الفصل 19
قبض أحمد على كاحل نوران الرقيق، فارتجف جسدها ألمًا، وصرخة مكبوتة كادت تفلت من صدرها. كانت قبضته باردة وقاسية، كأنها سلاسل من حديد تُقيّدها. اقترب منها، مائلًا فوقها، والجنون يلمع في عينيه. لم تكن نظراته تلك نظرات رجل يحب، بل نظرات من يريد أن يستعيد ما يظنه مُلكه، بالقوة.
كل خلية في جسدها كانت تصرخ: اهربِي.
كل نبضة في قلبها ترجّت: لا تضعفي، ليس مجددًا.
صرخت وهي تدفعه بذراعيها المرتجفتين:
“أبعد يديك عني! لا تلمسني! كيف تجرؤ على ذلك! بعد أن بعثرت قلبي، ودهست كرامتي؟!”
لكن غضبها لم يوقفه. وكأن صوتها زاده عنادًا وتصميمًا. أمسك وجهها بكلتا يديه بقسوة، كأنما يريد أن يخنق الكلمات في فمها. اقترب منها حتى كادت أنفاسه تختلط بأنفاسها، وصوته يتقطر احتقارًا.
“تظنين أن بإمكانكِ الهروب؟ أنتِ لا تعرفين بعد ما يعنيه أن تكوني زوجتي.”
اتسعت عيناها رعبًا، وجاهدت لتدفعه بعيدًا، لكن قبضته كانت كالصخر، لا تلين. ويده الأخرى تسللت خلف عنقها، تجبرها على النظر في عينيه، مواجهة لا فرار منها، وكأنها أسيرة تحت سطوة جلادها.
لم يكن يلمسها حبًا، بل كمن يُثبت سيطرته، كما لو كانت شيئًا يُعيد فرض ملكيته عليه بالقوة، لا إنسانة لها كيان ومشاعر.
كل شيء فيها قاومه. أنفاسه، رائحته، نظراته، وحتى صوته حين قال اسمها بلقبٍ لم يعد يعني لها شيئًا.
تجمّدت للحظة، ثم دفعته بقوة، وتقيأت بجانب السرير، جسدها يتهالك، وقلبها يكاد ينفجر.
وقفت بصعوبة، تنظر إليه بعينين تغليان بالقهر، وهمست بصوت مبحوح:
“أنت غير نقي. قلت لك لا تلمسني.”
نظر إليها أحمد، وداخله بركان يكاد يثور. شعر بالذلّ، بالحقد، بانكسارٍ لم يعرف كيف يخفيه. أدار وجهه وخرج من الغرفة ليجيب على مكالمة هاتفية، يهرب من لحظةٍ لا يحتمل مرارتها.
بعد دقائق، دخلت السيدة هناء الغرفة، حاملة أدوات التنظيف، وعلى وجهها علامات القلق.
“سيدتي القيسي… هل أنتِ بخير؟”
رفعت نوران رأسها ببطء، وكأنها تخرج من غيبوبة، وقالت بصوت خافت يكسوه الوجع:
“مرحبًا… سيدة هناء. لقد مضى وقت طويل.”
ابتسمت المرأة بلطف، وهي تلاحظ التعب في ملامح نوران:
“بالفعل… لم أرَكِ منذ انتقل السيد القيسي إلى هذا المنزل. وقتها، كان لا يرفع عينيه عنكِ. كان يبدو كمن وجد كنزه.”
ابتسمت نوران بسخرية، ثم نظرت إلى السقف المزخرف بأضواء نجمية. كانت تلك فكرتها. أرادت غرفة تُشبه السماء، ليناما تحتها معًا كل ليلة. وكان أحمد، حينها، يحقّق لها كل أمنية دون نقاش.
الآن، كانت تلك الأضواء تُذكّرها بمدى بُعده، ومدى تغيّر كل شيء.
قالت هناء بصوت خافت، كما لو كانت تتحدث إلى نفسها:
“رغم كل شيء، أعتقد أنه لا يزال يهتم بكِ… لم يبت عند تلك المرأة ليلةً واحدة، رغم ما يقال.”
ارتجف قلب نوران. هل يُعقل؟
لكنها هزّت رأسها، كأنها تردّ على أفكارها بنفسها.
“ما الفرق؟ لا يهم أين ينام… المهم أين يسكُن قلبه. وقد أفرغ قلبه مني منذ زمن.”
جلست هناء على طرف السرير وقالت:
“سيدتي، الأزواج يتشاجرون… يتباعدون… لكنهم يعودون. لا شيء يستحق أن نكسر قلوبنا لأجله.”
ابتسمت نوران بألم:
“لكن ماذا لو لم يتبقّ من القلب شيء ليُكسَر؟ ماذا لو تحوّل الحب إلى رماد؟”
دخلت الحمام وهي تجرّ جسدها المنهك، وأغلقت الباب خلفها كما لو كانت تغلقه على كل الماضي.
بدأت تغسل جسدها بعناية، تتحسّس مواضع لمسته وكأنها تحاول محو آثارها. يداها ترتجفان وهي تمرّرهما على شعرها، الذي لم يُغسل منذ أيام. الماء كان دافئًا، لكن القشعريرة لم تفارقها.
وعندما رأت كمية الشعر المتساقط بين أصابعها، جلست فجأة على الأرض، تضمّ ركبتيها إلى صدرها، تنكمش في الزاوية كطفلة تائهة في عاصفة.
جمعت الشعر بالمناديل، ودفنته في سلة النفايات. لا يجب أن يراه أحمد. لا يجب أن يعرف تشخيصها. لا يجب أن يمنحها نظرة شفقة جديدة.
رواية حتى بعد الموت الفصل 19
