الفصل 22
لماذا كان على الأمور أن تسير بهذا الشكل المؤلم؟
سؤال ظلّ يتردد في ذهن نوران كأنّه أنين مكتوم يتسلل من أعماق روحها. كانت تتوق للعودة إلى تلك الحياة المترفة التي عاشتها قبل عامين، حين كان قلبها مطمئنًا، وعيناها تلمعان بالأمل، وحياتها تفيض بالاستقرار.
في تلك اللحظة، ترددت كلمات أحمد الخافتة في أذنها:
“أنا هنا… أنا هنا”، ظل يكررها بلا كلل، كمن يتشبث بطوق نجاة وسط بحر هائج.
لكن نوران كانت تعلم، من أعماق قلبها، أن هذا الحنان لن يدوم. كان أشبه بوميض عابر في ليل طويل، لا يكفي لإضاءة الطريق، ومع ذلك… لم تستطع أن تمنع نفسها من التعلق بتلك اللحظة، بتلك الذكرى الباهتة من الدفء الذي كانت تفتقده.
تساءلت بحرقة: كم كان يمكن أن تكون الأمور مختلفة لو أنه لم يتغير؟ لو ظل هو ذلك الشخص الذي أحبته؟
استفاق أحمد عند الفجر، والشعور بثقل دافئ بين ذراعيه سبقه إلى الوعي. ورغم المشروب الذي جرى في عروقه الليلة الماضية، لم يشعر بالخطر، بل شعر بأمان غريب، كما لو أن قربه منها أعاد إليه شيئًا من إنسانيته المفقودة.
أدار رأسه ببطء، متجاهلًا الصداع الذي يضرب جمجمته، وأعدّ نفسه ذهنيًا قبل أن يفتح عينيه. وعندما رأى نوران تبدو كطفلة بريئة، تنهد بارتياح… لكن هذا الارتياح لم يدم.
ذكريات الخلافات الأخيرة تسللت إلى ذهنه بسرعة. كانت علاقتهما قد تحولت إلى حقل ألغام، كل كلمة فيه قابلة للانفجار.
كان على وشك أن يسحب ذراعه، أن يتنصّل من هذا القرب الذي لم يعد مألوفًا، لكن عينيه وقعتا على وجهها. كم مرّ من الوقت منذ أن تأمل ملامحها بهذه الطمأنينة؟ دون مكياج، بدت بشرتها بيضاء شفافة كأنها ورق ناعم تحت ضوء خافت. كانت شاحبة بشكل يثير القلق، شحوب الموت ربما.
نامت نوران على ذراعه، متقوقعة بجسدها كأنها تتخذ موقفًا دفاعيًا ضد العالم. في الماضي، كانت تلتف حوله في نومها وكأنها تبحث عن مأوى.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه، إذ فهم من وضعيتها أنها لم تعد تثق به. وغصّ قلبه بغضب مبهم، ربما لكونه لم يعد ذاك المأوى لها. دون وعي، سحب ذراعه بقوة.
استفاقت نوران بصدمة. عينان واسعتان كعيني قطة صغيرة، تحملان في نظراتهما دهشة الطفولة وبقايا الحلم. لكن سرعان ما تغيّر تعبير وجهها، وتجمدت ملامحها.
“أنت لم تكن في وعيك ليلة أمس… ووضعت يديك في كل مكان حولي”، اتهمته ببرود، كمن يضع حدًا لأي فرصة للتقارب.
بهتت اللحظة، وتكسرت كما تتكسر فقاعة عند ملامسة الواقع.
أجاب أحمد بجمود:
“أعلم… ولو كنتُ واعيًا، لما لمستك حتى.”
ثم، كمن يهرب من جريمة لم يرتكبها عن عمد، جمع ملابسه بسرعة ودخل الحمام، يختبئ خلف بخار الماء ووجع الرأس. أما نوران، فبادرت بجمع خصلات الشعر المتناثرة على السرير، كما لو أنها تحاول محو أثر وجودها.
زرّر أحمد قميصه بعصبية، يشعر بالندم لأنه لم يحسن التصرف. رغم أنهما ما زالا زوجين من الناحية القانونية، إلا أن كل شيء بينهما بات هشًا، كأنه على وشك الانهيار.
في طريقه إلى سلة الغسيل، لمح خصلات شعر عالقة على ذراعه. لم تكن خصلة واحدة، بل ما يقارب العشرين. تذكر حين كان شعر نوران طويلاً، كثيفًا، يتساقط رغم كل العلاجات. كانت تمزح بأنها ستصبح صلعاء، وكانت تضحك برفق بينما تقفز على ظهره قائلة:
“لو صرت صلعاء، هل ستترهبن وتعتزل النساء؟”
ضحك حينها من قلبه. أما الآن، فقد لمعت عيناه بقلق.
هل تساقط شعرها بهذه الكثافة إشارة لمرض؟ هل فاتته إشارات مهمة؟
عادت كلماتها الأخيرة تطرق قلبه كالسياط:
“لم أكذب عليك… أنا فقط مريضة…”
كانت تلك العبارة تردد في أذنه بصوت متهدّج، كأنها اعتراف من روح تئنّ بصمت. وتجمعت في ذاكرته صور وجهها الشاحب، ودموعها المنسكبة، وانكسارها الصامت الذي لم ينتبه إليه حين وجب عليه أن يلاحظ.
اجتاحه شعور عارم بالعجز والندم، كأنّ الحقيقة ضربته على حين غرّة، فخلخلت صلابته التي لطالما اختبأ خلفها.
وبدون أدنى تردد، اندفع نحو الباب، فتحه بعنف، ثم أسرع نحو السرير بخطوات متسارعة، كأنّه يسابق لحظة قد تضيع إلى الأبد.
رواية حتى بعد الموت الفصل 22
