رواية حتى بعد الموت الفصل 15

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 15

أطلقت نوران نظرة امتنان خافتة نحو كريم، فأومأ لها برأسه مؤكدًا موافقته، ثم استدار ليباشر الإجراءات الخاصة بدخولها إلى المستشفى.

اقتربت منها الممرضة، تشرح بصبرٍ ووضوح:
“سيدة الهاشمي، ستخضعين لعلاج كيميائي طويل الأمد. سيتضمن الأمر حقن جسمكِ بأدوية قوية، لكن للأسف، هذه الأدوية قد تُضعف أوردة الذراع وتُسبب التهابات خطيرة، بل وقد تؤدي أحيانًا إلى ما يُعرف بفرط التناضح، خصوصًا في الحالات الحساسة.”

وأضافت بصوت مهني هادئ:
“لتقليل هذه المخاطر، نوصي بتركيب منفذ وريدي دائم (Port-a-Cath) في ذراعكِ. وهو جهاز صغير يُزرع تحت الجلد، يسهّل إيصال الأدوية إلى الأوردة الرئيسية دون الحاجة للبحث عنها في كل جلسة.”

ثم ابتسمت قائلة:
“الميزة أنه يُسهّل على الممرضات التعامل مع حالتكِ دون عناء، ويقلل من الألم. لكن يجدر التنويه بأنكِ بعد تركيبه، لن تتمكني من حمل أوزان ثقيلة بهذه الذراع مستقبلاً.”

هزّت نوران رأسها بالموافقة، وخضعت للعملية البسيطة دون تخدير، نظرًا لحساسيتها تجاه المواد المخدّرة. وحين لامست الشفرة الطبية جلدها الرقيق، تقلّص وجهها ألماً، لكنها لم تصدر صوتًا.

نظر الطبيب إليها بدهشة، ثم قال بإعجاب خافت:
“من النادر أن نرى مريضًا يتحمّل الألم بهذه الطريقة.”

أجابت، ونظرتها خالية من الرجاء:
“لا بأس… لا أحد يهتمّ بي كفاية إن تألمت.”

جرفها هذا الموقف إلى ذكرى قديمة، حين خضعت لعملية جراحية طارئة بعد سقوطها في الماء ومعاناتها من ولادة مبكرة. ورغم التخدير، شعرت يومها بألم ممزّق عندما شقّت الشفرة بطنها. أغمي عليها من شدته، لكنها استيقظت على نفس الشعور دون أن تجد من يواسيها أو يخفف عنها.

في تلك الليلة، لم يكن أحمد بجوارها…
بل اختار أن يقف أمام غرفة ولادة مرام.

منذ ذلك الحين، تعلمت ألا تصرخ حتى في أشد لحظات الألم.

في اليوم التالي لأول جرعة من العلاج الكيميائي، بدأت الآثار الجانبية تظهر بوضوح. كانت مرهقة، تتصبب عرقًا، والغثيان لا يفارقها. لم تستطع الوقوف طويلًا، وكانت المسافة القصيرة بين قسم المرضى الداخليين ومرآب السيارات تبدو كأنها جبلٌ يصعب اجتيازه.

رآها كريم تتعثر في خطواتها، فتنهد، ثم جثا على ركبتيه ليحملها بين ذراعيه.
ارتبكت نوران وصرخت هامسةً:
“كريم، لا… أرجوك!”

لكنّه لم يتراجع هذه المرة.
“جسدكِ لا يتحمّل. إذا رفضتِ مساعدتي، فلن يكون أمامي خيار سوى الاتصال بعائلتك. وفي هذه الحالة، أحمد القيسي هو الوحيد قانونيًا.”

كان موقفًا عبثيًا بحق.
فطالما لم توقَّع أوراق الطلاق، فإن أحمد لا يزال زوجها شرعًا، وهو الوحيد المخوّل برعايتها رسميًا.

همست بتوسّل:
“لا تخبره… أرجوك. لا أريد أن يعرف شيئًا عن حالتي.”

كانت متيقنة أن أحمد لن يُبدي تعاطفًا. على العكس، ربما يرى في مرضها مناسبة للسخرية أو الشعور بالانتصار.
كانت آخر من ترغب في أن تظهر ضعيفة أمامه.

أعادها كريم إلى شقتها بلطف، وحرص على ترتيب مكان نومها بنفسه، ثم قال:
“نوران، أنتِ بحاجة إلى من يعتني بك. لا يمكنكِ حتى تجهيز طعامكِ.”

أومأت برأسها في استسلام:
“أعلم… صديقتي ستعود من الخارج قريبًا، وستبقى إلى جانبي. وأنتَ لديك نوبتك، أليس كذلك؟ لا أريد أن أستهلك وقتك.”

نظر إلى ساعته، وأدرك أن عليه العودة للمستشفى، فقد كان على وشك إجراء عمليات معقّدة. قبيل مغادرته، أوصى عليها ببعض التعليمات الغذائية والطبية الضرورية، ثم رحل بهدوء.

وبعد رحيله، استلقت نوران في سريرها، وحدها، تأنّ تحت وطأة ألمٍ ينهش جسدها. كانت تشعر بألمٍ في كل خلية، وكل حركةٍ مهما كانت بسيطة، تُثير دوارًا وغثيانًا متلاحقًا. حتى الجرح في ذراعها ينبض بألمٍ خافت كأنه تذكير صامت بمصيرها.

لم تجد كلمة تُعبّر عن حالتها سوى: الجحيم.

لكن ما صدَمها فعلًا…
أنها لم تكن تفتقد أحمد فقط، رغم كل ما فعله.

