الفصل 36
عدّت نوران الأرقام بصمتٍ، كما اعتادت أن تفعل في طفولتها عندما تحاول طرد الخوف.
885، 886…
تابعت العدّ بينما أحمد يبتعد دون أن يلتفت، حتى بلغ سيارته.
لم ينظر. لم يتوقف. لم يتردد.
استلقت على الأرض كأنها قطعة من الثلج، مهملة، منسية، بلا صوت ولا صدى.
جسدها كان كومة من التعب، حطامًا خلفه العلاج، والخذلان، والسقوط.
رغم أن الآثار الجانبية للعلاج بدأت تتلاشى، إلا أن جسدها لا يزال هشًا كزجاج تحت وطأة البرد.
المنزل كان فارغًا.
هشام ذهب مع أحمد.
السيدة هناء كانت هنا، لكنها غادرت.
لم يبقَ سوى الثلج والريح والصقيع.
الثلج كان يتساقط كأن السماء تبكي معها.
رياح باردة صفعت وجهها، حتى تنملت أطرافها، وتجمدت يداها وقدماها.
“أرجو من أحد أن يساعدني…”
همستها بالكاد اخترقت هواء الليل.
كانت حقيبتها قريبة، لكنها بعيدة بما يكفي لتكون مستحيلة.
كل ما استطاعت فعله هو أن تحدّق في رقاقات الثلج التي تهبط كالسكاكين.
بدأت الدموع تندمج مع البرد، وهمست:
“887… 888…”
في لحظةٍ ما، لم تعرف كم من الوقت مرّ، لكنها وصلت إلى الرقم 1038، حين شعرت أنها استجمعت ما يكفي لتنهض.
بيدٍ واحدة، دعمت نفسها، ورفعت جسدها بتثاقل.
كل حركة كانت كأنها تحرّك جبالًا داخلها.
نظرت إلى الأعلى، تمتمت بصوت خافت:
“واحدة… أعلى.”
عندما وصلت إلى السيارة، كان أنفها أحمر كالثلج، وشفتيها زرقاوين من البرد.
ذراعها التي أمسكت بها الطفل لم تكن تتحرك.
كانت تتنفس من خلال ألمٍ متراكم، اضطرّت لاستخدام يدها الأخرى لتساعد نفسها على التقاط أنفاسها.
لاحظ السائق ملامحها، فهتف بقلق:
“آنسة، لا بد أنكِ تشعرين بالبرد. هل ستذهبين إلى المستشفى وحدكِ؟ الوقت متأخر… عليكِ أن تكوني حذرة. كثير من القصص انتشرت مؤخرًا، عن نساء مثلكِ… اختفين.”
وضعت نوران يدها المتجمدة على المدفأة.
شعرت ببعض الدفء يعود، لكن قلبها كان أبرد من كل شيء.
نظرت إلى النافذة، إلى العالم الذي يمرّ سريعًا، وقالت بابتسامةٍ لا تشبه الفرح:
“شكرًا لك يا سيدي… لكنني بخير. ستكون عائلتي معي قريبًا.”
كذبة ناعمة.
لم يكن هناك أحد… لا عائلة، ولا أحد.
لحسن الحظ، كان كريم قد أنهى مناوبته.
دخلت المستشفى، متعبة، منهكة.
انتظرت قليلًا، ثم فُتح الباب.
دخل كريم، مرتديًا معطفه الأبيض، رأسه منخفض، ونظارته الفضية تتلألأ تحت الضوء.
ما إن رفع رأسه حتى اصطدم نظره بعينيها.
تغيرت ملامحه في لحظة… من الطبيب المتعب، إلى الرجل القلق، إلى كريم الذي يعرف نوران حق المعرفة.
اقترب منها بخطوات سريعة:
“نوران؟ في هذا الوقت؟ هل حدث شيء؟”
كانت ترتجف، وجهها شاحب، وذراعها تؤلمها.
قالت، وصوتها مخنوق:
“كريم… ذراعي… تؤلمني.”
شهق كريم، ثم اقترب منها سريعًا.
نظر إلى ذراعها — الذراع التي تحمل المنفذ الطبي — وقال بلهجة ممتزجة بالقلق والجدية:
“دعيني أراها حالًا. إن كان المنفذ تحرّك أو ارتخى، فقد يتسبب في أزمة قلبية. الأمر ليس بسيطًا يا نوران… الأمر خطير.”
بدأ بفحصها بدقة.
كانت تتنفس بصعوبة، وعيناها نصف مغمضتين من الألم والإعياء.
مرّت ثوانٍ كأنها ساعات، ثم قال أخيرًا:
“المنفذ لا يزال ثابتًا. الحمد لله.”
أطلق زفرة ارتياح، لكن وجهه ظلّ متوترًا.
فجأة، بصوت ناعم وواثق، قالت نوران:
“كريم… أخرجه.”
رفع نظره نحوها ببطء، كأنه لم يسمعها جيدًا.
“أخرجه؟ نوران… لا، لا يمكن. لا يزال لديكِ جولات علاجية. أنتِ…”
قاطعته بنظرة طويلة، عميقة، كانت مزيجًا من السلام والاستسلام والوداع.
“لقد انتهيت منهم، كريم.”
اقترب منها، صوته بدأ يتكسر:
“ماذا تقولين؟! كنتِ تقاتلين، كنتِ شجاعة. لماذا الآن؟ لماذا التراجع؟!”
رفعت عينيها إليه، فيهما حزن لا تُخطئه عين، لكنه ليس حزنًا متهالكًا، بل حزن امرأة تصالحت مع نهايتها.
نظرت إليه كما لو كانت تودعه دون أن تقول الكلمة.
ثم قالت وهي تمسك بذراعها بخفة، كأنها تحتضن آخر بقاياها:
“كريم… لقد انتهيت منهم. انتهيت من الألم… من الانتظار… من التعلّق بخيطٍ هشٍّ لا يحملني.
لأنني تعبت، كريم. لأني لم أعد أريد أن أُقنع نفسي بأنني قوية…
كل شيء من حولي ينهار، وأنا وحدي.
أنا لا أريد أن أعيش لأكمل العلاج…
أريد أن أعيش لأشعر بأنني على قيد الحياة.
لكن… لا شيء هنا يشعرني بالحياة.
لا أحد.”
أسدل كريم جفنيه، وتنهد طويلًا.
كان يعلم أنها لا تتحدث من ضعف، بل من واقع موجع لا أحد يراه سواها.
ورغم كل شيء… لم يستطع أن يعارضها الآن.