رواية حتى بعد الموت الفصل 14

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 14

كانت ليان في أسوأ حالاتها، متوترة، حادة الطبع، ولولا تدخل نوران في اللحظة المناسبة، لكانت افتعلت شجارًا مع الرجال في الصالة.

لم تكن نوران قد رأت صديقتها من قبل على هذا النحو، تتشبث برجل وتجهش بالبكاء. لم يكن أمام نوران خيار إلا أن تأخذ بيد صديقتها المتألمة وتعيدها إلى مسكنها الجديد بهدوء واحتواء.

قبل أسابيع، كانت مقدّمة الرعاية الخاصة بوالدها قد أبلغتها عن شقة للإيجار تعود لأحد أقاربها، بعدما علمت بأن نوران تبحث عن مسكن بسيط. ولتوفير رسوم الوكالة، قررت نوران الاستقرار فيها، خاصة بعدما أيّدت مقدّمة الرعاية الفكرة وشجعتها على المضي قدمًا.

وبما أن مالك الشقة كان مغتربًا ولن يعود في وقت قريب، اكتفت نوران بموافقته عبر رسالة “واتساب”، وانتقلت للعيش فيها دون توقيع عقد رسمي، وهو ما جعل تتبعها أمرًا بالغ الصعوبة على أحمد.

لم تكن الشقة تضاهي منزل عائلتها في أوج مجدهم، ولا تشبه الفيلا الرحبة التي جمعتها بأحمد، لكنها كانت كافية — دافئة بهدوئها، ومألوفة بصمتها. وجدت فيها شيئًا من السلام الذي افتقدته طويلًا.

حتى أنها نقلت إليها سمكة والدها الاستوائية المفضلة، وكأنها تحاول أن تحتفظ بجزء من دفء العائلة رغم كل الانكسارات.

كانت تطلّ من النوافذ فترى البحر يحيطها من الجهات كلها، وكأن الأمواج تطمئنها بأن الحياة لا تزال ممكنة.
في إحدى المرات، تخيّلت أن خليج النوارس كان هدية أحمد لها، لكنه وهم سرعان ما تبدد عندما علمت أن مرام قد عادت إلى الريف واستقرت في ذلك المكان نفسه.
ترك ذلك في قلبها جرحًا صامتًا، لكنها عرفت كيف تلتئمه، رويدًا رويدًا، بقبول الواقع. فسواء كانت في شقة متواضعة أو قصر فخم، البحر هو البحر، لا يميّز بين قلب وقلب.

في الشرفة الصغيرة التي فرشتها بسجاد سميك، كانت تخطّط لتجهيز مكان مريح لاستقبال والدها عندما تتحسن حالته، حلمت أن يعيش معها أيامه الأخيرة هناك، تحت الشمس، بسلام لا يعكّره شيء.

لكن الحلم انكسر حين باغتهم تشخيص السرطان، ولم يكن من السهل عليها أن ترى والدها حبيس العناية المركزة، معلقًا بين الرجاء والخوف.

تلك الليلة، حين عادت برفقة ليان، شعرت بإعياء شديد، فتناولت دواءها بهدوء، وتمددت على فراشها بالقرب من سرير إضافي وضعته في غرفتها. لم يكن الوضع مريحًا تمامًا، لكن جسدها كان بحاجة ماسة إلى الراحة.

غفت أخيرًا، واستفاقت متأخرة. أما ليان، فكانت قد استيقظت مبكرًا، أعدّت الإفطار بصمت، وكأنها تحاول أن تعتذر عن اضطراب الأمس بطريقة غير مباشرة.

لم يُفتح حديث عمّا حدث في الليلة الماضية. الصمت بين الكبار أحيانًا أبلغ من الكلام، خاصة حين يكون القلب مثقلاً بما لا يُقال.

بعد الإفطار، هرعت ليان إلى الباب، تمسك بحذائها ذي الكعب العالي وتضع قطعة خبز في يدها.
قالت بسرعة:
“أعددت الفطور، لكنني متأخرة، عليّ الذهاب!”

نادتها نوران:
“ليان… ربما لن أكون متفرغة خلال الأيام المقبلة. لدي أمور كثيرة يجب أن أنجزها.”

