رواية حتى بعد الموت الفصل 38

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 38
تعثّرت نوران وهي تنهض من الكرسي. لم يكن الجرح هو ما يؤلمها، بل كل شيء آخر.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، شاحبة، وكأنها تسخر من نفسها:
“وقعتُ في حبّه منذ اللحظة التي وقعتُ فيها عليه. أحببته لسنوات طويلة… ولا أستطيع تركه هكذا، ببساطة.”
رأى كريم الدموع تنهمر على خديها ببطء، تنزلق كأنها تشق طريقها على جبال من الصمت والقهر.
أراد أن يمد يده، أن يمسحها عنها، أن يقول شيئًا…
لكن يده بقيت ساكنة، وكلماته حُبست في صدره.
كل ما استطاع فعله هو أن ينظر إليها — ويشهدها تتكسر.
انحدرت دمعة من ذقنها، فابتسمت نوران بسخرية مريرة:
“أعلم… الأمر خانق، لكن فكرة رؤيته يتزوج فتاة أخرى… تؤلمني أكثر من السرطان.
لم يعد لديّ سبب لأعيش، لذلك اخترت الموت بنفسي.”
ثم أضافت، بصوت فيه شيء من الفلسفة، وشيء من الجنون الجميل:
“قرأتُ مؤخرًا عبارة غريبة:
لو علمتِ أن مصيركِ لن يكون مع من تحبين، فهل تختارين أن تعيشي الفرح والألم وتشاهدي النهاية؟ أم تتركين القصة قبل أن تبدأ؟”
ضحكت نوران، تلك الضحكة التي تشبه طقطقة الزجاج المتكسر:
“لو لم أقابله، لاخترت الانسحاب… لكن القدر لا يتركني.
اتفقنا، أنا وهو، أن يرافقني لشهر واحد فقط… بعده، نوقع على النهاية.
ثم، فقط حينها، أنظر حولي، كما تطلبون جميعًا.”
نظر كريم إلى خطواتها وهي تبتعد.
ذراعها معلقة على كتفها الآخر، تمشي بتثاقلٍ كأن الهواء نفسه يقاومها.
لم تلتفت، لكن صوتها جاءه ناعمًا، مختنقًا:
“كريم… شكرًا على كل شيء. أنا لا أستحقك.”
ثم خرجت، وغمرها ليلٌ بارد، وعاصفة ثلجية كانت تعصف في الخارج.
ظلّها تلاشى في الأفق، كما لو أنها لم تكن.
لم يرد كريم أن يتركها تذهب.
لكنه فعل.
وقف عند النافذة، يراقبها تختفي.
طَرف شفته ارتجف بابتسامةٍ عاجزة.
“لماذا كانت مُلحّة هكذا؟ هل كان يستحق كل هذا الألم؟”
في عينيه، رآها أشبه بكاهنةٍ متدينة، تبحث عن رؤية، عن مكانٍ مقدّس…
مكان لم يكن موجودًا أبدًا.
عندما عادت نوران إلى منزل القيسي، كانت الأضواء مضاءة.
كان القصر دافئًا، مريحًا، كأنه يرفض أن يعترف أن شيئًا تغيّر.
نظرت إليه وسط الثلج المتراكم، وتذكّرت…
قبل ثلاث سنوات، كان المكان ينبض بالحياة، واليوم… ينبض بالوحدة.
دفءٌ لفح وجهها لحظة فتح الباب.
نزعت حذاءها بصمت، وعيناها تتبعان أصوات المطبخ.
هناك… كان أحمد.
كما جرت العادة، كان موجودًا.
يرتدي سترة رمادية من الكشمير، وأكمامها مطوية حتى الساعد، تُظهر عضلات ساعديه التي توترت وهو يقطع الخضار بدقة.
على ذراعه اليسرى… تلك الندبة الطويلة، القبيحة، شاهدة على تلك الليلة حين حماها من رجل بلطجي، اندفع نحوها بسكين.
اقتربت بهدوء، دون أن تنطق، ودفنت رأسها في ظهره.
توقف فجأة، الملعقة تجمدت في يده.
أطفأ الموقد، وظل واقفًا، لم يلتفت.
قال، بصوت خافت:
“أين ذهبتِ؟”
“في المستشفى، بسبب ذراعي.”
كان يعلم.
يعلم أن السقوط لم يكن عاديًا.
وأنها — برغم كل شيء — لم تكن لتؤذي رُكان أبدًا.
لم يصدّق مرام.
ولم يكن بحاجة ليشرح لها ذلك.
قال بهدوء:
“شكرًا لكِ على ما فعلته اليوم… رُكان بخير.”
جمُدت نوران مكانها.
“شكرًا”…
كانت هذه أول مرة يشكرها فيها.
وللمفارقة، كانت كلماته كالسهم في صدرها.
“شكرًا” لم تكن اعترافًا، بل كانت مسافة.
كانت محاولة لإبقاء الجرح نقيًا، دون أن يزداد عمقًا.
أرادت أن تقول له:
“أحمد، ذهبتُ لأخيط ذراعي… ما زالت تؤلمني. هل يمكنك أن تخفف الألم عني، كما كنت تفعل؟”
لكنها لم تتكلم.
نظرت إلى ظهره، إلى قامته الطويلة، وتمتمت في نفسها:
“ما الذي يجب أن أشكره عليه؟
أنا أكره هذا الوغد الصغير.
أنا، من بين كل الناس…
أتمنى لو أنه أصيب بأذى.”

