رواية حتى بعد الموت الفصل 23

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 23
انفتح باب الحمّام بعنف، فاهتزّ قلب نوران بين ضلوعها كما لو أن الرعد قد دوّى فجأة في صدرها. كانت تجلس على حافة السرير، تجمع خصلات شعرها المتساقطة بأنامل مرتجفة، حين باغتها الصوت المباغت، فرفعت عينيها بتوتر واضح، ولم تتمالك نفسها عن الهمس الخافت:
“مهلًا…”
لكن كلماتها قُطعت قبل أن تكتمل، حين ظهر أحمد أمامها، بجسده العا.ري ونظراته الحادة. رغم أنها كانت تعرف كل زاوية من جسده عن ظهر قلب، ورغم السنوات التي قضياها معًا تحت سقف واحد، إلّا أن رؤيته على هذا القرب، بعد غياب دام أكثر من عام، زرعت في قلبها شيئًا من النفور والارتباك. أدارت وجهها سريعًا، وكأن النظر إليه يُشعل فيها ألمًا لا يُحتمل.
نظرة واحدة منه كانت كفيلة ببعث الماضي كله من سباته.
اقترب منها بخطوات بطيئة، وبدأ ظلّه الطويل يُغرقها، وتسلّلت رائحته إليها كذكرى كانت تُقاتل لنسيانها. جسدها ارتجف من دون إذن، وحاولت أن تتمالك نفسها، أن تخفي ذلك القلق الصامت الذي راودها. تمتمت بصوت واهن، بالكاد مسموع:
“ماذا تفعل؟”
لم يُجبها على الفور، بل انحنى فوقها ببطء، يحدّق فيها بعينيه السوداوين، كأنّه يحاول قراءة أفكارها كلها. كانت نظرته خالية من كل أثر للسخرية التي اعتادت رؤيتها فيه مؤخرًا، خالية من الازدراء الذي تَغذّت عليه خلافاتهما. سألها، بصوت بدا صادقًا ومباغتًا في آنٍ واحد:
“قلتِ إنكِ مريضة… إلى أي مدى؟”
احتارت نوران في الإجابة. كيف لها أن تُجيب؟ وهل سيُحدث فرقًا؟ لم تعتد على رؤيته مهتمًا، ولهذا بدا اهتمامه الآن مربكًا أكثر من كونه مريحًا. لم تكن عيناه تخدعانها… كان يُريد أن يعرف حقًا. للحظة، تساءلت:
لو أخبرته الآن بالحقيقة، هل سيشعر بشيء؟ هل سينكسر جزء صغير فيه؟ هل سيشعر بالذنب؟
أحسّ أحمد بترددها، اقترب أكثر، حتى لم تبقَ مسافة تُذكر بين وجهيهما. نظراته أصبحت أكثر ثباتًا، أكثر ضغطًا، وكأنها تحاصرها.
قال بصوت منخفض فيه شيء من القسوة:
“حسنًا؟ أنا أنتظر.”
شعرت نوران أن صدرها يضيق. الكلمات تجمّدت على لسانها، تحاول الخروج لكنها لا تجد طريقًا واضحًا. بدأت تقول بتردد:
“أنا…”
لكن فجأة، رنّ هاتف أحمد. النغمة كانت مألوفة… مألوفة أكثر مما ينبغي. نغمة مُخصصة لمرام، المرأة التي كانت كظلٍّ دائم يتبعها منذ بدأت تشكّ بزوجها.
كل شيء بداخل نوران توقّف. الزمن، النبض، الهواء… وكأن أحدهم صفعها فجأة. لم تكن تلك مجرد مكالمة. كانت رسالة تذكير قاسية بأن شيئًا لم يتغير. بأن هناك دائمًا امرأة أخرى تحتل مكانها في أولوياته.
مرّت لحظات قبل أن يبتعد أحمد ليرد على المكالمة، وترك نوران معلّقة بين الرغبة في البكاء، والضّحك على سذاجتها.
كم مرة عليّ أن أتألم حتى أتعلم؟
كان صوت الرنين مثل دلو ماء بارد صُبّ فوق روحها، أعادها للحقيقة بقسوة.
عندما عاد، لم يجد نوران نفسها. اختفت تلك المرأة المترددة، وظهرت امرأة أُخرى، أكثر هدوءًا، أكثر برودًا.
قالت بابتسامة صغيرة، خالية من المشاعر:
“لا شيء يُذكر. مجرد نزلة برد. بقيت في المستشفى بضعة أيام فقط.”
فكّر أحمد في تلك الأيام التي اختفت فيها، وتذكّر الزهور الذابلة في منزلهم، التي لم يكلّف نفسه بالسؤال عنها. ظنّ حينها أنها تحاول لفت انتباهه، أو ربما تُمارس أحد ألعابهما القديمة.
الآن، أدرك أنه لم يكن هناك أي لعبة. كانت مريضة حقًا. وكانت وحيدة.
انفتح فمه لقول شيء، أي شيء، لكن العناد المتجذّر فيه كبّله. لم يستطع أن يعتذر، ولا أن يسأل، ولا أن يُظهر قلقه. لم يدر كيف.
لكن نوران لم تنتظر. نظرت إليه بعينين ساكنتين وقالت بصوت منخفض لا يحتمل التأويل:
“لقد انتهى كل شيء يا أحمد. وصلنا إلى نقطة لم نعد نطيق فيها حتى النظر إلى بعضنا. لماذا لا نُنهي هذا العبث؟ لننفصل. أنا متعبة.”
كلماتها سقطت عليه كالصاعقة. ذكرته مباشرة بابتسامتها في مبنى البلدية، حين قابلت كريم. الغيرة اشتعلت فيه فجأة، كأنها تنفست داخل قلبه لهبًا.
هي لا تُريد الطلاق، بل تُريد كريم.
رمقها بنظرة قاتمة، ثم اقترب فجأة وأمسك بذقنها بقسوة وقال بسخرية باردة:
“أنا من يقرر إن كنا سننفصل. طالما لم تصلي لمرحلة تتمنين فيها الموت، فلن أُطلقك. لا تظني أن الأمر بهذه السهولة.”
ثم تركها بعنف واتجه إلى الحمّام من جديد. عيناه كانتا تلمعان، لكن ليس من الحب، بل من الغضب والكراهية، وربما شيء من الجُبن.
لم يرَ خصلات الشعر المتساقطة على الوسادة، ولم ينتبه إلى وجهها الشاحب، إلى الهزال في جسدها، ولا إلى الصمت الذي بدأ يبتلع نوران من الداخل.
ظنّ أن كل ما يشغلها هو الطلاق.
ولم يعلم أن ما يشغلها فعلًا… هو النجاة.

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 24

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top