رواية حتى بعد الموت الفصل 24

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 24
كانت نوران تجد صعوبة متزايدة في فهم تصرفات أحمد؛ مزاجه كان يتقلّب كالفصول، يتبدّل في لحظة من الحنان إلى البرود، ومن السكون إلى الانفجار.
هو من طلب الطلاق أولًا، ومع ذلك كان يغضب بشدة كلما أعادت طرحه وكأنها هي التي خانت العهد أو نكثت بالاتفاق.
تساءلت بين نفسها:
هل دفعه موت أخته إلى حافة الجنون؟ هل بدأ يعاني من اختلال نفسي خفي؟ أم أنه ببساطة رجلٌ مفرط في الهرمونات، يعاني من تقلب في المشاعر؟
الحق أنه لم يعد يشبه الرجل الذي عرفته يومًا، لا في مظهره ولا في روحه.
خرج أحمد من الحمّام، وترك خلفه بخار الماء الساخن ورائحة الصابون، لكنه لم يترك لها كلمة وداع واحدة. كانت مستلقية على السرير، تُدير ظهرها له، تُقاوم الانهيار.
لم تُسمع بينهما تلك العبارات الحميمة التي كانت تملأ منزلهما قديمًا. وحده صوت إغلاق الباب البارد كان الصدى الذي تردّد في أرجاء المنزل، فأعلن رحيله.
كانت نوران تُدرك تمامًا أن صحتها لم تعد كما كانت، لذا لم تقاوم. كانت هشّة من الداخل، منهكة من الخارج، تبحث عن ملاذ حتى لو في الصمت.
الشيء الوحيد الذي ظلّ ثابتًا في حياتها، وسط كل هذا الفوضى، كان لطف السيدة هناء.
بمئزرها المنقوش وملعقتها الخشبية، كانت لا تزال تُعدّ لها طعامًا لذيذًا كل يوم، كما لو أن العالم لم يتغير.
قالت السيدة هناء برقة وهي تضع طبقًا على الطاولة:
“حضّرتُ لكِ حساء دجاج صحيًا، سيدتي القيسي. أرجو أن تتناوليه ساخنًا.”
ابتسمت نوران ابتسامة باهتة، ثم ردّت بنبرة هادئة:
“شكرًا لكِ… هل يمكنكِ إعداد بعض حساء السمك أيضًا؟ أعتقد أنني بحاجة لتغيّر.”
نظرت هناء إليها بدهشة خفيفة.
“بالطبع يا سيدتي… كما تريدين.”
ثم نظرت من النافذة إلى الفناء المُغطى بالثلج وسألت بعفوية، محاولة كسر الصمت:
“هناك الكثير من الثلج في الخارج. ألا ترغبين بالخروج للعب قليلًا؟ أتذكرين حين كنتِ تُضحكين السيد القيسي بكرات الثلج؟ ألا يمكن للثلج أن يذيب الجليد بينكما؟”
هزّت نوران رأسها وهي تُحدّق في الأفق الرمادي.
“لن أخرج اليوم… سأرتاح قليلًا.”
غادرت هناء بهدوء، لكنها شعرت بأن شيئًا ما قد تغيّر. نوران، التي كانت تكره السمك، تطلبه الآن!
نوران، التي كانت لا تهدأ، لا تتحرك من غرفة النوم.
لكنها افترضت ببساطة أن السيدة القيسي تُلقي نوبة غضب على زوجها… ولم تُمعن التفكير أكثر.
مرّت بضعة أيام من الراحة والعزلة، وبدأ الانزعاج يتراجع ببطء. كانت نوران تلتزم بتناول الطعام الصحي، الغني بالبروتينات والعناصر اللازمة لتجديد دمها وإعادة التوازن إلى جسدها المنهك. كان ذلك جزءًا من روتين يومي فرضته على نفسها، ليس حبًا في الحياة، بل فقط للنجاة.
كان أحمد يعود كل مساء، يتناول عشاءه بصمت، يغيّر ملابسه، ثم يذهب للنوم دون أن يتبادل معها كلمة واحدة.
ينامان وظهراهما متقابلان، وبينهما سرير واسع كالمحيط.
لم تعرف نوران ما يدور في رأسه، ولم تعد تبالي بما يخفيه قلبه. لم تعد تملك طاقة للحيرة.
لكن شيئًا ما تغيّر ذات صباح، حين نظرت من النافذة ورأت السماء صافية على نحوٍ غريب. توقّعت ألا يعود في وقت قريب، فشعرت بدفعة من الجرأة.
غادرت غرفة النوم لأول مرة منذ أيام، وتوجّهت إلى مكتبه.
كانت تعرف تمامًا أين يحتفظ بوثائقه، وأين تُخبأ أسراره.
لكنها لم تكن تتوقع أن يُقاطعها أحد.
وما إن اقتربت من الباب وأدخلت كلمة المرور، حتى سمعت صوتًا ينادي من خلفها:
“السيدة القيسي!”
تجمّدت في مكانها. كان الصوت صوت السيدة هناء، التي كانت تُعاملها بلطف في الأيام الأخيرة، حتى أعارتها هاتفها كي لا تشعر بانقطاع تام عن العالم. لكن نوران خشيت أن تظنها تتجسس، وتُبلغ أحمد.
لكن هناء اقتربت منها وقالت ببساطة، وكأنها تعرض مساعدة روتينية:
“تم تغيير القفل، يا سيدتي. ستحتاجين إلى بصمة. اسمحي لي.”
ثم مسحت يديها بمئزرها، وضعت إصبعها على الجهاز، وفتح الباب في ثوانٍ.
وقفت نوران مذهولة، عاجزة عن الكلام.
بالنسبة لهناء، كانت هي وأحمد مجرّد زوجين شابين يتشاجران من حينٍ لآخر، لا أكثر. لم تكن تعلم شيئًا عن الظلال التي تسكن هذا البيت.
قالت بصوت خافت:
“شكرًا لكِ.”
ابتسمت هناء وقالت:
“لا داعي، سأعود إلى المطبخ.”
دخلت نوران المكتب بخطوات حذرة. المكان كان كما تتذكره: مرتبًا، نظيفًا، وباردًا.
فتح درجًا صغيرًا، وعثرت على خزنة متوسطة الحجم.
كانت تعرف كلمة المرور قديمًا — تاريخ ميلادها.
ضحكت بسخرية وهي تفكر:
لا شك أنه غيّرها الآن إلى تاريخ ميلاد مرام.
ومع ذلك، جرّبت كلمة المرور القديمة… ونجحت.
توقف قلبها لحظة.
هل ما زالت تحتل مكانًا في ذاكرته؟ أم أنه ببساطة نسي أن يُغيّر الرقم؟
فتحت الخزنة، وعثرت على مجموعة كبيرة من الملفات والمجلدات. وثائق، أوراق رسمية، صور طفولة له ولشقيقته، قصاصات ورقية من ذكريات بعيدة… وكلها محفوظة بعناية.
ثم رأت مجلدًا أحمر عليه عبارة بخط واضح:
“سبب الوفاة.”
مدّت يدها والتقطته بعجلة.
قلبها كان يخفق بجنون، بالكاد استطاعت قراءة الأسطر الأولى، عندما سمعت صوتًا حادًا يقطع سكون الغرفة:
“هل تخلّيتِ عن التظاهر باللطف؟ هل تلجئين إلى السرقة الآن؟”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 25

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top