التفتت ليان، وابتسمت بثقة جديدة:
“لا تقلقي بشأني، نوران. صدقيني، احتفال الأمس كان وداعًا لمرحلة، لا انكسارًا. اليوم، استيقظت امرأة مختلفة. لن أركض خلف أحد بعد الآن. سأركّز على عملي، وسأختار كرامتي على أي شيء آخر. لكن إذا احتجتِ إلى شيء، فقط أخبريني، فأنا هنا دائمًا.”

ضحكت نوران، ثم تقدمت منها وعانقتها بحرارة، وهمست:
“ليان… ستجدين يومًا من يستحقك. أحيانًا علينا أن نعبر الألم لنصل إلى سعادتنا الحقيقية.”

قالت ليان بسخرية، وقد ارتسمت ابتسامة لاذعة على محياها:
“ما أبلغ هذا الكلام! لكنكِ لم تتمكني حتى من الاحتفاظ بزوجكِ المثالي. لِنرَ إن كنتِ ستجدين رجلاً يشبهه في المستقبل.”

رفعت نوران عينيها نحو الشمس، ثم ابتسمت بهدوء، وقالت بنبرة غامضة:
“في المستقبل؟ ومَن يدري؟”

كانت ليان على وشك المغادرة، إلا أن مشهد نوران واقفة وحدها، في صمت الغروب، أوقفها للحظة. اقتربت منها بهدوء، وضمّتها من الخلف، ثم قالت:
“سأنشغل قليلًا خلال الأيام المقبلة، لكن ما إن يهدأ الجو، سألحق بكِ. اعتني بنفسكِ، حسنًا؟ فالثلوج ستهطل قريبًا، وإن لم يكن ثمة مَن يدفئكِ، فلا تنسي أن تعتني بنفسك.”

أجابت نوران بصوت خافت:
“حسنًا، سأفعل.”

بعد رحيل ليان، بدأت نوران في ترتيب الشقة وتنظيفها بهدوء، قبل أن تفتح هاتفها. ولدهشتها، وجدت مكالمة فائتة من أحمد.

ظنّت أنه اتصل بها لمناقشة مسألة الطلاق، إلا أنها لم تكن تملك الوقت أو النفسية الكافية لمثل هذا الحديث في الأيام القليلة المقبلة.

كما لاحظت أيضًا عدة مكالمات من نُهى، فقررت الردّ عليها، وما إن فعلت، حتى جاءها صوت نُهى مرتبكًا وقلقًا:

“نوران، لماذا لم تُجيبي على مكالماتي؟ لقد أقلقني غيابكِ. هل تحتاجين إلى المال؟ يمكنني تحويل المبلغ فورًا.”

شعرت نوران بشيء من الهدوء وهي تستمع إلى صوت الأمواج المتلاطمة بالصخور. كانت تلك الأمواج تذكّرها بالسنوات القاسية التي أعقبت رحيل نُهى، سنواتٍ أمضتها تتساءل: لماذا اختفت أمها دون أثر؟ لماذا تخلّت عنها دون تفسير؟
لكنّ الصدمة الكبرى كانت حين علمت أن نُهى أصبحت زوجة أبي مرام.

من بين جميع النساء… مرام؟!

لكن، ومهما بلغ الألم، فإن الواقع لا يتغيّر.
كانت نوران قد تجرّعت الخذلان، ولم تَعُد تنتظر شيئًا.

قالت بنبرة جامدة:
“أنا بخير يا أمي. لا تقلقي. أحمد أعطاني مبلغًا كافيًا، وقد سدّدت به فواتير المستشفى الخاصة بوالدي.”

لم تستطع نُهى أن تُخفي حزنها، فصمتت برهة ثم قالت بحرقة:
“نوران، أين أنتِ؟ أريد رؤيتكِ، أريد أن أعوّضكِ عن كلّ ما فات…”

تأملت نوران زرقة البحر أمامها، ثم قالت ببرود يكسوه وجع دفين:
“لو كنتِ تهتمين لأمري، لما تركتِني لسنوات دون اتصال، ولو كنتِ حقًا تحملين شيئًا من الندم، لكنتِ عدتِ لزيارة أبي حين عُدتِ إلى البلاد.”

