رواية حتى بعد الموت الفصل 37

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 37

لم يكن كريم يعلم ما مرت به نوران في الأيام القليلة الماضية. لقد كانت دومًا امرأة ذات إرادة فولاذية، تشعّ من عينيها شرارة حياة، حتى وهي في أضعف لحظاتها.
أما الآن، فكان في عينيها شيء آخر… شيء مظلم، غريب، حاد.
نظراتها بدت كبرك من مياه راكدة، لا حياة فيها ولا تموجات. فقط عمقٌ ساكن، مخيف.

“هل كان هو؟ هل فعل بكِ هذا؟” سألها كريم، وعيناه تبحثان عن بصيص صدق في عينيها.

هزّت نوران رأسها.
“لا.”

لكنه لم يقتنع.
“لكن له علاقة، أليس كذلك؟ نوران التي أعرفها… لن تتخذ هذا القرار.”

تنهد كريم، وتحول بصره نحو نافذة الغرفة.
الثلج كان يتطاير مع الرياح، يصفع الزجاج وكأنه يواسي وحدتهم.
قال بنبرة حزن خفيّ:
“ربما… أحببتكِ مرة، في أحد شتاءات الماضي. لكن هذا الشتاء، اختار شخصًا آخر. عليكِ أن تدعيه يرحل، يا نوران.”

كانت نظراتها شاردة، كأنها تسمعه ولا تسمعه.
لقد فقدت نفسها في حبٍ لم يُبادلها سوى بالعقاب.
كانت تتشبث بسراب، برجلٍ لم يعد لها، برجلٍ دفن كل ذكرى بينهما تحت ثلوج الخيانة والحزن.

كانت تعرف، في أعماقها، أن أحمد لن يعود.
حتى لو غفر، فلن ينسى.
حتى لو هدأت الكراهية في قلبه، فموت ليا سيظل غصّةً أبدية، تطارده في كل نظرة، كل ذكرى، كل لحظة صمت.

والآن، وقد قرر الزواج من مرام…
قررت نوران أن تستخدم ما تبقى من حياتها لإغلاق هذا الباب تمامًا.
كانت تعرف أن أحمد، مهما حدث، لن يُعقّد الأمور على والدها إذا استعاد وعيه.
وقد كان هذا، بكل ما فيه من ألم، القرار الأكثر نضجًا وهدوءًا بين الجميع.

نظر كريم إلى وجهها من جديد.
كان الألم قد انسحب، واستُبدل بعزيمة نادرة، عزيمة امرأة لم تعد تخاف من النهاية.

“بما أنكِ اتخذتِ قراركِ…” قال كريم، بصوت ثقيل، “فليس لديّ ما أقوله. لكنكِ تعرفين عواقب إزالة المنفذ الطبي. هل أنتِ متأكدة؟”

شعر وكأنه يتمنى أن تتردد، أن تتراجع.
لكنها ابتسمت، تلك الابتسامة التي تأتي بعد الانكسار لا النصر، وقالت:
“نعم. متأكدة.”

خلعت جزءًا من ملابسها، وكشفت عن كتفها الشاحب وذراعها الضعيفة.
الجلد الذي تغطّى يومًا بكدمات العلاج كان قد شُفي، لكن آثاره ما زالت محفورة.

“لن أحتاج لتخدير، كريم. فقط… أنهي الأمر.”

أصرّت على إجراء العملية دون مخدر.
كان إجراءً بسيطًا بالنسبة له، لكنه لم يكن بسيطًا على الإطلاق بالنسبة لها.

ورغم أن المنفذ ما يزال في مكانه، إلا أن السقوط أثناء إنقاذ رُكان سبّب ضررًا داخليًا.
جلدها أزرق تحت الكدمة، والعضلات ضعيفة، متألمة.

بدأ كريم بلمس الجلد بلطف، ثم استخدم المشرط الطبي.
شقّ الجرح القديم الذي بالكاد التأم.
ومع أول لمسة، انتشر ألم خانق في جسدها كتيار صاعق.

قلبها خفق بشدة.
شعرت وكأن كل خلية فيها تصرخ.
لكنها لم تنبس ببنت شفة.

قال كريم بخفة، يحاول التخفيف عنها:
“يمكنكِ الصراخ إذا كان الأمر مؤلمًا.”

هو نفس ما قاله الطبيب لها في المرة الأولى.
لكنها لم تصرخ، لم تبكِ، لم تتنفس بصوت مسموع.
فقط أطبقت على أسنانها، ويدها تقبض على الطاولة الباردة بقوة كأنها تتشبث بالحياة نفسها.

أسرع كريم.
كانت ترتجف، العرق يتصبب منها، ووجهها شاحب كالموت.
وحين بدأ بخياطة الجرح، شعرت بخدرٍ كامل في ذراعها… وفي قلبها.

وبينما كانت مستلقية على الكرسي، غائبة عن الوعي، جلس كريم قربها.
أحضر لها كوب ماء، وراقب وجهها المتعب بتنهيدة ثقيلة.

قال بهدوء:
“نوران، تابعتُ حالة والدك مع طبيبه. هناك احتمال بنسبة 80٪ أن يستفيق، إذا خضع لعملية مع جراح الأعصاب الشهير… ليو.”

ثم أضاف بنبرة حذرة:
“لكني بحثت عنه. ليو اختفى منذ خمس سنوات، بعد حادث غامض. لا أحد يعرف مكانه.”

عادت أنفاس نوران تدريجيًا.
شربت القليل من الماء، واستعادت بعض عافيتها، رغم الألم المشتعل في ذراعها.
بصعوبة نهضت، وكل حركة كانت كأنها تُبعدها أكثر عن الحياة.

قالت بهدوء وهي تتهيأ للرحيل:
“شكرًا لك يا كريم… لا داعي للقلق بعد الآن. لا يهم إن انفصلتُ عن إيثن… هو لم يكن يسمح لي بالتحدث مع رجال أصلاً. لم أعد أريد أن أكون عبئًا، لا عليك، ولا على أحد.”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 38

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top