذه المعلومة، لكنها التقطت صورة للقبر. دليلٌ، وإن بدا بسيطًا. وضعت باقة الزهور عند شاهد قبر يوجينيا، الذي كان قريبًا، ثم ركعت عند قبر ليا وهمست بصوت متهدّج:

“مرحبًا ليا… أنا نوران. كنت زوجة أخيك. أو ربما من المفترض أن أقول إنني زوجته السابقة. آسفة لأن لقائي بك جاء في هذا الظرف. أعدك أن أبحث عن الحقيقة، أن أجد من فعل بكِ هذا.”

ثم توجهت إلى قبر يوجينيا. صورتها على الشاهد كانت تنبض بدفء غريب، كما لو أنها لا تزال على قيد الحياة. ابتسامتها كانت كما تتذكرها نوران: حنونة، مطمئنة.

أخرجت من حقيبتها بعضًا من حلوى الخطمي المشوية، كانت قد أعدّتها صباحًا. وضعتها بلطف أمام القبر.

“جدتي… جئت لأراكِ. الجو بارد، والشتاء طويل. المارشميلو لم يعد له طعم من دونك، فلم تعودي هنا لتسرقيه مني وتبتسمي.”

جلست على الأرض، متعبة، مثقلة بالذكريات، وكأنها تعود إلى حضن جدتها.

“آسفة يا جدتي، لم أستطع الاحتفاظ بالطفل. لكن لا تقلقي، أحمد أنجب طفلين آخرين، ولم يعد أمر النسب يقلقه على ما يبدو.”

تنهّدت، واستمرت:
“لقد تغيّر. لم يعد ذلك الرجل الذي كنتِ تظنينه سيحميني. الآن… هو مصدر كل معاناتي. لو كنتِ هنا، لما سمحتِ له بمعاملتي هكذا، أليس كذلك؟”

ضحكت ابتسامة متعبة، ثم قالت:
“سنتطلق قريبًا. هل تتذكرين وعدك؟ قلتِ إن ظلمني، ستخرجين من نعشك وتصفعينه. لا تقلقي، سأكون بجانبك عندما تفعلين. أيامي معدودة، وسأأتي إليكِ قريبًا. سنخرج من تحت الأرض معًا، ونركله بأقدامنا. ماذا تقولين؟”

نظرت إلى صورة جدتها، والحنين يملأ عينيها.

“ما شعور الموت؟ هل هو ظلام أبدي؟ أنا أخشى الحشرات التي قد تلدغني في القبر. هل ستساعدينني في طردها؟ سأجلب لكِ الزهور دائمًا، فقط ابقي قريبة.”

رفعت رأسها، وحدّقت في السماء الملبّدة بالغيوم. ثم همست:

“أفتقدكِ يا جدتي… أفتقدكِ كثيرًا.”

الرواية كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top