الفصل 38
تعثّرت نوران وهي تنهض من الكرسي. لم يكن الجرح هو ما يؤلمها، بل كل شيء آخر.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، شاحبة، وكأنها تسخر من نفسها:
“وقعتُ في حبّه منذ اللحظة التي وقعتُ فيها عليه. أحببته لسنوات طويلة… ولا أستطيع تركه هكذا، ببساطة.”
رأى كريم الدموع تنهمر على خديها ببطء، تنزلق كأنها تشق طريقها على جبال من الصمت والقهر.
أراد أن يمد يده، أن يمسحها عنها، أن يقول شيئًا…
لكن يده بقيت ساكنة، وكلماته حُبست في صدره.
كل ما استطاع فعله هو أن ينظر إليها — ويشهدها تتكسر.
انحدرت دمعة من ذقنها، فابتسمت نوران بسخرية مريرة:
“أعلم… الأمر خانق، لكن فكرة رؤيته يتزوج فتاة أخرى… تؤلمني أكثر من السرطان.
لم يعد لديّ سبب لأعيش، لذلك اخترت الموت بنفسي.”
ثم أضافت، بصوت فيه شيء من الفلسفة، وشيء من الجنون الجميل:
“قرأتُ مؤخرًا عبارة غريبة:
لو علمتِ أن مصيركِ لن يكون مع من تحبين، فهل تختارين أن تعيشي الفرح والألم وتشاهدي النهاية؟ أم تتركين القصة قبل أن تبدأ؟”
ضحكت نوران، تلك الضحكة التي تشبه طقطقة الزجاج المتكسر:
“لو لم أقابله، لاخترت الانسحاب… لكن القدر لا يتركني.
اتفقنا، أنا وهو، أن يرافقني لشهر واحد فقط… بعده، نوقع على النهاية.
ثم، فقط حينها، أنظر حولي، كما تطلبون جميعًا.”
نظر كريم إلى خطواتها وهي تبتعد.
ذراعها معلقة على كتفها الآخر، تمشي بتثاقلٍ كأن الهواء نفسه يقاومها.
لم تلتفت، لكن صوتها جاءه ناعمًا، مختنقًا:
“كريم… شكرًا على كل شيء. أنا لا أستحقك.”
ثم خرجت، وغمرها ليلٌ بارد، وعاصفة ثلجية كانت تعصف في الخارج.
ظلّها تلاشى في الأفق، كما لو أنها لم تكن.
لم يرد كريم أن يتركها تذهب.
لكنه فعل.
وقف عند النافذة، يراقبها تختفي.
طَرف شفته ارتجف بابتسامةٍ عاجزة.
“لماذا كانت مُلحّة هكذا؟ هل كان يستحق كل هذا الألم؟”
في عينيه، رآها أشبه بكاهنةٍ متدينة، تبحث عن رؤية، عن مكانٍ مقدّس…
مكان لم يكن موجودًا أبدًا.
عندما عادت نوران إلى منزل القيسي، كانت الأضواء مضاءة.
كان القصر دافئًا، مريحًا، كأنه يرفض أن يعترف أن شيئًا تغيّر.
نظرت إليه وسط الثلج المتراكم، وتذكّرت…
قبل ثلاث سنوات، كان المكان ينبض بالحياة، واليوم… ينبض بالوحدة.
دفءٌ لفح وجهها لحظة فتح الباب.
نزعت حذاءها بصمت، وعيناها تتبعان أصوات المطبخ.
هناك… كان أحمد.
كما جرت العادة، كان موجودًا.
يرتدي سترة رمادية من الكشمير، وأكمامها مطوية حتى الساعد، تُظهر عضلات ساعديه التي توترت وهو يقطع الخضار بدقة.
على ذراعه اليسرى… تلك الندبة الطويلة، القبيحة، شاهدة على تلك الليلة حين حماها من رجل بلطجي، اندفع نحوها بسكين.
اقتربت بهدوء، دون أن تنطق، ودفنت رأسها في ظهره.
توقف فجأة، الملعقة تجمدت في يده.
أطفأ الموقد، وظل واقفًا، لم يلتفت.
قال، بصوت خافت:
“أين ذهبتِ؟”
“في المستشفى، بسبب ذراعي.”
كان يعلم.
يعلم أن السقوط لم يكن عاديًا.
وأنها — برغم كل شيء — لم تكن لتؤذي رُكان أبدًا.
لم يصدّق مرام.
ولم يكن بحاجة ليشرح لها ذلك.
قال بهدوء:
“شكرًا لكِ على ما فعلته اليوم… رُكان بخير.”
جمُدت نوران مكانها.
“شكرًا”…
كانت هذه أول مرة يشكرها فيها.
وللمفارقة، كانت كلماته كالسهم في صدرها.
“شكرًا” لم تكن اعترافًا، بل كانت مسافة.
كانت محاولة لإبقاء الجرح نقيًا، دون أن يزداد عمقًا.
أرادت أن تقول له:
“أحمد، ذهبتُ لأخيط ذراعي… ما زالت تؤلمني. هل يمكنك أن تخفف الألم عني، كما كنت تفعل؟”
لكنها لم تتكلم.
نظرت إلى ظهره، إلى قامته الطويلة، وتمتمت في نفسها:
“ما الذي يجب أن أشكره عليه؟
أنا أكره هذا الوغد الصغير.
أنا، من بين كل الناس…
أتمنى لو أنه أصيب بأذى.”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل رواية حتى بعد الموت الفصل 39

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top