تذكّرت موقفًا قديمًا حين أصيبت بالتهاب حاد في الزائدة الدودية.
في تلك الليلة، وبينما الثلوج تهطل بغزارة، حملها أحمد مسرعًا إلى المستشفى. ورغم قلقها، بكت حين أدخلوها إلى غرفة العمليات على كرسي متحرك، لكنه أمسك بيدها بشدّة، ولم يتركها حتى اختفت خلف باب الغرفة المعقمة.

بقي ينتظرها في الخارج، يطارد قلقه بأنفاس متلاحقة.

رغم كل شيء… لم تكن ذاكرتها خالية من لحظات صادقة.

لكنها اليوم… لا أحد بانتظارها خلف الباب.

بعد مضيّ سنوات طويلة، لا تزال نوران تتذكّر ملامح وجهه، وتعبير عينيه حين طمأنها ذات مرة قائلًا:
“لا تقلقي، أنا هنا.”

كان ذلك عقب جراحة الزائدة الدودية، حين لم تستطع المشي لشهرٍ كامل. ظل أحمد إلى جوارها، يتابع حالتها ويهتمّ بكل تفاصيلها، صغيرها وكبيرها، كما لو كانت كل حياته تتلخص في راحة يدها.

لكن الزمن تغيّر، وأصبح أحمد الآن مع امرأة أخرى، يعتني بأطفاله منها، ويمنحهم ما لم يمنحه لها.

اضطرت نوران إلى تذكير نفسها مرارًا بخيانته وقسوته، كي تُطفئ بداخلها ما تبقّى من دفء الذكريات. كانت تحارب الألم، تتشبث ببقايا إرادتها، تتلوّى على السرير، وتُصرّ على أسنانها، تقنع نفسها بأنها قادرة… قادرة على تجاوز الموت ذاته إن كان في طريق سعيها نحو الحقيقة.

تساقطت دموعها على المعكرونة التي كانت تُعدّها للسلق، غير أن الألم الحقيقي لم يكن في الجسد، بل في الخذلان.
كان كأنّ آلاف الشفرات تنهش جسدها، والألم يطوّقها حتى صارت تختنق به.

ظلت حبيسة فراشها لثلاثة أيام، تتقلب بين الوعي والدوار، بلا راحة. وفي صباح اليوم الرابع، استيقظت على خفوت في الألم، وكأن جسدها قرر أن يمنحها هدنة قصيرة.

وفجأة، سمعت صوت ستائر النافذة تُسحب، فرفعت عينيها الضعيفتين، لتجد كريم واقفًا هناك.

كان يزورها يوميًا بعد انتهاء نوبته. هذه المرة، دخل حاملاً بعض الخضروات الطازجة وكيسًا من رقائق البطاطس التي كانت قد تحدّثت عنها في لحظة ضعف.
كان معطفه الصوفي الأسود مبللًا، وشعره لا يزال ينقط قطرات ماء. وحين انحنى قليلًا ليتفقد حالها، رأت على رموشه الطويلة ندفة ثلج بيضاء.

همست بصوت خافت:
“هل… بدأ الثلج يتساقط؟”

أومأ برأسه مبتسمًا:
“أجل، غطّى الشوارع ليلًا. حين تتحسنين، سنخرج لنمشي على الثلج سويًا.”

قالت بصوت متعبٍ يشوبه الأمل:
“اليوم، لا أشعر بألم شديد.”

جلست على سريرها ببطء، ملتفّة ببيجامتها القطنية السميكة. غير أنّها توقفت فجأة حين لمحت خصلة شعر سقطت على وسادتها.
رغم أنها قصّت شعرها مسبقًا استعدادًا لهذه اللحظة، إلا أن المفاجأة كانت مؤلمة.

سحبت البطانية بسرعة لتُخفي المنظر، تحاول إخفاء الحقيقة، كما لو كانت ستختفي بالفعل.

تمتمت وهي تشيح بوجهها:
“سأذهب للاستحمام…”

كريم، الذي رأى مرارًا مرضى فقدوا كرامتهم أمام أعينهم قبل أن يفقدوا حياتهم، لم يُظهر صدمة أو حرجًا، واكتفى بالقول:
“بالطبع… خذي وقتك.”

دخلت الحمّام وأغلقت الباب خلفها. وقفت أمام المرآة، تتأمل وجهها الشاحب المتعب.
رفعت يدها بتردّد، وسحبت خصلة أخرى، لتسقط بسهولة بين أصابعها.

في ريعان شبابها، كانت تخشى هذه اللحظة، وها هي الآن تواجهها وحيدة.

فجأة، استقرت فكرة في ذهنها كأنها قدر لا مفرّ منه:
يجب أن تُنهي إجراءات الطلاق.

لن تقدر على مواجهة أحمد بعد أن أصبحت صلعاء.
ولن تحتمل أن يراها هكذا… فهذه المعركة تخصّها وحدها.

فتحت هاتفها أخيرًا، متجاهلةً عشرات الرسائل المتراكمة. بحثت عن رقمه، ثم ضغطت على زر الاتصال.

ما لم تعلمه نوران، أن أحمد كان يبحث عنها منذ أربعة أيام.
وما إن رنّ الهاتف ثلاث رنّات، حتى أُجيب الخطّ، وجاءها صوته غاضبًا، متوتّرًا:

“نوران الهاشمي! أين كنتِ بحق الجحيم؟!”

لم تُجبه على سؤاله، ولم تبرر غيابها، بل قالت بهدوءٍ صلب:

“أحمد… سأنتظرك في مبنى البلدية بعد ساعة. أريد إنهاء هذا الأمر، ولا أرغب في أن يطول أكثر.”

الرواية كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 16

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top