ثم أضافت بصوت أكثر صلابة:
“أنا من لجأ إليكِ بدافع الذعر، ونسيتُ أنكِ تزوجتِ من جديد، واخترتِ حياةً لا مكان لي فيها. لن أكرّر ذلك الخطأ مرة أخرى.”

“نوران، أنا فقط—”

قاطعتها بصوت هادئ حاسم:
“دعينا نظلّ كما كنا… سأعتني بأبي، كما فعلتُ دومًا. لم تكن لكِ ابنةٌ مثلي، ولم تكن لي أمٌّ مثلكِ.”

لم تكن نوران غاضبة من نُهى لأنها جعلتها تشعر بالعار أمام مرام، بل كانت غاضبة لأنها اختارت الرحيل والانفصال التام دون مبرّر، ووهبت حنانها لابنة رجلٍ آخر.

في أسوأ مراحل حياتها، كانت نُهى منشغلة برعاية مرام… نوران لم تلُمها على قرارها، لكنها لم تستطع أن تغفره.

بعد أن أنهت المكالمة، تواصلت نوران مع جهة عملها وقدّمت استقالتها من عملها الجزئي. ثم أرسلت رسالة إلى أحمد تطلب فيها تأجيل نقاش الطلاق ليوم آخر، لأنها ستكون مشغولة.

لقد أدركت الحقيقة: علاقتها بأحمد انتهت.
لن يعودا صديقين، ولن تعود المياه إلى مجاريها.

ما إن انتهت من واجباتها، حتى توجّهت إلى المستشفى. كان كريم في استقبالها، وقد لاحظ أنها جاءت بمفردها. بدت أشعتها الملقاة على الأرض أطول من المعتاد، كما لو أنها كانت تجرّ معها ظلّ الوحدة بأكمله.

سألها بلطفٍ وحرص:
“هل تشعرين بالخوف؟”

أجابت بصوت خفيض:
“قليلاً… في البداية. لكن وجودك يُشعرني بالطمأنينة.”

ابتسم وقال بثقة:
“لا تقلقي. أنا من أشرف على تركيب العلاج الكيميائي الخاص بكِ. سأبذل جهدي ليكون فعالًا، وبأقل قدر ممكن من الأعراض الجانبية.”

“شكرًا لك، كريم.”

حين دخلت إلى جناح المرضى الداخليين، أحسّت وكأنها تخطو نحو ساحة معركة، لا يُسمع فيها سوى أنين المرضى وهمس الألم.
رجال ونساء، كبار وصغار، يجمعهم قاسم مشترك واحد: رؤوس حليقة، وملامح مُجهدة، وأملٌ هشّ.

مرّ أمامها مريضان في منتصف العمر، يسيران بهدوء بأجساد هزيلة، ورؤوس خالية من الشعر.
في الغرف المحيطة، جلس البعض باكيًا، بينما اكتفى آخرون بالنظر إلى النافذة بصمتٍ يشبه الموت.

قالت في سرّها:
“قريبًا، سأكون واحدةً منهم.”

بمساعدة كريم، حصلت على غرفة فردية. اقتربت منها ممرضة شابة ذات وجه بشوش، وقالت:
“أنتِ الآنسة الهاشمي، أليس كذلك؟ الدكتور خطاب أبلغنا بقدومكِ. تفضّلي للاستعداد من هنا، وسيكون من الأفضل أن يساعدكِ أحد من العائلة في الإجراءات، لا سيّما دفع تكاليف الصيدلية.”

كان لكل مريض تقريبًا شخص من عائلته إلى جانبه… إلا هي. كانت وحدها، مما جذب إليها نظرات مليئة بالشفقة والتعاطف.

قالت بخجلٍ وانكسار:
“ليس لدي أحد من العائلة… فقط أعطوني شخصًا يعتني بي.”

قالت الممرضة بقلق واضح:
“هذا لا يكفي، نحتاج أحد أقاربكِ ليوقّع على الاستمارات. ماذا عن زوجكِ؟ أحد والديكِ؟ إخوتكِ؟”

وقفت نوران مكانها، صامتة، كأنها طفلة حضرت إلى المدرسة دون والدين في يوم اجتماع المعلمين.
لكن في تلك اللحظة، تقدّم كريم بثبات، وقال بحزم:

“أنا من العائلة. سأوقّع على استماراتها.”

الرواية كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 15

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top