رواية حتى بعد الموت الفصل 17

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك


الفصل 17
رفعت نوران رأسها بابتسامة ساخرة، وقالت بحدة مكبوتة:
“يا له من سؤال ذكي! هل نسيتَ أنكَ أنتَ من طلب الطلاق؟”
تجاهل نبرتها اللاذعة، واقترب منها بنظرات مشتعلة بالتهديد.
“هل كنتِ معه خلال الأيام الماضية؟”
من تلك المسافة القريبة، التقطت بعيونها البرودة القاتلة في عينيه المحتقنتين، وتحول وجهه إلى قناع عدواني لا يحمل سوى الغضب.
نفت بإصرار، وقد انكمش صوتها قليلًا تحت وطأة توتر اللحظة:
“لا. هو فقط أوصلني، لأن العثور على سيارة أجرة في يوم ثلجي كان شبه مستحيل.”
ابتسم أحمد بسخرية متجهمة، وقال:
“نوران… ما زلتِ تنظرين للأعلى عندما تكذبين. لم تتغيري أبدًا. بعد عام كامل من المماطلة، فجأة وافقتِ على الطلاق؟ هل كان هذا الرجل السبب؟ هل غادرتِ المنزل وتركتِ والدكِ خلفكِ لأجله أيضًا؟”
لم تحاول تبرير موقفها. كانت تدرك جيدًا أن أي عذر سيكون إهانة لعقلية أحمد، وسيفتح بابًا لنقاش لا ينتهي.
فغيرت مجرى الحديث، وقالت بصرامة:
“هذا لا يهم الآن. فلننهِ إجراءات الطلاق.”
لكنّه أمسك بمعصمها ليمنعها من الانسحاب. لم يستخدم قوةً تُذكر، ومع ذلك، شعرت بألم حاد سرى في ذراعها، فانعقد حاجباها من الألم. وعلى وجهه ارتسمت مسحة جنون مخيفة.
همس ببرود قاتل:
“كنتُ أظن أن الطلاق سيكون العقاب الأنسب… لكنني غيرت رأيي.”
نظرت إليه بصدمة، وقالت:
“ماذا قلت؟”
أجابها بنظرة شريرة وهو يمرر أصابعه النحيلة على خديها بتملك مريض:
“لا أريد الطلاق الآن، سيدة القيسي. هل يُسعدكِ هذا؟”
ربما كانت لتفرح بهذا التصريح قبل أسبوعين، لكن بعد أن انكشفت الحقيقة، باتت تكره حتى ظله. لمسته الآن تشعرها بالغثيان.
صرخت بانفعال:
“اتركني! أحمد، أنا أريد الطلاق الآن!”
رفعها كما لو كانت ريشة، وحين ضمّها إلى صدره، شعرت بالاشمئزاز من عناقه… ذلك الحضن الذي كان يومًا ملاذها.
صرخت وهي تحاول الانفلات:
“دعني! أحمد القيسي، هل فقدتَ صوابك؟!”
لم تكن قادرة على مقاومته. جسدها المنهك من العلاج الكيميائي لا يمنحها أي فرصة للمواجهة. وبصعوبة بالغة، كافحت داخل السيارة بينما كان يضعها في المقعد الخلفي، وكأنها أنهت تمرينًا قاسيًا.
قالت وهي تلهث، تواجهه بعينين متعبتين:
“أحمد، ماذا تريد مني بالضبط؟”
فكّ ربطة عنقه ببطء، وبعينين تملؤهما السخرية قال:
“ماذا أريد؟ أريدكِ أن تعيشي في الجحيم. هل ظننتِ أنني سأطلقكِ لتذهبي لرجلٍ آخر؟ ظننتِني غبيًا؟ أقسمتِ أنكِ لن توقّعي أوراق الطلاق، وما إن غبتُ عنكِ حتى بدأتي بمواعدة رجل آخر. هل أنتِ إلى هذه الدرجة… متلهفة؟”
شعرت نوران بصداع يزداد حدة، وكأن الكلمات نفسها سكاكين تغرس في صدرها. عضّت شفتها، وتمالكت أعصابها لتردّ بحدة جارحة:
“ألم تكن أنت من أراد الطلاق أولًا؟ لماذا تتصرف وكأنك المتضرر؟ أنت من خانني، فبأي حق تعترض على أن أبدأ من جديد؟”
رفع ذقنها ببرود، وقال بصوت منخفض يحمل سمًا لاذعًا:
“كل شخص في العالم يستحق السعادة… إلا أنتِ. فهمتِ؟”
نظرت إليه، فرأت عينيه تتحولان إلى شتاء قارس يقطر تهديدًا. ثم سمعته يتمتم بقسوة:
“أنا من يقرر متى ينتهي زواجنا.”
حين انحنى فوقها، تدلت ربطة عنقه على وجهها، وكانت تشعر بأن معطفه الفاخر لا يليق سوى بمشهد التكبر الذي يتقنه. لقد نزع عن نفسه كل ملامح الرحمة، وارتدى الغطرسة درعًا.
وسرعان ما أتاها الدليل.
بينما شقت السيارة طريقها عبر الزحام، لمحت نوران طابورًا طويلًا من السيارات، وفي المقدمة، سيارة بورش كايين محطمة عند الحاجز.
تجمد الدم في عروقها. تلك سيارة كريم.
صرخت بيأس:
“قف! أحمد، قف فورًا!”
لكن السائق تجاهلها، فيما استمر أحمد في التحديق إلى الأمام بجمود. حاولت فتح الباب، لكنّه جذبها من معصمها، فسقطت بين ذراعيه.
قال ببرود مميت:
“هل تشعرين بالأسف عليه؟”
صرخت وهي تحاول الإفلات:
“هل جننتَ؟ كريم كان فقط يساعد أبي في المستشفى لأننا زملاء! لا يوجد شيء بيننا. لماذا فعلتَ به ذلك؟!”
ابتسم ببطء وهو يمرر أصابعه على خدها المرتعش:
“لأن كلما تألمتِ، شعرتُ بسعادة أكبر.”
كانت نوران تكافح للتماسك. تشبثت بقميصه رغم الغثيان والغضب، وهمست بانكسار:
“أحمد، أبي هو من تكفل بدراسة ليا، وليس كريم. حتى لو كانت هناك صلة، فأبي مستحيل يؤذيها.”
لكنّ ذكر اسم “ليا” أشعل الغضب في عيني أحمد، فتحولت ابتسامته الساخرة إلى نوبة جنونية، دفعها بقسوة حتى اصطدم ظهرها بباب السيارة الصلب.
تقلص جسدها المنهك، وسقطت في الزاوية، تتنفس بصعوبة، لا تجد في نفسها القوة للرد أو المقاومة. أغمضت عينيها، محاولةً الهروب من الألم ولو للحظة.
تمنت فقط لو يُخفف مظهرها الخارجي آثار ضعفها الداخلي. ولحسن الحظ، كانت قد وضعت بعض أحمر الخدود والشفاه قبل مغادرتها، لتُخفي عن العالم شحوبها الحقيقي.
لكن أحمد أساء فهم صمتها. اعتبره تمرّدًا، فتركها على مضض، وما زالت أنفاسه ثقيلة بالحقد.
وحين وصلت السيارة إلى منزل عائلته، لم تكن قادرة على الوقوف.
فتح كامل الباب وسأل همسًا:
“سيدتي… هل أنتِ بخير؟”
لكن قبل أن تجيب، قاطع أحمد الحديث بسخرية جارحة:
“لا تصدقه، إنها حيلة قديمة. تحاول استدرار شفقتي بادعاء المرض.”
تذكرت نوران العام الماضي، عندما حاولت بالفعل كسب عاطفته بالتظاهر بالضعف، فاتهمها بالكذب. ومنذ ذلك الحين، أصبحت في عينيه الفتاة التي تصرخ “ذئبًا”.
ضاق صدره بصبر نافد، فهددها ببرود:
“إن لم تخرجي الآن، سأنتقم من عائلة خطاب كاملة.”
كانت قد أرسلت رسالة عاجلة إلى كريم، لكن الرد لم يأتِ. القلق يكاد يخنقها. صرّت على أسنانها، وخرجت من السيارة بصمت.
وما إن لامست قدماها الأرض، حتى هاجمها البرد القارس، وتخاذلت ساقاها، فسقطت أرضًا.

الرواية كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 18

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top